مشوار التونسيين نحو الاستقلال والحرية لم يكن سهلًا، إذ تشكّلت أحزاب وجمعيات ونقابات وصحف لتحقيق هذه الغاية، وبرز عدة زعماء لقيادة معارك التحرّر ضد المستعمر الفرنسي، وذلك على غرار الشيخ عبد العزيز الثعالبي وفرحات حشاد وصالح بن يوسف والهادي شاكر وعبد الرحمان مامي والحبيب ثامر.
شعبيًّا، كانت هناك فئة من المقاومين الذين يعود لهم الفضل الكبير في استقلال البلاد، إذ تمكنوا من دحر الاستعمار الفرنسي عام 1952 خلال 4 سنوات فقط رغم نقص السلاح، حيث كانوا يؤمنون بقضيتهم الصادقة وبحقّهم في النضال، وكان ذلك سلاحهم الأقوى الذي لا يمتلك الفرنسيون له مثيلًا.
مع ذلك تنكرت لهم دولة الاستقلال، وعمل الرئيس الأول للبلاد الحبيب بورقيبة على تهميشهم وإذلالهم، خشيةً من انضمامهم إلى صفّ “صديقه القديم” صالح بن يوسف الذي ينازعه ويزاحمه على الحكم، فوصفهم بـ”الفلاڨة”، إسوة بالمستعمر الفرنسي.
اختار لهم لفظ ” الفلاڨة” تماشيًا مع الفرنسيين بعد أن كان يطلق عليهم “المجاهدين”، و”الفلاڨ” في اللغة العربية تعني “قاطع طريق”، وهي مشتقة لغويًّا من “فلق” (حسب “لسان العرب” لابن منظور) وتعني “شقَّ” واصطلاحًا تعني “شقَّ عصى الطاعة وتمرّد”، أما باللغة الفرنسية فتعني “الخارج عن القانون”.
دخلت هذه الكلمة اللغة الفرنسية قبل الحرب العالمية الأولى، وتمّ استعمالها كما بيّنا لتشويه المقاومين التونسيين، ثم اُستعملت لتشويه المجاهدين السنوسيين في شرق ليبيا فترة 1911-1942، الذين ناضلوا للحصول على استقلال بلادهم.
محطات هامّة
بدأت المقاومة المسلحة مع وصول أول جندي لتونس وتوقيع معاهدة الحماية يوم 12 مايو/ أيار 1881، وقاد آنذاك علي بن خليفة (1807-1885) المقاومة ضدّهم، خاصة في مدينتَي صفاقس وقابس، رغم أنه كان مسؤولًا معيّنًا من قبل الباي الذي وافق على الاحتلال الفرنسي.
بعد وفاة ابن خليفة، حمل محمد الدغباجي (1885-1924) المشعل عنه، وكان أحد أشهر المقاومين في تونس الذين ما زالت الذاكرة الشعبية تحتفظ ببطولاتهم التي رسّختها أيضًا أشعار وأغاني حول مسيرته، وتم إعدامه بمدينة الحامة مطلع مارس/ آذار 1924.
في الأثناء، تشكّلت صحف محلية لإنارة الرأي العام التونسي وتثقيفه وتعريفه بقضيته الوطنية، وكانت البداية بجرائد “الحاضرة” و”الزهرة” و”سبيل الرشاد”، ثم تشكّلت الجمعيات وبدأت بجمعية الخلدونية (1896) نسبة إلى العلامة عبد الرحمن بن خلدون، وجمعية قدماء الصادقية (1905).
ساهمت الصحف والجمعيات في نمو الوعي الوطني بتعريف المجتمع التونسي إلى مبادئ الحرية وسلبيات الاحتلال ودولة الاستعمار، وهو ما فتح الطريق أمام ولادة حركة الشباب التونسي عام 1907، وهي حركة إصلاحية تُناهض الوجود الفرنسي في تونس، ومن أبرز قادتها علي باش حانبة.
حمل عام 1920 معه تأسيس أول حزب وطني بالبلاد التونسية على يد الشيخ عبد العزيز الثعالبي وثلّة من رفاقه، وكان ذلك في مارس/ آذار، وهو الحزب الحر الدستوري التونسي، والذي يعتبر تطورًا لحركة الشباب التونسي التي نشطت وقُمعت قبيل الحرب العالمية الأولى.
لم يكن النضال سياسيًّا فقط، إنما عمّاليًّا أيضًا، إذ تأسّست جامعة عموم العملة التونسيين الأولى عام 1924، وهي أول مركزية عمّالية في العالم العربي تُعنى بالطبقة العاملة وتدافع عن حقوق العمال، وكان على رأسها محمد علي الحامي.
في نهاية عشرينيات القرن الماضي خمدت قوة الحركة الوطنية في تونس قبل أن تستعيد قوتها مجددًا منتصف الثلاثينيات، وهي مرحلة هامة في تاريخ تونس المعاصر والحركة الوطنية، وذلك لما شهدته من تحولات نوعية اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، ما أثّر بشكل واضح على العمل السياسي.
طالب الحزب الدستوري الجديد عام 1938 ببرلمان تونسي وحكومة وطنية وبسقوط الامتيازات، فواجهته سلطة الاستعمار بالقوة، ما دفع بعض قادة الحزب إلى توخّي الحذر بالعمل السرّي، وبعضهم الآخر إلى السفر خارج البلاد للتعريف بالقضية التونسية وتدويلها، وإخراجها من نطاق العلاقات الثنائية الفرنسية التونسية.
تيقّن قادة الحركة الوطنية أن العمل السياسي لوحده لن يفي بالحاجة، ولن يجبر فرنسا على ترك البلاد وحالها، فكان من البعض منهم أن اقترح العمل العسكري والثورة ضدّ المستعمر الفرنسي، لإجباره على منح تونس استقلالها الكامل.
الثورة المسلحة
في الوقت الذي كان فيه التونسيون ينتظرون تفاعل قادة الاستعمار مع مطالبهم، عيّنت سلطات الاحتلال مقيمًا عامًّا جديدًا يُدعى جان دي هوتكلوك، معروف بتشدده وتعصّبه، وقد بادر حال وصوله إلى تونس يوم 13 يناير/ كانون الثاني 1952 إلى إصدار قرارات بحظر الاجتماعات العامة والتظاهر، ومنع الحزب الدستوري الحر الجديد من عقد مؤتمره المقرر ليوم 18 يناير/ كانون الثاني 1952، فضلًا عن اعتقال عدد من القادة الوطنيين.
دعا الحزب الدستوري الجديد، والاتحاد العام التونسي للشغل، إضافة إلى عدد من المنظمات الشبابية والكشفية والطلابية والنسائية، إلى الثورة المسلحة ضدّ المستعمر الفرنسي، رغم الفوارق الكبيرة في موازين القوى بين الطرفَين، وظهرت أول نواة للمقاومة من خلال العروش القَبَلية وفي الفضاءات الريفية عمومًا.
كان هدف المقاومة واضحًا من البداية، وهو تحقيق ما عجزت عنه الأحزاب السياسية، ونعني بذلك استقلال البلاد التونسية وخروج المستعمر الفرنسي منها، وجهّزت لذلك كثيرًا من خلال الاجتماعات السرّية في العاصمة وصفاقس وقفصة وقابس ومناطق أخرى من البلاد.
كانت هناك مجموعات ضمن المقاومة تأتمر مباشرة من الحزب الدستوري الجديد وتعمل وفق توجيهاته، وكانت هناك مجموعات أخرى تعمل بصفة فردية لكن هدفها كان واضحًا، وهو الحصول على استقلال البلاد التونسية.
وفق وزارة الدفاع التونسية، بدأت نواة المقاومة المسلحة بالتشكُّل بين 20 يناير/ كانون الثاني و15 مارس/ آذار 1952 بمنطقة الأعراض (حامة قابس)، وتحولت تدريجيًّا لتشمل منطقة شمال وغرب البلاد التونسية، نتيجة للقمع العسكري الذي لاقاه المقاومون.
تذكر وزارة الدفاع التونسية أيضًا أن تطور شعبية المقاومة كان نتيجة للزخم ودعم الأهالي لها ماديًّا عبر التبرع بالمال والممتلكات ولوجستيًّا، فضلًا عن إخفاء المقاومين وتهريب الأسلحة وإخفائها وتسهيل فرار المطارَدين، وكذلك مدّهم بالغذاء والمؤن والعتاد والمعلومات.
تلقى المقاومون التونسيون السلاح من ليبيا والجزائر أيضًا، وهو ما ساعدهم على تحقيق أهدافهم المرسومة، ذلك أن الروابط بين تونس وليبيا والجزائر كانت قوية والحدود بينهم مفتوحة، ما أثقل كاهل المستعمر الفرنسي.
لضمان النجاح وعدم تكرار تجربة ثورة 1881، انتظم المقاومون في مجموعات صغيرة تمركزت أغلبها في المناطق الجبلية الوعرة في غرب البلاد، وتمّ إحصاء 3 آلاف مقاوم عام 1953، وبلغت عمليات المقاومة 134 عملية بين عامَي 1953 و1954.
اختار المقاومون الجبال لبداية عملياتهم العسكرية ضدّ المحتل، لصعوبة تضاريسها وعدم تمكُّن الجيش الاستعماري الفرنسي من الوصول إليها بسهولة، وأيضًا لترابطها مع الجزائر وذلك حتى تصبح عملية الحصول على السلاح القادم من الجارة الغربية أسهل.
من أهم معارك المقاومة التونسية، معركة “جبل مطير” (بين بني خداش وغمراسن في جنوب تونس)، وفيها استعمل الجيش الفرنسي العتاد الثقيل كالطائرات والدبابات، وخلالها استشهد مقاومون تونسيون مقابل مقتل العشرات بين جنود فرنسيين ومتعاونين.
نتذكر أيضًا معركة “سيدي عيشة”، وخلالها قتل المقاومون التونسيون 130 جنديًّا فرنسيًّا، وأسقطوا طائرة تحمل 4 جنرالات، فيما استشهد 10 مقاومين في الميدان و3 أسرى تمّ الإجهاز عليهم فيما بعد من قبل جنود المستعمر الفرنسي.
اعتمد المقاومون التونسيون تكتيك حرب العصابات والمدن، وقطع طرق الاتصال والنقل، والإضرار بالمؤسسات والممتلكات الحكومية، وكذلك الملكيات الزراعية للمعمرين والمتعاملين مع الاستعمار، الأمر الذي لم تستعد له فرنسا مسبقًا.
يعدّ عام 1954 عامَ الحسم، حيث بلغت المقاومة التونسية المسلحة ذروتها، وانتشرت في أغلب مناطق البلاد، مكبِّدة المستعمر الفرنسي خسائر كثيرة في الجند والعتاد، وهو ما دفع السلطات الاستعمارية إلى إعادة ترتيب أوراقها.
من أبرز قادة المقاومة نجد الأزهر الشرايطي، وهو من مدينة قفصة في جنوب البلاد، من أسرة تمتهن الفلاحة في بيئة فقيرة، وقبل المشاركة في حرب التحرير التونسية، لبّ الشرايطي نداء شيخ الأزهر في ربيع 1948 للنفير للجهاد المقدس في فلسطين.
على إثر اجتماع قادة المقاومة في ربيع 1954، تمّ انتخاب الأزهر الشرايطي قائدًا عامًّا لجيش التحرير، فخاض عدة معارك مع المستعمر الفرنسي وكبّده خسائر فادحة، ولعلّ من أبرز تلك المواجهات معركة “السلوم” ومعركة “سيدي عيش” ومعركة “عرباطة” ومعركة “الرديف” ثم معركة “سيدي عيش الثانية”.
بداية التنكُّر للمقاومين
تحت فوّهة السلاح، اضطرت فرنسا صاغرة للاستجابة لبعض مطالب التونسيين، فقبلت بالتفاوض بعد أن رفضت الأمر في البداية، ومنحت تونس استقلالها الداخلي في يونيو/ حزيران 1955، وفي مخيّلتها أن ذلك سيُسكت أفواه التونسيين وسيُرضي طموحهم.
صحيح أن بعض القادة السياسيين رضوا بالأمر، وكبّروا له، على غرار الحبيب بورقيبة، لكن أغلب المقاومين عرفوا أن في المسألة مكيدة، خاصة أن سلطات الاستعمار اشترطت بالاتفاق مع الحركة الوطنية أن يسلّم المقاومون أسلحتهم.
وقع الاتصال بالمقاومين، وتمّ إقناعهم بطرق عديدة بضرورة تسليم السلاح، فتمَّ ذلك بشرط ضمان حقوق المقاومين وتقسيم الثروة على كامل أفراد الشعب التونسي، لكن الحبيب بورقيبة الذي حكم البلاد بعد الاستقلال تنكّر لهم وهمّشهم.
ادّعى حبيب بورقيبة أنه هو من جلب الاستقلال للبلاد، وأن دور المقاومين كان ثانويًّا، وقد انعكس هذا التفكير على قادة الحزب الدستوري الحر الجديد والذين معه، على خلاف القائد صالح بن يوسف الذي كان يرى أن الفضل في الاستقلال يعود إلى المقاومين.
ضاقت الأرض بما رحبت على المقاومين بعد الاستقلال، فالخوف من تنامي حراك الثوار وتوسُّع شعبيتهم سكنَ بورقيبة، ما دفعه إلى إطلاق يد أعوانه مستعينًا بالفرنسيين ضدّ كل المقاومين، فانطلقت الاعتقالات والإعدامات الميدانية في صفوفهم، فيما تمّ تهجير عدد منهم نحو ليبيا والجزائر.
حوّل بورقيبة أغلب المقاومين من مقاومين صنعوا الاستقلال إلى متمردين خائنين يهدّدون أمن الوطن، خاصة أن عددًا هامًّا منهم اختار الاصطفاف إلى جانب السياسي صالح بن يوسف، الذي اغتاله بورقيبة في ألمانيا عام 1963.
بدأ المقاومون، أو كما يحلو لبورقيبة تسميتهم “الفلاڨة”، معركة الخلاص ضد فرنسا الاستعمارية، فسقط الكثير منهم بين شهيد وأسير في عدة معارك عنيفة أدت إلى استقلال تونس، لكن بورقيبة تنكّر لهم وقزّم دورهم ومارسَ بحقّهم سياسة الانتقام، عبر تخوينهم ومحاكمتهم وإعدام قياداتهم.