في صياغة تبدو كأنها سابقة التجهيز، قضت محكمة العدل الأوروبية بإبقاء حركة المقاومة الإسلامية “حماس” على قائمة الإرهاب الخاصة بالاتحاد الأوروبي، وألغت المحكمة التي تعد أعلى هيئة قضائية في أوروبا، حكم المحكمة العامة ثاني أعلى هيئة قضائية في الاتحاد، والتي قضت في 2014 بعدم كفاية الأدلة التي توجب إبقاء حظر السفر أو تجميد أصول خاصة بأفراد أو كيانات تابعة لحماس.
وأطلقت المحكمة بذلك سجادة من الصمغ الساخن ومدّتها لتطوق أركان المشهد السياسي الدولي، في وقت يعاني فيه المسجد الأقصى من حملة تستهدف إخضاعه كاملًا لنزوات الاحتلال، ثم فسرت حيثيات حكمها لتوضح أنه لا يهدف إلا للتأكيد على أن الاتحاد الأوروبي قد يبقي شخصًا أو كيانًا على القائمة إذا خلص إلى وجود خطر مستمر من هذا الشخص أو الكيان فيما يتعلق بالأنشطة الإرهابية التي بررت الإدراج في الأساس على القائمة، وقالت المحكمة إنها ستحيل القضية مرة أخرى إلى المحكمة العامة لدراسة الأدلة والحجج التي لم تنظر فيها عام 2014.
دلالات الحكم.. وثيقة حماس والغضب الأمريكي الإسرائيلي
عمليًا لا يمكن النظر إلى دلالات الحكم الذي أصدرته “العدل الأوروبية” دون العودة للوراء قليلًا والنظر إلى حالة التنمر التي ظهرت عليها الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، بعدما أعلنا عدم تغيير موقفهما من حركة حماس بعد إصدار وثيقتها السياسية تحت عنوان وثيقة المبادئ والسياسات العامة، جاء ذلك في وقت متزامن مع موقف حكومة الاحتلال ورئيسها بنيامين نتنياهو الذي مزق الوثيقة الحمساوية وألقى بها في سلة المهملات خلال خطاب متلفز له في مايو/أيار من العام الحالي.
حالة الهستيريا الإسرائيلية من نفوذ حماس الخارجي الأرجح أنها كانت وراء اعتقال “الشاباك” شابًا فلسطينيًا من مخيم الرشيدية في لبنان
ورغم الموقف الواضح والمساند لـ”إسرائيل”، حاول الاتحاد الأوروبي إضفاء نوعًا من المجاملات على الحقائق خلال بيانه الذي أصدره في خطوة لاحقة، وأكد فيه ارتياح الاتحاد لصدور مثل هذه الوثيقة التي ستوفر فرصة متجددة سيكون مرحبًا بها بالطبع بين الفصائل الفلسطينية من أجل المشاركة في عملية مصالحة شاملة، وحثَّ الاتحاد الأطراف الفلسطينية كافة على انتهاز هذه الفرصة لتوفير أرضية مناسبة لبناء مؤسسات قوية وشاملة وديمقراطية تساهم في تأسيس ما أسماها “الدولة الفلسطينية”.
بعيدًا عن المماحكات التي صبغت بيان الاتحاد الأوروبي، لا يمكن النظر إلى قرار المحكمة بعيدًا عن المحاولات المكثفة للاحتلال الإسرائيلي الذي يجتهد بدأب لفتح جبهات ومواجهات أخرى مع حركة حماس بعيدًا عن الحرب المشتعلة بينهما على الجبهة الداخلية، بعدما بات يدرك خطورة تكوين لوبيات حمساوية في أوروبا، خاصة أنه يعلم أن تقويضه ومحاصرته للحركة في الداخل استغلته حماس جيدًا في إقامة شبكة علاقات دولية ممتدة وقوية خاصة في القارتين الأوروبية والإفريقية، بحسب تقرير نشره موقع “ويلا” العبري، الذي زعم امتلاك الحركة عشرات المكاتب في جميع بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وتستخدمها لإقامة علاقات دبلوماسية دولية لدعمها سياسيًا وعسكريًا.
ولا تعتمد “إسرائيل” على تسويق مخاوفها في دول الاتحاد الأوروبي على نشر معلومات موثقة تتضمن أسماء قيادات الحركة في أوروبا أو حتى عناوين المؤسسات الأوروبية التي تتعاون معها حماس في تنفيذ أجندتها السياسة والعسكرية، بل تراهن على حسابات كابوسية بفعل تزايد الأنشطة المعادية لها في أوروبا مثل حركة المقاطعة العالمية ووسم منتجات المستوطنات في الدول الأوروبية والتعاطف الغربي مع الفلسطينيين في ملاعب كرة القدم والجامعات المختلفة.
حالة الهستيريا الإسرائيلية من نفوذ حماس الخارجي الأرجح أنها كانت وراء اعتقال “الشاباك” شابًا فلسطينيًا من مخيم الرشيدية في لبنان في نوفمبر/تشرين الثاني، واعتبرته المسؤول عن تنسيق عمليات حماس في أوروبا، واتهمته بحشد الأموال لتسليح الحركة، ولم تتوقف الملاحقات في هذا الإطار، إذ ألقت القبض في سبتمبر/أيلول الماضي على بريطاني من أصول لبنانية في أثناء زيارته “إسرائيل” واتهمته بتهريب 50 ألف يورو وهواتف نقالة إلى عناصر الحركة في الضفة الغربية.
لماذا لا تقيم أوروبا علاقات رسمية مع حماس؟
السؤال الذي يطرح نفسه بعيدًا عن التحريض الإسرائيلي الدائم لتقويض تحركات حماس الخارجية: لماذا لا تريد أوروبا إقامة علاقة رسمية مع حماس رغم الثقة المتبادلة بين الجانبين، والتي ظهرت جليًا خلال السنوات الماضية، وتمثلت في استضافة قيادات الحركة بشكل دائم في مراكز أبحاث أوروبية وخاصة المتعاطفة مع الفلسطينيين، وإجراء مقابلات سرية وعلنية مع صناع القرار في دول الاتحاد الأوروبي والتعاون في ملفات عدة، وهو الأمر الذي منح الحركة القدرة على إيجاد شبكة من العلاقات الدولية المتميزة الداعمة لها في مواجهة اللوبي “الإسرائيلي” المهيمن على مراكز صنع القرار الدولي.
تجتهد حماس لتطوير علاقاتها مع أوروبا، وتحاول على الأصعدة كافة تحريك اسمها من لائحة الإرهاب الأوروبية، خاصة في ظل تجاوب بعض الدول التي تتعاطف سرًا وعلنًا مع حماس
البحث عن إجابات للسؤال لا بد أن يمر أولًا على المشهد الأمريكي وصعود ترامب الذي يساند السياسات “الإسرائيلية” بشكل واضح ويرمي إلى تجريم الحركة ورميها برذاذ الإرهاب، مما يزيد من توتر علاقات حماس بالمجتمع الدولي، ويلقي عليها مزيدًا من الضغوط.
مخاطر وجود الرئيس الأمريكي الجديد، في التأثير على علاقة القوى الأوروبية بحركة حماس، يرصده جيدًا أحمد يوسف القيادي الحمساوي ومسؤول الملف الخارجي لحركة حماس سابقًا، الذي فسر المشهد في سياق تصريحاته لإحدى الصحف الخليجية، وأكد أن المرحلة المقبلة أيضًا قد تشهد حالة من الضبابية في تعامل الإدارة الأمريكية مع حماس بشكل خاص، والقضية الفلسطينية بشكل عام، الأمر الذي قد يؤدي إلى إجهاض الجهود الكبيرة للحركة في الحفاظ على علاقات حماس بالدول الأوروبية ومحاولات تغيير الصورة التي يجتهد في رسمها الاحتلال عن حركة المقاومة الإسلامية الشهيرة، وهو الهدف الذي وضعته حماس أمامها، ونجحت بشكل واضح في إقامة قنوات اتصال وعقد لقاءات سرية وعلنية بين قياديها والمسؤولين الأوروبيين النافذين.
حديث “يوسف” لم يذهب بعيدًا عن تصريحات القيادي موسي أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي للحركة، الذي أكد في وقت سابق على هذه الأزمة أن حماس تجري مشاورات داخلية ومراجعات شاملة بشكل دوري لمواقفها السياسية على الصعيد الداخلي أو الخارجي، انطلاقًا من استراتيجية الحركة التي تبلورت بعد الحرب الأخيرة على قطاع غزة في صيف 2014، والتي أسست فيها لضرورة إخضاع علاقاتها وسياساتها الخارجية لتقييم دوري شامل كلما تبدلت الأحداث وتغيرت على المستوى الإقليمي والعالمي.
وتفسر تصريحات قيادات الحركة الواعية دلالات إطلاق حماس خمسة بنود في بيانها الذي ردت فيه على “العدل الأوروبية”، في صدارة هذه البنود استمرار الحركة في المضي قدمًا بتحدي القرارات السياسية الظالمة بحق شعبها وبحق الحركة نفسها، واعتبار القضاء الدولي ساحة من ساحات النضال التي لا بد من خوض المعارك فيه للدفاع عن حقوقها ضد الافتراءات الصهيونية ومن يدعمها.
هل تمتلك حماس نفوذًا حقيقيًا في أوروبا؟
بعيدًا عن البروبجاندا “الإسرائيلية” وتجنب السطحية والبعد عن التحليلات السريالية العاطفية، لا يمكن نفي دعم المؤسسات الإغاثية في أوروبا والجاليات العربية والإسلامية في أوروبا للقضية الفلسطينية، ودعمها إعلاميًا وسياسيًا وماليًا في إطار القوانين الأوروبية ودون أن ترتكب تلك المؤسسات حماقة مخالفتها، لأنها تعلم جيدًا أن عيون “الشاباك” لن تتركها، خاصة أن فزاعة الراديكالية والأصولية الإسلامية تلاحق الأجهزة الأمنية في أوروبا خشية تكوين خلايا إرهابية ربما تعرض أمن المجتمعات الأوروبية للخطر.
تعتقد حماس أن مجمل الدور الأوروبي مرفوض إسرائيليًا، لذلك يأتي في سياقات محددة لا تتعارض مع المصالح الإسرائيلية
وكما أصبحت حماس على خبرة واسعة بكيفيات المواجهة العسكرية مع “إسرائيل”، باتت أيضًا على دراية بآليات التواصل الفعالة في أوروبا، التي تتمثل في إلقاء المحاضرات بقاعات البحث والتواصل مع البرلمانات الأوروبية، مستغلة في ذلك تراجع نفوذ الاحتلال في أوروبا بالمقارنة مع توسع تأثير القضية الفلسطينية التي تلعب حماس رأس الحربة لها حاليًا في القارة العجوز، كما تستغل الحركة أيضًا توافد السفراء الأوروبيين على غزة بين الحين والآخر، سواء لتفقد أحوال الفلسطينيين أو لممارسة دور الوساطة بين حماس وسلطات الاحتلال.
ورغم عدم امتلاك حماس مؤسسات تعمل لصالحها وتحت شعاراتها في أوروبا، هناك مراكز بحثية غير حكومية، تعقد لرجال الحركة النافذين مؤتمرات وندوات ولقاءات، وتعمل هذه المراكز بشكل منفرد حيث لا توجد أي إشارات واضحة على تنسيقها مع السفارات والقنصليات الفلسطينية التابعة للسلطة الفلسطينية التي تخوض نزاعًا هي الأخرى مع حماس منذ عام 2007.
يفسر الدكتور عدنان أبو عامر أستاذ العلوم السياسية في جامعة غزة، قناعات الحركة وأساس تحركاتها في أوروبا، ويرى أنها تتفهم جيدًا أن السياسات الأوروبية ليست موحدة تمامًا، وإنما تلعب الدول الغربية أدوارًا لا تتجاوز السقف الأمريكي، مما يضعف الدور الأوروبي على صعيد القضية الفلسطينية والشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه فإن هذا الدور الأوروبي لا يستطيع أن يكون أوروبيًا بقدر ما تكون هناك سياسات عامة وكل دولة تتصرف بما تعتقد أنه مصالحها.
وحسب رأي الباحث الفلسطيني تعتقد حماس أن مجمل الدور الأوروبي مرفوض إسرائيليًا، لذلك هو يأتي في سياقات محددة لا تتعارض مع المصالح “الإسرائيلية” والأمريكية، وبذلك يبقى الدور الأوروبي قاصرًا عن لعب دور فاعل، ويكاد ينحصر في ملء فراغ الدور الأمريكي، سواء في حال عجزه عن تحقيق أي تقدم أم تركيزه على أولويات أخرى أم انشغاله في أزمات أشد سخونة، مما يحصر أوروبا في لعب دور الممول لعملية التسوية مع “إسرائيل” لا دور المؤثر.
ورغم ذلك تجتهد حماس لتطوير علاقاتها مع أوروبا، وتحاول على الأصعدة كافة تحريك اسمها من لائحة الإرهاب الأوروبية، خاصة في ظل تجاوب بعض الدول التي تتعاطف سرًا وعلنًا مع حماس، وعلى رأسهم النرويج وسويسرا، وذلك لاستباق محاولات “إسرائيل” التحريضية على حماس في أوروبا، سواء لتبرير استمرار حصار غزة أو منع أي تواصل معها في الأوساط الأوروبية ووقف تنامي التعاطف الدولي مع القضية الفلسطينية.