يجد النظام السوري نفسه مع دخول التظاهرات المطالبة بالتغيير السياسي في محافظة السويداء جنوبي سوريا شهرها الخامس، في موقف مربك للغاية، خاصة مع استمرار الحراك وتجنّبه العنف، وهو ما يسحب من يده ذريعة استخدام الحل العسكري لإنهاء الاحتجاجات.
ومنذ بداية التظاهرات منتصف أغسطس/ آب الماضي، التي بدأت بشعارات معيشية تطورت إلى سياسية، بدا من طريقة تعاطي النظام أنه كان يعوّل على نفاد صبر المتظاهرين، لكن ثبت فشل هذا الخيار مع مرور كل هذا الوقت دون أن تخفت التظاهرات.
جملة أسباب تفسِّر الاستمرارية
وأمام هذا الواقع، بدأت التساؤلات تثار عن الأسباب التي تدفع نحو استمرار التظاهرات بالإصرار ذاته، رغم “محدودية” تأثيرها السياسي، وتجاهلها من قبل الأطراف الإقليمية والدولية.
ومجيبًا على ذلك، يقول جمال درويش، عضو المكتب السياسي في الهيئة السياسية للعمل الوطني في السويداء، وعضو اللجنة المصغّرة لإدارة الحراك، إن التظاهرات مستمرة وستستمر لأنها جاءت نتيجة عملية تراكمية من الظلم والاستبداد وانسداد الأفق أمام إنجاز أي تغيير سياسي في سوريا، بسبب الصمت الدولي وعدم توفر الجدّية لتطبيق القرارات الأممية، خاصة قرار مجلس الأمن 2254.
ويضيف لـ”نون بوست” أنه مع تعقد الملف السوري وغياب الحل، كان لا بدَّ من إعادة وضع مشروع التغيير السياسي تحت الضوء، مشددًا على أن “انتفاضة السويداء التي حملت الهوية الوطنية والمشروع الوطني، قد حسمت خيارها بالاستمرار في الساحات”.
وإذ اعترف درويش بأن احتجاجات السويداء لوحدها لن تحقق تغييرًا سياسيًّا، قال: “الاحتجاجات قد تؤسس لمرحلة جديدة بعيدة عن العنف والعنف المضاد”، واعتبر أن الثورات لا تنجَز بالسنوات بل بالأجيال، وقال إن “انتفاضة السويداء تحركها ضمائر سكانها، البعيدة عن أي مشاريع انفصالية تقسيمية للبلد”.
واعتاد أهالي السويداء في السنوات الأخيرة على الخروج بتظاهرات، لكن الموجة الأخيرة تبدو مختلفة عن سابقاتها، من خلال الشعارات المطالبة بإسقاط النظام والأهداف الأخرى ذات السقف المرتفع للحراك، ومن هنا يمكن ملاحظة أن قناعةً باتت سائدة لدى أهالي المحافظة التي تقطنها غالبية درزية، مفادها أن الاستمرار بالتظاهرات هو الخيار الوحيد لإنهاء محنة البلاد.
نمتلك مدينتنا
ويمكن تلمُّس ذلك من خلال المواقف المتقدمة لمشايخ عقل الدروز، وتحديدًا الشيخ حكمت الهجري، عندما أكد في أواخر ديسمبر/ كانون الأول الماضي في بيان على استمرار الحراك السلمي في السويداء، حيث قال إن “الحراك السلمي الأبيض كان خلال الفترة الماضية ناصعًا خيّرًا، لن يعكّر صفوه لا تهديد ولا وعيد، ولن يثنيه تحريف ولا تأليف”.
وفي هذا الصدد، يشيد الكاتب وعضو الائتلاف الوطني السابق حافظ قرقوط الذي ينحدر من السويداء، بمواقف الشيخ الهجري والشيخ حمود الحناوي في إطار تنظيم واستمرارية التظاهرات، وقال لـ”نون بوست”: “إن مواقف شيوخ الطائفة لها التأثير الكبير على الشارع، ولا ننسى أن أهداف الحراك لم تتحقق ولو جزئيًّا”.
ويكمل بالإشارة إلى الوضع المتردي في سوريا، ويقول: “الشعور العام لدى غالبية السوريين هو أن بلادهم لم تعد وطنًا، بل دولة لتصنيع المخدرات والموت، وعلى ذلك طالما أن الأسد على رأس السلطة فإن المتظاهرين سيبقون في الشارع”.
وأبعد من ذلك، يلفت قرقوط إلى تطور الاحتجاجات، مؤكدًا أن “التظاهرات طوّرت نفسها، من خلال انخراط النقابات المهنية والفعاليات الاقتصادية والمجتمع المدني بكل شرائحه، وهذا ما أعطى الحراك حيوية”.
ومنذ الفترة الأولى للتظاهرات، بدأ أهالي السويداء بإزالة رموز النظام السوري من شوارع ومؤسسات المحافظة، لكن مع استمرار وجود النظام الرمزي.
ويقول قرقوط إن “الأهالي يشعرون بامتلاك مدينتهم بشوارعها وساحاتها ومؤسساتها، بعيدًا عن شعارات آل الأسد، وهذا ما أشاع حالة ارتياح ودفعة إيجابية لاستمرار التظاهرات”، رغم “تجاهل العالم” لسير التظاهرات في السويداء.
وفي سبتمبر/ أيلول الماضي، حظيت التظاهرات في السويداء باهتمام دولي متواضع، عندما أجرى بعض السياسيين الأمريكيين والأوروبيين اتصالات مع الشيخ حكمت الهجري، لكن تراجعَ زخم الاهتمام بعد اندلاع الحرب في غزة.
مستقبل التظاهرات
وبسؤالنا عن مستقبل احتجاجات السويداء، اعتبر جمال درويش أن “النظام هو من يمتلك الإجابة عن هذا التساؤل، إلى جانب الأشقاء العرب والمجتمع الدولي”، في تأكيد منه على استمرارية التظاهرات حتى تحقيق أهدافها.
ومثل درويش، يرى الصحفي نورس عزيز أن مستقبل التظاهرات هو رهن تغيير التوجهات الدولية، والتغيرات في بقية المحافظات السورية، ويقول لـ”نون بوست” وهو من السويداء: “الواضح أن الحراك يتجه نحو الاستمرارية طالما أنه لا يوجد قمع أمني أو اعتداءات من المتظاهرين على المرافق العامة والخاصة، وأيضًا والأهم هو ثبات موقف الشيخ حكمت الهجري في دعم المتظاهرين وتشجيعه لحراكهم، الذي يستمد مشروعيته من شعاراته الوطنية السورية”.
وبعد بدء عدوان الاحتلال الإسرائيلي على غزة، حاول النظام السوري شق صف المتظاهرين في السويداء، وإيجاد شارع مؤيد له، عبر محاولات إخراج مظاهرة من الموالين له للتنديد بالجرائم بحقّ سكان القطاع، لكن كان موقف الشارع المنتفض متقدمًا، حيث أعلن الحراك منذ الأيام الأولى للحرب على غزة مناصرة المقاومة الفلسطينية.
وقبل ذلك، حاول النظام إشاعة الفوضى وخلق الفتنة، واختراق المشيخة الدرزية معتمدًا على موقف الشيخ يوسف الجربوع المقرّب منه، لكن الأخير بقيَ محايدًا تحت حسابات زخم الشارع، وشبه الإجماع الشعبي على استمرار التظاهرات.