أثار الدور الفرنسي المشبوه في ليبيا قلق العديد من الأطراف الليبية، والعديد من الدول أيضًا خاصة إيطاليا والجزائر، وإن لم يعبرا عن ذلك صراحة فقد عبّرتا عنه ضمنيًا بعدم مباركتهما الاتفاق الأخير بين رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج واللواء المتقاعد خليفة حفتر في باريس بإشراف ووصاية فرنسية.
اتفاق الأخوة الأعداء
اتفاق فايز السراج الذي يصر على وجوب تبعية وخضوع القيادة العسكرية لسلطة المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق وخليفة حفتر المعين من مجلس النواب المنعقد بطبرق على رأس القوات في شرقي البلاد، يؤكد حسب العديد من الخبراء الدور المتنامي لفرنسا في ليبيا، رغم أن باريس كانت حاضرة هناك ولم تغب حتّى مع تغيّر الحكومات والرؤساء.
فالدور الفرنسي كان حاضرًا وبقوة في الشأن الليبي في عهد ساركوزي، وكان لفرنسا دور كبير في حصول أغلبية في مجلس الأمن للقرار 1970، الذي كانت هي أيضًا وراءه، كما أن الدور الفرنسي كان حاضرًا منذ بدء الأحداث في بنغازي ومصراته، وكذلك قيام فرنسا بالضربات الأولى على ليبيا واعترافها الرسمي كأول دولة بالمجلس الانتقالي.
يقر الاتفاق وقف إطلاق النار وإجراء انتخابات
وبعد طول صراع ورفض متبادل للقاء، تعهّد الأخوة الأعداء (السراج وحفتر) في إحدى ضواحي باريس، الثلاثاء الماضي، على العمل سويًا لإخراج بلادهما من الفوضى ودعوا في بيان وقع بإمضائهما وتضمن عشر نقاط لوقف إطلاق نار لا يشمل مكافحة الإرهاب وإجراء انتخابات بالتعاون مع المؤسسات المعنية، وبدعم وإشراف منظمة الأمم المتحدة.
معتبرين أن حل الأزمة الليبية لا يمكن أن يكون إلا حلاً سياسيًا يمر عبر مصالحة وطنية تجمع بين الليبيين كافةً والجهات الفاعلة المؤسساتية والأمنية والعسكرية في الدولة التي تبدي استعدادها المشاركة بهذه المصالحة مشاركة سلمية، وعبر العودة الآمنة للنازحين والمهجرين واعتماد إجراءات العدالة الانتقالية وجبر الضرر والعفو العام.
وإن بدت بنود هذا الاتفاق الذي تضمن وقف مشروط لإطلاق النار والعمل على إجراء انتخابات في الربيع القادم، في أغلبها مطالب الليبية، فقد أثار امتعاض العديد من الأطراف المحلية والأجنبية، وأدى إلى طرح تساؤلات عدّة عن طبيعة أهداف فرنسا، وسر التوقيت المفاجئ لمبادرة رئيسها إيمانويل ماكرون، التي جمع فيها السراج مع عدوّه اللدود حفتر.
امتعاض إيطالي
هذا الاتفاق الذي رعته فرنسا بحثًا لها عن نفوذ فقدته في المنطقة، قفز من خلاله ماكرون على جهود العديد من الدول تجاه الأزمة الليبية خاصة الجانب الإيطالي الذي يرى في ليبيا منطقة نفوذ له، فجغرافيًا لا تفصل ليبيا عن إيطاليا إلا أمواج المتوسط، وتاريخيًا كانت ليبيا أهم المستعمرات الإيطالية في إفريقيا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم تنقطع الصلات بين البلدين حتى عندما كانت ليبيا في عزلة جراء العقوبات التي فرضت عليها عام 1992، فقد ظلت شركة “إيني” الإيطالية المستثمر الأساسي في الغاز والنفط الليبي، وكانت روما إحدى بوابات عودة ليبيا للمجتمع الدولي التي بدأت تدريجيًا 2003.
اتهم معارضون إيطاليون، حكومة رئيس الوزراء باولو جنتيلوني بالسماح لفرنسا بإزاحة إيطاليا من صدارة الجهود المتعلقة بالدبلوماسية الليبية
وسبق أن تولت إيطاليا قيادة الجهود الرامية إلى إحلال السلام في مستعمرتها السابقة، وتحملت عبء الموجات المتعاقبة من المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين، الذين يعبرون البحر المتوسط انطلاقًا من الشواطئ الليبية نحو شواطئ جزيرة لامبادوزا، وترى إيطاليا في فرنسا المسؤولة الأولى عما وصلت له ليبيا عقب التدخل العسكري ضدها سنة 2011، ودعتها إلى “عدم تكرار الأخطاء التي اُرتُكبت في ليبيا بالماضي”.
واتهم معارضون إيطاليون، حكومة رئيس الوزراء باولو جنتيلوني بالسماح لفرنسا بإزاحة إيطاليا من صدارة الجهود المتعلقة بالدبلوماسية الليبية، حيث قالت جورجيا ميلوني زعيمة حزب أخوة إيطاليا اليميني: “الاجتماع الليبي الذي تنظمه فرنسا يظهر الفشل التام للسياسة الخارجية الإيطالية”، وأضافت “هذا أنهى دور دولتنا التقليدي كوسيط رئيسي في ليبيا”.
تسعى إيطاليا للحد من موجة الهجرة غير الشرعية من ليبيا نحو سواحلها
ومع ذلك، يرى عديد من المراقبين أن نجاح باريس في جمع حفتر والسراج يمثل نجاحًا كبيرًا للدبلوماسية الفرنسية، وذلك رغم المحاولات السابقة التي فشلت في جمعهما، إذ إنه وللمرة الأولى وبعد محاولات القاهرة وأبو ظبي، تنجح باريس في جمعهم والوصول لاتفاق وإصدار بيان.
وكانت أبو ظبي قد نجحت في السابق في جمع خليفة حفتر برئيس المجلس الرئاسي فايز السراج بمبادرة إماراتية مصرية، إلا أنها لم تتمكن من الوصول إلى أي اتفاق بينهما.
وفي ديسمبر 2015 وقع أطراف النزاع الليبي برعاية الأمم المتحدة اتفاقًا لإنهاء أزمة تعدد الشرعيات، تمخض عنه مجلس رئاسي لحكومة الوفاق الوطني ومجلس الدولة، إضافة إلى تمديد عهدة مجلس النواب في مدينة طبرق (شرق)، باعتباره هيئة تشريعية، لكن مجلس النواب رفض اعتماد حكومة الوفاق برئاسة السراج مشترطًا إدخال تعديلات على الاتفاق.
دعم لحفتر على حساب السراج
رغم ادعائها الوساطة بين الفرقاء الليبيين، عمدت باريس إلى دعم اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي سيطر مؤخرًا على عاصمة الشرق الليبي بنغازي وأعاد سيطرته سابقًا على أهم المواني النفطية، على حساب رئيس الوزراء المعترف به أمميًا فايز السراج، الذي تسيطر قواته على العاصمة الليبية طرابلس وعلى غرب البلاد.
وفي وقت سابق قال رومان نادال المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية: “ليبيا تحتاج لبناء جيش وطني تحت سلطة مدنية بمشاركة كل القوى التي تحارب الإرهاب في أنحاء البلاد بما يشمل قوات الجنرال حفتر”، دون أن يأتي على ذكر السراج، وأضاف “فرنسا ستدرس سبل تعزيز أنشطتها السياسية والأمنية للمساعدة في استعادة المؤسسات الليبية وجيش قادر على هزيمة الإرهابيين من خلال اتصالات بشركائنا الأوروبيين ودول الجوار”.
في الـ20 من يوليو 2016، تمّ الكشف عن وجود عسكري فرنسي في ليبيا، رغم نفي فرنسي سابق نيتها التدخل العسكري المباشر هناك
ويمثّل هذا التصريح الأول من نوعه لفرنسا التي تعلن من خلاله دعمها العلني لحفتر، ويرفض حفتر قبول مشروعية حكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج، خاصة بعد النصر الذي أعلن تحقيقه على مجموعات مسلحة منافسة في معركة للسيطرة على بنغازي ثاني أكبر مدينة ليبية، قبول مشروعية بدعم من مصر والإمارات.
وفي الـ20 من يوليو 2016، تمّ الكشف عن وجود عسكري فرنسي في ليبيا، رغم نفي فرنسي سابق نيتها التدخل العسكري المباشر هناك، حيث أعلنت باريس يومها ذلك عندما قال لي فول المتحدث باسم الحكومة الفرنسية: “نستطيع تأكيد وجود قوات خاصة فرنسية في ليبيا”، للمشاركة في محاربة من وصفهم بـ”الإرهابيين”.
وجاء هذا الاعتراف قبل ساعات قليلة من إعلان الرئيس الفرنسي حينها فرنسوا أولاند، مقتل ثلاثة جنود فرنسيين بعد تحطم طائرة هليكوبتر كانوا على متنها في بنغازي شرقي ليبيا، في مهام استخباراتية “خطيرة” ضمن عمليات تكافح الإرهاب، بحسب أولاند ووزير دفاع حكومته، وأعلنت قوات مؤيدة لحفتر أن القتلى “كانوا مستشارين عسكريين لهم”.
ففي التاسع من يوليو/تموز 2016، نشر موقع “ميدل إيست آي” البريطاني، تسجيلات صوتية مُسربة، لمحادثات الخطوط الجوية في بنغازي شرقي ليبيا، كشفت عن دعم عسكري فرنسي وغربي للقوات الموالية لحفتر شرقي البلاد، بوجود غرفة عسكرية غربية بقيادة فرنسية هناك، رغم أن فرنسا تدعم بشكل مُعلن حكومة الوفاق الوطني الليبي، التي كانت من مخرجات اتفاق الصخيرات المدعوم غربيًّا وأمميًّا.