لم يترك القصف الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة منذ أكثر من 3 أشهر، أي مساحة آمنة حتى للأطفال، بل على العكس، 70% من الضحايا بحسب إحصائيات وزارة الصحة في قطاع غزة من الأطفال والنساء.
يواجه الأطفال، في غزة، الموت يوميًا وبصور عدة، أمام هجمات عشوائية تشنها “إسرائيل” بلا هوادة للشهر الثالث على التوالي، ومن ينجو منهم، يعيش فصولًا من الحرمان وظروفًا إنسانية وصحية مأساوية تفوق قدراتهم وأعمارهم، كما يحرمون من حقوقهم الأساسية كالدواء والغذاء ومياه الشرب، وهو ما يضرب بعرض الحائط كل العهود والاتفاقيات والأعراف الدولية والحقوقية الخاصة بسياسة الحروب.
وبحسب منظمات دولية، فإن أكثر من 18 ألف طفل أصيبوا بجروح مختلفة في هجمات إسرائيلية، توصف حالات مئات منهم بالحرجة، فيما تعرض العشرات لبتر أطرافهم، فضلًا عن تعرض المئات لحروق شديدة في مناطق متفرقة من أجسادهم، وما يقارب 24 إلى 25 ألف طفل فلسطيني في قطاع غزة باتوا أيتامًا جراء استشهاد أحد أو كلا والديهم، بينما دُمرت أو تضررت منازل نحو 640 ألفًا منهم، ما تركهم دون مأوى.
يفقد أكثر من 10 أطفال في المتوسط إحدى ساقيهم أو كلتيهما يوميًا، مع استمرار الحرب في غزة منذ ثلاثة أشهر، في حين تجرى العديد من عمليات البتر والتدخلات الجراحية دون تخدير، وفقًا لمعطيات كشفتها منظمة “إنقاذ الطفولة”، كما أن نحو 1000 طفل فقدوا إحدى ساقيهم أو كلتيهما منذ اندلاع الحرب الأخيرة في قطاع غزة، حيث تكتظ المستشفيات بآباء وأطفال يحملون “جروح الحرب المروعة”.
نقلت المنظمة عن منسقها في فلسطين جيسون لي قوله إنّ معاناة الأطفال في قطاع غزة لا يمكن تصورها، مضيفًا أنّ قتل الأطفال وتشويههم مدان باعتباره انتهاكًا خطيرًا ضد الأطفال، داعيًا إلى محاسبة مرتكبي هذه الانتهاكات.
ويكون البتر هو الخيار الوحيد لأن الأطفال المصابين يصلون إلى المستشفى بعد أيام من الإصابة، وقال المتحدث باسم يونيسف، جيمس إلدر، إنه رأى طفلًا بدأت ساقه اليسرى المصابة تتقيح لأن السبل تقطعت به في حافلة لأكثر من ثلاثة أيام بسبب التأخير عند نقطة تفتيش عسكرية.
وفي مشهد بات يتكرر كل يوم، يرتعد مئات الأطفال خوفًا ووجعًا داخل غرف المستشفيات من قسوة ما اختبروه من جروح وعدم قدرتهم على استيعابه لقوته وشدة أثره، فداخل مستشفى الشفاء الطبي، بمدينة غزة، تجرى العديد من العمليات الصعبة بالنسبة للطواقم الطبية، إحداها للطفلة سلمى الملفوح (10 سنوات)، التي تمكنت من النزوح من مخيم جباليا الذي تعرض لمجازر عديدة، ما أدى إلى استشهاد والدها وبتر قدمها اليسرى في 5 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، من دون استخدام المخدر.
تخضع سلمى اليوم مع والدتها المصابة بحروق بالوجه، للعلاج عبر مسكنات ومضادات حيوية متوافرة أحضرها الأطباء بصعوبة، وتم وضعها في المحلول الملحي لتخفيف بعض الآلام، لكنها بحاجة إلى مسكنات أقوى، كما أنها تطمح للسفر إلى الخارج وتوفير طرف صناعي يساعدها على المشي قبل أن تأتي المدرسة، وفق أمنياتها.
معاناة مضاعفة
بدوره، قال الدكتور عدنان البرش، مدير قسم العظام في مستشفى الشفاء، إن 80% من الحالات التي وصلت إلى المستشفيات، منذ بداية العدوان إلى اليوم، كانت لأطفال تحت عمر 5 سنوات، جُلّهم حروق شديدة جدًا وأطراف مبتورة، لأن جيش الاحتلال يستخدم أسلحة جديدة لم يسبق لهم أن شاهدوا لها مثيلًا ولم يعهدوها من قبل.
ويوضح أن حالات البتر متزايدة بسبب استخدام الاحتلال أسلحة محرمة دوليًا، تتسبب في تفتت العظام وخلايا الجسم من شدة الانفجارات الحاصلة في المباني، قائلًا: “هذه الجروح المفتوحة تعد بيئة خصبة للبكتيريا، ما يؤدي إلى الإصابة بالغرغرينا، ودخول الذباب إلى الجروح، وأشار إلى أن المصابين المبتورين “يأكلهم الدود والالتهابات وهم أحياء، ما يسبب تعفن الدم والأعضاء الداخلية والموت ببطء”.
وتفيد وزارة الصحة بغزة، عبر بيانات لها، أن أعدادًا كبيرة من أصناف الأدوية الضرورية لا تتوافر في قطاع غزة، ومن ضمنها أدوية الطوارئ وأدوية غرف العمليات التي يتم استخدام المتاح فيها، وهو أقل مما تتطلبه أي حالة مرضية، وبالتالي فإن العلاج خارج القطاع هو الحل الوحيد، وفي حال عدم تحويل المصابين الغزيين للعلاج في الخارج ستكون هناك حالات بتر جديدة في مستشفيات القطاع”.
يحتاج المرضى إلى العلاجات الأساسية، مثل المضادات الحيوية والمسكنات، من أجل إتمام المرحلة الأولى من العلاج الذي يتم فيها القضاء على أي التهابات جانبية أو داخلية، وهم في نفس الوقت بحاجة إلى أدوية مقوية ومعقمات ومطهرات تستخدم بشكل يومي، إضافة إلى أدوية إعادة تماسك العظام، والأدوية الخاصة بالأعصاب، وجميعها غير متوافرة في مستشفيات القطاع رغم الحاجة لها بشكل أساسي.
من يتعرّض من الأطفال لبتر أطراف تُضاف له معاناة أخرى، إلى جانب معاناة نقص العلاج ومسكنات الألم، فالطاقة الاستيعابية لمستشفيات قطاع غزة تقف عاجزة عن إيواء الأعداد الهائلة من الجرحى لحين تماثلهم للشفاء، وتضعهم في كثير من الأحيان أمام المفاضلة لصالح مصابين جدد، ما يدفع الأهالي إلى الخروج لأماكن النزوح التي لا تعد بيئة آمنة لجروح هؤلاء الأطفال، من حيث الرطوبة وانتشار العدوى، كما لا يتوافر الغذاء المناسب لأجسادهم النحيلة.
يشير الطبيب البريطاني، كريس هوك، بعد عودته من قطاع غزة، إلى أن “عددًا من الأطراف التي كان قد تم إنقاذها ستتطلب البتر، وعددًا من الذين بترت أطرافهم والأطراف التي نعتقد أنه تم إنقاذها قد يموتون بسبب العواقب طويلة الأمد، كما أن كثيرين أصيبت جروحهم بعدوى عندما عادوا من أماكن نزوحهم إلى العيادات لتغيير الضمادات في رفح”.
كذلك بعض من تعرضوا لعمليات بتر بسبب الحرب سيحتاجون إلى ما يصل إلى 12 عملية جراحية لأطرافهم حتى مرحلة البلوغ لأن العظام تستمر في النمو.
حقوق مفقودة.. تذكرة سفر وطرف صناعي
على الجانب الآخر، باتت “الأطراف الصناعية” أحلام هؤلاء الأطفال وعائلاتهم، بعدما بعثرت الحرب حياتهم، وتعدت شراسة المحتل على براءتهم بأبشع صور الاعتداء، وأصبحوا يواجهون مختلف أنواع الحرمان حتى من أبسط الضمانات والحقوق، ورغم بساطة ما يطلبونه ويحتاجونه، فإنه أصبح بعيد المنال، خاصةً بعدما دمر الاحتلال، في الأيام الأولى للعدوان، المركز الرئيسي للأطراف الاصطناعية في القطاع، وهو مستشفى حمد الذي تموله قطر في مدينة غزة، ويشكل السفر إلى الخارج، رغم المستحيلات، بارقة أمل لهؤلاء الأطفال.
أصيب الطفل مؤيد حمد (9 سنوات) بشظايا وحروق من صواريخ طالت جسده وسلبت منه عائلته وأشقاءه، في قصف استهدف مربعًا سكنيًا في شمال غزة، وأدت الإمكانات الضعيفة في مستشفيات شمال غزة إلى بتر ساقه اليسرى من تحت الركبة في البداية، وبعد إجلاء مؤيد من المستشفى مع غيره من المرضى والجرحى إلى مستشفيات جنوب غزة تم بتر جزء آخر من الساق بعد تدهور وضعه الصحي.
ويأمل الطفل الذي حصل أخيرًا على موافقة للسفر، أن يضع حدًا لآلامه بعد سفره للعلاج خارج غزة، فهو يستعد بعد عبور معبر رفح للسفر إلى تركيا للعلاج أسوة بغيره ممن تم تحويلهم للعلاج في مستشفيات بمصر والإمارات وتركيا وقطر وغيرها.
“من يرشَّح من الجرحى للعلاج بالخارج كمن تعود إليه الحياة بعد الموت، لأن الانتظار الطويل في غزة يعني الموت البطيئ الحتمي، سواء بقي الشخص على قيد الحياة يرافقه الألم أم فارق الدنيا”، يقول أحد أقارب الطفل حمد.
وعلى الرغم من وجود آلاف المرضى والجرحى ممن يحتاجون تدخلًا علاجيًا عاجلًا خارج غزة، لا تزال الأعداد التي تغادر عبر معبر رفح محدودة للغاية، قياسًا بالواقع الطبي المنهار للقطاع والحاجة الماسة لذلك، وتقتصر على الموجودين في جنوب القطاع أو من تم نقلهم في وقت سابق إلى الجنوب، إذ لم يُسمح مؤخرًا بنقل أي حالات جديدة من غزة والشمال إلى الجنوب لتضمينها في كشوفات المحوَّلين للعلاج بالخارج.
وثقت وزارة الصحة في غزة تمكن 491 جريحًا و214 مريضًا من المرور عبر معبر رفح إلى مصر للعلاج، وهو ما يشكل أقل من 1% من إجمالي جرحى الحرب، ويقدر عددهم بأكثر من 50 ألفًا.
وأوضح صلاح عبد العاطي، رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، أن حركة مغادرة المرضى والجرحى تتسم بالبطء الشديد وتخضع لقيود الاحتلال التعسفية، نظرًا للحاجة إلى الموافقة الأمنية من جيش الاحتلال على كل اسم شخص يحاول السفر للعلاج.
وأضاف لـ”نون بوست”، أن الأطفال في قطاع غزة يعانون من جريمة إبادة جماعية، فالأطفال يمثلون نصف المجتمع الفلسطيني بواقع مليون و150 ألف طفل وطفلة، وتعرض جزء كبير منهم للقتل أو الجرح، يصل إلى أكثر من 10 آلاف طفل من أصل 32 ألف شهيد ومفقود، وتقريبًا نصف المفقودين من الأطفال.
عدا عن أن كل يوم يُبتر أعضاء من 10 أطفال في ظل الإصابات الكثيفة، هؤلاء يحتاجون علاجًا غير موجود في قطاع غزة، لا سيما بعد خروج أكثر من 30 مستشفى عن الخدمة، إضافة إلى الضغط الكبير على الأطقم الطبية في مستشفيات جنوب قطاع غزة، المهددة بالإخلاء، لذلك المطلوب المسارعة في إجلاء الجرحى وخاصة الأطفال، لأن هناك حاجة لإجلاء 8000 جريح بينهم أكثر من 2000 طفل، يحتاجون إلى تدخل عاجل ونقلهم للمستشفيات خارج الأراضي الفلسطينية لتلقي الخدمات الطبية.