ترجمة وتحرير نون بوست
أصبحت ممارسات الاستخبارات البشرية في العالم الغربي تعيش ورطة أخلاقية، وهو ما يدفع إلى التساؤل عما إذا كانت وكالات الاستخبارات مُجبرة على تلويث يديها من خلال العمل مع من يعتدون على حقوق الإنسان، وأولئك المنخرطين في أعمال غير مشروعة، أو حتّى مدّهم بالأموال؟
على الرغم من أن العديد من الناشطين في مجال حقوق الإنسان والتقدّميين سيجيبون على هذا السؤال بالنفي القاطع، إلا أنه لا يبدو من السهل البتّ في هذه المسألة. أما في عالم مثالي، ينبغي لوكالة المخابرات المركزية أن لا تعمل مع من تلطخت أيديهم بالدم. لكن، وفي كثير من الأحيان، يكون من الضروري العمل مع أولئك الأشخاص للتوصل إلى حل وسط بغية الحصول على نظرة ثاقبة خلال عملية صنع القرار.
مسرور بارزاني، رئيس مجلس الأمن القومي في المنطقة الكردية، خلال مقابلة له مع وكالة رويترز في أربيل بإقليم كردستان العراق في 19 تموز/ يوليو سنة 2014.
في أحد الأمثلة البارزة، تعاونت وكالة المخابرات المركزية مع إرهابي أقدم على قتل أمريكيين في سبيل الحصول على معلومات مكّنت فرنسا من القبض على “كارلوس الثعلب”، وهو أحد الإرهابيين الأكثر شهرة في فترة ما قبل أحداث 11 أيلول/ سبتمبر. وفي هذا الإطار، يتمثل الأمر المهم بالنسبة للعاملين في المخابرات في عدم إغفال الصورة الكبرى من أجل التفاصيل.
فعلى سبيل المثال، مثّل مانويل نورييغا رجلا للمخابرات الأمريكية في الوقت الذي تطورت فيه حياته العسكرية، وحتى حين أصبح ديكتاتور بنما. في المقابل، عندما ضل نورييغا سعيه بشكل متزايد، قامت وكالة المخابرات المركزية بالتخلي عنه، حيث تحول في نهاية المطاف إلى هدف عوضا عن شريك.
كما ينطبق الأمر ذاته على أمير الحرب الأفغاني، قلب الدين حكمتيار، وقائد المجاهدين الذي عملت معه وكالة المخابرات المركزية لفترة وجيزة خلال معركة أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي. في الأثناء، بدأت الوكالة تضيق ذرعا بجنون العظمة المهيمن على حكمتيار، بالإضافة إلى وحشيته الاجتماعية وما يترتب عن هذا الاعتلال الشخصي من نكسات. وفي باكستان أيضا، طوّرت وكالة المخابرات المركزية علاقة قائمة على ثنائية “الحب والكره” التي تحولت فيما بعد إلى “كره بحت” مع صلاتها السابقة في وكالة الاستخبارات الباكستانية.
في الوقت الراهن، يبدو أن الندم قد بدأ يطارد مجتمع الاستخبارات الأمريكي فيما يتعلق بشراكته مع بعض الأطراف الرئيسية في كردستان العراق. ولفترة طويلة، عملت الولايات المتحدة مع زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، مسعود بارزاني، الذي أحكم سيطرته على كردستان العراق جنبا إلى جانب مع منافسه، جلال طالباني. وتجدر الإشارة إلى أن كلا الرجلين تبنّيا سياسة محاباة الأقارب، حيث عيّن كل منهما ابنه في المناصب الإدارية والأمنية الرئيسية.
في هذا الصدد، نصّب بارزاني ابنه الأكبر، مسرور بارزاني، مسؤولا عن الأجهزة الأمنية، ثم عيّنه مستشارا لمجلس الأمن في إقليم كردستان. من جهته، قام طالباني بتنصيب ابنه الأكبر، بافل طالباني، على رأس جهاز المخابرات التابع لحزبه. ورغم ذلك، أُجبر جلال طالباني في نهاية المطاف على نفي بافل إلى لندن بسبب قلقه المتزايد إزاء سلوك ابنه العنيف والضال. في الأثناء، لا يزال ابن شقيق طالباني، لاهور، يدير قوة محلية لمكافحة الإرهاب.
يوجه العديد من الصحفيين أصابع الاتهام نحو مسرور بارزاني. وعلى الرغم من أن عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء دائما ما تعتبر غير قانونية
في المقابل، أثبت مسعود بارزاني أنه زعيم عشائري بامتياز، كما كان متحفظا بشأن محاسبة أبنائه على أفعالهم. وقد نشأ أبناء بارزاني وهم مؤمنون بتفوقهم بعد أن قام بتدريسهم في مدرستهم الخاصة، حيث تعلموا وتفاعلوا بشكل أساسي مع أفراد العائلة. خلافا لذلك، لا يخفى على أحد سلوك مسرور بارزاني غير المعتدل، وكدليل على ذلك:
قال باحثون من منظمات دولية لحقوق الإنسان، الذين يقومون بزيارات إلى السجون في كردستان العراق، إن أشخاصا مسجونين لا تظهر أسماؤهم على سجلات السجون أكدوا أنهم سجنوا، وتعرضوا للتعذيب في بعض الحالات، من قبل قوات الأمن التابعة لمسرور بارزاني عندما رفضوا تقديم نسبة مئوية من شركاتهم له.
سنة 2005، أقدمت قوات الأمن برئاسة مسرور على سجن “كمال سيد قادر” في أعقاب توجيهه الانتقادات لبارزاني ضمن سلسلة من المقالات. وقد حُكم على قادر بالسجن لمدة 30 سنة في محاكمة لم تتجاوز مدتها 15 دقيقة، إلا أنه أُطلق سراحه بعد أن قامت جماعات دولية لحقوق الإنسان بالاهتمام بقضيته.
ومن وجهة نظر إستراتيجية، تعتبر أفعال مسرور ذات نتائج عكسية، ذلك أنها أدت إلى تضخيم شخصية غير معروفة نسبيا، كما ساهمت في تضخيم اسمه بشكل ملحوظ بالتزامن مع تقويض الصورة، التي يسعى كردستان العراق إلى ترويجها بشأنه كمنطقة ديمقراطية. في المقابل، لم يتعظ مسرور من الدرس السابق، حيث أفيد فيما بعد أن السلطات النمساوية ألقت القبض عليه وعلى حراسه في قضية الاعتداء على قادر ومحاولة قتله في فيينا، وهي واحدة من بين العديد من الحوادث الأخرى.
مجددا، أصبحت هذه السياسة تمثل القاعدة عوضا عن الاستثناء بعد أن تم اختطاف الصحفي سردشت عثمان، وقتله في أعقابه سخريته من المحاباة داخل عائلة بارزاني، بيد أن حكومة بارزاني حمّلت المتمردين السُنّة مسؤولية وفاة الصحفي.
خلافا لذلك، تقف في مواجهة هذه الفرضية فكرة إمكانية اختطاف هؤلاء المتمردين لشخص وسط العاصمة الكردية والإلقاء به في سيارة لقوات الأمن، فضلا عن تسللهم من خلال نقاط التفتيش الأمنية.
وتضعف الفكرة الآنف ذكرها أيضا ادعاءات كردستان بأنها منطقة آمنة. عموما، يوجه العديد من الصحفيين أصابع الاتهام نحو مسرور بارزاني. وعلى الرغم من أن عمليات الإعدام خارج نطاق القضاء دائما ما تعتبر غير قانونية، إلا أن القرار الذي تم اتخاذه في هذه الحالة بالذات كان غبيا نظرا لتسببه في احتدام المناقشات بشأن فساد مسرور بارزاني في وسائل الإعلام الدولية.
في الواقع، تحوّل الفساد إلى مشكلة في صلب حكومة إقليم كردستان لدرجة أن كبار المسؤولين الأكراد يعترفون بها. بالتالي، يبدو من الغريب أن يشارك مسرور بشكل صارخ في الممارسات التي تسترعي الانتباه إلى هذه المشكلة. وعلى سبيل المثال، استخدم مسرور شركة “شل” لشراء قصر فخم، لتكون بذلك أكبر عملية شراء عقار سكني في منطقة واشنطن العاصمة سنة 2010. وفي حين نفى مسرور أن تكون له يد في عملية الشراء، لم تمنعه غطرسته من استضافة حفلة عيد ميلاده في القصر.
بطبيعة الحال، يعود كل ما تم ذكره إلى الماضي، ذلك أن مجتمع الاستخبارات الأمريكي، الذي عمل ونسّق مع مسرور بحكم منصبه، كان على استعداد لغض الطرف عن مزاعم انتهاكات حقوق الإنسان والفساد التي تحوم حول آل بارزاني، ولكن ما الذي تغيّر؟
في الحقيقة، تغيّر شيئان اثنان، ويتمثل أولهما في المعركة ضد تنظيم الدولة. ففي الوقت الذي مثل فيه مسرور بارزاني حليفا للولايات المتحدة في معركتها ضد تنظيم الدولة، اقترن اسمه بالعديد من الإشكاليات. وقبل سقوط الموصل بيد تنظيم الدولة، كانت هناك مشكلة المعدات العسكرية الحساسة، التي تسربت من حكومة إقليم كردستان إلى مقاتلي تنظيم الدولة.
وبالتزامن مع شعور الصحفيين والأكاديميين العاملين لصالح حكومة إقليم كردستان أو الحزب الديمقراطي الكردستاني بالعار تجاه هذه القضية، اعترف السياسيون الأكراد السابقون بها، فيما اشتكى منها مسؤولون حكوميون عراقيون لنظرائهم الأمريكيين قبل احتلال تنظيم الدولة للموصل. وفي أعقاب قيام تنظيم الدولة، أثارت رغبة البعض من داخل حكومة إقليم كردستان في تحقيق أرباح تجارية مع التنظيم حتى أثناء القتال ضدّهم، استنكارا واستهجانا.
يعتبر مسرور بارزاني واحدا من بين شخصيات عديدة، وعلى الرغم من أنه لا يجسد نضالا قوميا تم بموجبه عزله إلى حد كبير عن التهديد أو الخطر رغم سيرته الذاتية
أما أخيرا، حين عملت الوحدات الكردية بالتعاون مع القوات الخاصة الأمريكية، تسببت رغبة السلطات الكردية في تسريب لقطات بشأن هذا التعاون في صدمة البنتاغون، ناهيك عن أن الكشف عن هويات جنود القوات الخاصة الأمريكية يعرض عائلاتهم للخطر. ونتيجة لذلك، يعتبر القيام بمثل هذه التسريبات، لا لشيء إلا لكي يُظهر الحزب الديمقراطي الكردستاني دعم البنتاغون له دون جماعات أخرى، خطوة جعلت الأمور أسوأ.
ويتمثل التغيير الثاني الذي طرأ على الموقف الأمريكي تجاه الحلفاء الأكراد، في استفتاء 25 أيلول/ سبتمبر للاستقلال الكردي. وتتجسد المشكلة المتعلقة بالاستفتاء في أن الدافع وراءه لا يبدو وطنيا بقدر ما يرتبط بصرف الانتباه عن المشاكل الاقتصادية في كردستان وانهيار ديمقراطيتها.
في المقال الذي يحمل عنوان “صعود كردستان”، كنت قد سعيت إلى تسليط الضوء على النقاشات العالقة والمسائل المحيطة باستقلال الأكراد. من جانبه، أصبح مسرور مؤيدا رئيسيا للاستقلال، إلا أن بعضا من موظفي الكونغرس وقادته، الذين التقى بهم، قد خرجوا من تلك الاجتماعات وهم على قناعة بأنه يسعى للاستقلال ليصبح وريثا لما سيكون بمثابة قيادة وراثية أكثر من كونه يحمل مخاوف وطنية صادقة. وعلى العموم، يثير الفشل الذي لحق بوفد مسعود بارزاني إلى أوروبا خلال الشهر الماضي، وعودته المبكرة، إلى أن هذه المخاوف تمتد على نطاق أوسع مما يظن مسرور.
ملخص قصة طويلة: في حين تجمع مسرور علاقات بالجانب الأمريكي بسبب محفظته الأمنية مع مجتمع المخابرات الأمريكي، التي يعود تاريخها إلى عملية تحرير العراق (إن لم يكن من قبل ذلك)، يبدو أن الحمل المتزايد الذي أصبح مرتبطا به قد أدى بشكل متصاعد إلى تأمل وإعادة تفكير على نطاق واسع إزاء شراكات بعينها للولايات المتحدة.
ويعتبر مسرور بارزاني واحدا من بين شخصيات عديدة، وعلى الرغم من أنه لا يجسد نضالا قوميا تم بموجبه عزله إلى حد كبير عن التهديد أو الخطر رغم سيرته الذاتية، يبدو الرجل على نحو متزايد بمثابة نقطة انطلاق للنقاش حول الاتجاه الذي تتبعه السياسة الأمريكية.
في الأثناء، يستمر خبراء المخابرات والسياسة في التساؤل إذا ما أصبح سلوك مماثل أمرا شائعا في الوقت الراهن، فكيف يمكن أن يتغير حين تصبح كردستان مستقلة؟ كيف يمكن أن يتغير حين يخلف مسرور والده؟ وكيف يمكن أن يتغير إذا ما تم القضاء على القلة القليلة المتبقية من الضوابط والتوازنات في كردستان؟ باختصار، وفي الوقت الذي ستبقى فيه العلاقات مع كردستان العراق متينة، يظل السؤال بالنسبة لصناع القرار الأمريكيين الآن، حول ما إذا كانت شراكة الماضي ستشكّل قريبا مصدر إحراج في المستقبل.
المصدر: معهد أمريكان إنتربرايز