“تم تعطيل حسابك بسبب مخالفة معايير المجتمع”، ارتفعت احتمالية تلقي مثل هذه الرسالة على حسابك في فيسبوك حال تضامنت مع المقاومة الفلسطينية داخل قطاع غزة أو نشرت فيديو لإحدى عملياتهم، ما اضطر الملايين من المستخدمين والناشطين العرب على مواقع التواصل الاجتماعي إلى تشويه بعض الكلمات بالنقاط والفواصل لتضليل خوارزميات تلك المواقع، فما سبب الانحياز الرقمي مع المحتل الإسرائيلي؟
تقدم ما تُعرف بـ”الهاسبارا” الإسرائيلية ردًا على هذا السؤال، ونموذجًا لكيفية القيام بذلك، فهي جزء من البروباغندا الإسرائيلية التي تستهدف الجمهور حول العالم بهدف إقناعه بأن القصف الوحشي لغزة، الذي أدَّى إلى مقتل آلاف المدنيين، عمل من أعمال “الدفاع عن النفس”، وتبرره بأنه رد على “الهجمات الصاروخية العشوائية التي تشنها حماس واستخدامها للدروع البشرية”.
آلة الدعاية الإسرائيلية
“هاسبارا” هي كلمة عبرية تعني “الشرح أو التفسير”، وتطلق على تقنية الدبلوماسية العامة التي تربط حرب المعلومات بالأهداف الإستراتيجية لتصدير صورة إيجابية لـ”إسرائيل” على المسرح العالمي، خاصة بالنظر إلى تحديات الصورة التي واجهتها باستمرار منذ إنشائها عام 1948.
تمثل “هاسبارا” إستراتيجيات العلاقات العامة والعقيدة الاتصالية الحربية التي تتبعها “إسرائيل” في الخارج، وتعمل على فرض روايتها الخاصة وقمع أي أصوات مخالفة أو معارضة، وتهدف إلى تبرير أفعالها وإقناع الرأي العام الدولي بدعمها في حروبها العسكرية التي تشنها على غزة.
اللافت للاهتمام أن عمر هذه الكلمة أطول من عمر دولة الاحتلال، فقد أدخل أحد زعماء الحركة الصهيونية ناحوم سوكولوف، مصطلح “هاسبارا” رسميًا على المفردات الصهيونية في مطلع القرن العشرين، ووفقًا له، فإن أي مستوطنة يهودية تُنشأ على أرض فلسطين ستعاني من تصور سيئ وصورة سلبية.
بعد اجتياح بيروت ومجزرة صبرا وشتيلا عام 1982، بدأت منظمات إسرائيلية في الترويج لـ”هاسبارا” بعد تراجع صورة “إسرائيل” في العالم، وفي أعقاب الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 و”عملية الرصاص المصبوب” بعد ذلك بعامين، وكلتاهما أضرتا بسمعة “إسرائيل” الدولية، كان هناك تحول تدريجي بين عامي 2008 و2012، أسمته الباحثة ميريام أوراغ “هاسبارا 2.0″، التي تمثل تقنيات الويب الجديدة والتطبيقات الشبكية مثل وسائل التواصل الاجتماعي ويوتيوب.
سرعان ما حوَّل الاحتلال “هاسبارا” إلى مؤسسة رسمية اهتمت بصياغة إستراتيجية تواصل وتفسير سياسات الاحتلال سواء كانت مبررة أو لم تكن، وينسق جهاز “هاسبارا” مع الحكومة الإسرائيلية ووزارة الخارجية ووزارة السياحة ومكتب المتحدث باسم جيش الاحتلال والوكالة اليهودية لأجل “إسرائيل”.
على أرض الواقع، يبدو الموضوع أكثر تعقيدًا بكثير، فهذه الوحدة تمثل أسلوبًا سياسيًا تشرف عليه وزارة الشؤون الإستراتيجية والإعلامية الإسرائيلية، وهي وزارة غير تقليدية للدبلوماسية العامة، يديرها مجموعة من ضباط الاستخبارات والأمن السيبراني، وتمولها حكومة تل أبيب بدعم هائل من أفراد وشركات عالمية.
تشمل هذه الإستراتيجية التحكم في السرد والتلاعب بالمعلومات والأخبار والجهود الدعائية التي تُبذل بالتعاون بين القطاعين الحكومي والخاص الإسرائيليين والتطوعي من ناشطين ومدونين وصحفيين بجميع اللغات، ولإنجاز مهمتها، تستهدف الدبلوماسيين والسياسيين والجمهور عبر وسائل الإعلام والمعاهد والجامعات ومراكز الأبحاث والمنظمات غير الحكومية وجماعات الضغط.
رغم قدمها وتأصلها كفكرة، تأسست “هاسبارا” بشكلها الحاليّ في العقد الثاني من القرن الـ 21، وتنشط عند كل حرب تشنها “إسرائيل” ضد الفلسطينيين، ففي عام 2012، أعلنت “إسرائيل” حربها على غزة – التي أطلقت عليها “إسرائيل” عملية “عمود السحاب” – على تويتر، وفي هذه العملية، صممت “إسرائيل” رواية عن نفسها باعتبارها “الضحية البريئة للإرهاب الفلسطيني”، رغم حقيقة أنها بدأت التصعيد، وامتلاكها قوة جوية متقدمة ضد خصم لا يملكها، وإسقاط أكثر من ألف طن من الذخائر على سكان غزة.
تلقت هذه الإستراتيجية حينها زخمًا جديدًا، من خلال الاستخدام المكثف لقنوات الاتصال الأكثر تعقيدًا في وسائل التواصل الاجتماعي، كما استغلت وظائف المتصفح وخوارزميات محرك البحث والآليات الأخرى التي تتحكم في المحتوى المقدم للمشاهدين.
التكتيك الأكثر شيوعًا هو ربط أي انتقاد للسياسات الإسرائيلية، سواء كانت انتهاكاتها لحقوق الإنسان أم الاستعمار غير القانوني للأراضي الفلسطينية، بالتعريف العملي لمعاداة السامية
وفي عام 2014، أدت الحرب التي شنتها “إسرائيل” على غزة في إطار “عملية الجرف الصامد” إلى رد فعل أكبر بكثير على سردها الإعلامي، ومع تدفق صور الدمار وجثث المدنيين الأبرياء على وسائل التواصل الاجتماعي، اضطر أنصار “هسبارا” إلى مضاعفة جهودهم في حملات علاقات عامة حاولت إعادة صياغة جرائم الحرب لتبييض أي استخدام غير متناسب للقوة، وانتهى بها الأمر إلى أن أصبحت غير فعالة.
تكتيكات “هاسبارا”
ينشط من خلال “هاسبارا” مئات الصحفيين والإعلاميين والمدونين الذين يعملون على التلاعب بالأخبار وتحريف الحقائق بما يتناسب مع الرواية الإسرائيلية، مستخدمين تقنيات وأساليب مبتكرة، باذلين قصارى جهدهم لتشويه صورة الفلسطينيين ولو بالكذب والتدليس، مؤثرين بذلك على الرأي العام الفردي والحكومي حول العالم.
لتحقيق ذلك، تعتمد “هاسبارا” على العديد من التكتيكات أولها تحريف الحقائق، وهذا الأسلوب لا يقتصر فقط على تحسين صورة “إسرائيل”، لكن أيضًا إجبار وسائل الإعلام على ممارسة رقابة ذاتية على تغطيتها لـ”إسرائيل”، فتصف وزارة الصحة في غزة بأنها تابعة لحماس، وتشكك في الأرقام الصادرة عنها، وبدلًا من الحديث عن قتل الاحتلال للفلسطينيين، تتحدث عن “موتهم أو وفاتهم”.
هذا المقال مثلًا الذي نشرته صحيفة “جيروزاليم بوست” الإسرائيلية في أكتوبر/تشرين الأول عام 2007، يدَّعى أن استشهاد الطفل محمد الدرة في 30 سبتمبر/أيلول 2000 كان مسرحية رتَّبها فلسطينيون، وأن اللقطات التي صورها المصور الفلسطيني المقيم في غزة طلال أبو رحمة هي مثال رئيسي على ما يسمونه “باليوود” (Pallywood) – التلاعب الإعلامي والتشويه والاحتيال الصريح من الفلسطينيين – لكسب حرب العلاقات العامة ضد “إسرائيل”.
نلاحظ “هاسبارا” أيضًا في محاولات “إسرائيل” إنكار جرائمها مثلما حدث بعد اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة، فبعد تحريف الأحداث واتهام الفصائل الفلسطينية بارتكاب الجريمة، والتشكيك في كل التحقيقات، قررت إجراء تحقيق شكلي لتبييض صورتها وليس محاسبة الجاني، وفي النهاية اعترفت شكليًا بارتكاب الجريمة، وحمَّلت المسؤولية لجندي واحد بدلًا من مؤسسة كاملة، واعتذر عما أسماه هذا “الخطأ المأساوي”.
التكتيك الثاني هو تحويل النقاش إلى أمور هامشية بالإضافة إلى التهديد وإرغام الجمهور على الاختيار بين “إسرائيل” وحماس، وجعل الشركات الكبرى تتخذ تدابير صارمة تجاه الأصوات المعارضة لها وقمع آرائهم وإغلاق حساباتهم بل وربط أي انتقاد للسياسات الإسرائيلية بتهم تعاقب عليها بعض الدول.
وإليك هذا المثال عام 2017، عندما اعترف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بالقدس عاصمة لـ”إسرائيل”، اندلعت احتجاجات عديدة في ألمانيا أُحرقت خلالها الأعلام الإسرائيلية، انبرت الجهات الداعمة لـ”إسرائيل” لتحويل النقاش والقضية من أحقية الشعب الفلسطيني في القدس إلى النقاش بشأن تصاعد “معاداة السامية”، وهي تهمة خطيرة في ألمانيا ذات التاريخ الحساس مع اليهود.
التكتيك الثالث هو تجنيد متطوعين من غير الإسرائيليين لإضفاء الموضوعية والمصداقية وفق زعمهم على تصرفات حكومة تل أبيب، وكان الحل عبر إطلاق برنامج “زمالات هاسبارا”، وهو برنامج لتدريب الناشطين والطلاب، خاصة في الجامعات العالمية، على نشر البروباغندا الإسرائيلية مقابل الحصول على منح دراسية بالتنسيق مع وزارة الخارجية الإسرائيلية.
هناك أيضًا كتيبات لـ”هاسبارا” صاغها خبراء ومستشارو علاقات عامة لتوزيعها على الناشطين والمؤثرين والطلاب في الحرم الجامعي، على سبيل المثال، هذا الكتيب الذي يحمل اسم “هزيمة الدعاية المناهضة لإسرائيل”، يوضح الإستراتيجية اللازمة للجدال والدخول في النقاشات لتلميع صورة “إسرائيل” وتبرير ما ترتكبه من مجازر بحق الفلسطينيين.
يشدد دليل “هاسبارا” على أهمية التسمية وربط شخص أو فكرة برمز سلبي، فـ “المقاومون مخربون” و”المقاومة إرهاب”، حتى اليهودي المعارض لـ”إسرائيل” هو “يهودي كاره لنفسه”، وتقديم “إسرائيل” على أنها جهة بريئة تحارب “تهديدًا إرهابيًا غير عقلاني”، ما يجعل أي انتقاد لأفعال “إسرائيل” بمثابة تبرير للإرهاب.
وعلى الإنترنت، تُرجم ذلك إلى دفع شركات التواصل الاجتماعي البارزة إلى تبني التكتيك الأكثر شيوعًا، وهو ربط أي انتقاد للسياسات الإسرائيلية، سواء كانت انتهاكاتها لحقوق الإنسان أم الاستعمار غير القانوني للأراضي الفلسطينية، بالتعريف العملي لمعاداة السامية الذي وضعه التحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة، وهو ما يوسع الاتهامات المحتملة لتشمل انتقاد “إسرائيل”.
وهناك دورات تدريب على كيفية التعامل مع خوارزميات مواقع التواصل لضمان ظهور موضوعات ومعلومات وتعليقات معينة، وهناك أيضًا التطبيقات الرقمية المختلفة التي تحمل اسم “هاسبارا”، وتوفر لمؤيدي “إسرائيل” الأدوات والمعلومات اللازمة لحربهم الإعلامية، وتساعد المستخدمين في العثور على الحجج التي يحتاجونها في أي نقاش.
تبييض جرائم الاحتلال
تخصص وزارة الشؤون الإستراتيجية الإسرائيلية ملايين الدولارات لمحاربة ما يصفها المسؤولون الإسرائيليون بـ”حملة نزع الشرعية عن إسرائيل”، وقد تم تكليف الوزارة بمواجهة حركة المقاطعة (BDS)، التي تراها حكومة الاحتلال أخطر من التهديد بامتلاك إيران أسلحة نووية، وحصلت على ميزانية تبلغ نحو 50 مليون دولار لعملياتها التي تقوم على تجنيد موظفين معظمهم ضباط سابقين من جهاز الاستخبارات الإسرائيلي.
أحد أهم المجالات لصد حركة المقاطعة هو المجال السيبراني والمجال العام، في هذا الموقع المدعوم من حكومة الاحتلال مثلًا، تُنشر المهام للمتطوعين الراغبين في تنفيذها، وتتنوع بين التبليغ عن الصفحات المؤيدة لفلسطين أو كتابة التعليقات الجاهزة والردود على أي منشور ينتقد “إسرائيل”.
في الوقت نفسه، تقوم وزارة الخارجية الإسرائيلية بتعبئة حلفائها في جميع أنحاء العالم، وخاصة الجماعات المؤيدة لـ”إسرائيل”، مثل لجنة الشؤون العامة الإسرائيلية (أيباك) ومقرها الولايات المتحدة، وتستخدم أدوات أخرى لإقناع حكومات العالم وبرلماناته والشركات الدولية بمعارضة وعرقلة الجهود القانونية والاقتصادية التي يبذلها أنصار المقاطعة، ويمكن وصف هذه الإجراءات بأنها جزء من الدبلوماسية العامة التي يُنظر إليها كأولوية في السياسة الخارجية.
لا تقتصر هاسبارا على وسائل الإعلام، وإنما تتجاوزها إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي تمثل هدفًا رئيسيًا للهاسبارا، حيث ينشئ القائمون عليها مواقع إلكترونية وحسابات ويرسلون رسائل منسوبة لهويات مزيفة، بالإضافة إلى إنشاء تغريدات ومشاركات بشكل مكثف لتوجيه انتباه الجمهور نحو المحتوى الذي تريده، فيما يُعرف باسم “الذباب الإلكتروني”، ويمكن أن تتحول هذه “لحيل إلى حملات تشهير وتهديدات وانتهاكات لخصوصية نشطاء ومؤيدي القضية الفلسطينية.
هناك أيضًا الصفحات الإسرائيلية الناطقة بمختلف اللغات مثل صفحة المتحدث الرسمي باللغة العربية باسم جيش الاحتلال “أفيخاي أدرعي” وصفحة “إسرائيل تتكلم بالعربية”، وغيرها العشرات بلغات العالم المختلفة، وهي جزء من الإستراتيجية الإسرائيلية المتبعة للترويج لنفسها وتقديم صورتها للمتلقي العربي مستغلة بذلك القنوات الإعلامية العربية ومواقع التواصل الاجتماعي.
في أكتوبر/تشرين الأول، نشر التلفزيون العربي تحقيقًا عن شخصيات تدعي أنها عربية داعمة للكيان المحتل، وتروج لأفكار أفيخاي أدرعي التي تدعي أن “حماس منظمة إرهابية تشبه تنظيم داعش”، ليتبين أن هؤلاء إسرائيليون عملت حكومة الاحتلال على تعليمهم اللغة العربية ليكونوا جنودًا إلكترونيين لخدمة أجندتها ودعم روايتها، ولا يربطهم بالعرب إلا لسان ناطق بلغتهم.
في حالة فشل هذا الأسلوب، هناك عدد آخر من الإستراتيجيات البالية في ترسانتهم، التي لجأ إليها مهندسو “هاسبارا”، وتقوم على الترويج لـ”إسرائيل” باعتبارها “الديمقراطية الوحيدة” في الشرق الأوسط التي تحاكي الديمقراطيات الغربية، وأنها “دولة متقدمة تكنولوجيًا”، تمتلك جيشًا “لا يقهر”، وتساعد الجميع، ويكرهها كل جيرانها دون سبب، كما تروج للمستوطنين على أنهم ضحايا وطرف بريء في الصراع عبر اختلاق واقع مزيف، وحرف الأنظار عن المجرم الحقيقي في عملية غسل أدمغة معلنة.
استخدام قضايا العدالة الاجتماعية كسلاح هو إستراتيجية أخرى يتم اعتمادها بشكل متكرر، فقد أضاف الاحتلال إلى ذخيرة “هاسبارا”، ما يُعرف بـ”الغسيل الوردي“، وهي ممارسة تبييض أو إخفاء الانتهاكات وسوء المعاملة التي يتعرض لها الفلسطينيون خلف نسخة منمقة في كثير من الأحيان للاستغلال الساخر لحقوق المثليين.
منذ اليوم الأول لعملية “طوفان الأقصى”، بدا واضحًا أن القتال لم يكن على الأرض فقط، بل هناك صراع إعلامي محتدم تعمل من خلاله “إسرائيل” بصورة مكثفة لدعم روايتها الضعيفة
الانتشار السريع لسردية “الغسيل الوردي” الإسرائيلية ولّد ما يسمى بـ”الغسيل النباتي”، فالإسرائيليون يستخدمون النظام النباتي وحقوق الحيوان لتبييض صورتهم حول العالم، وفي المقابل، تصور الدعاية الإسرائيلية الفلسطينيين باعتبارهم “قطب متضاد للإسرائيليين وغير ديمقراطيين ومعاديين للمثليين”، كما تصور وضع “إسرائيل” المحب للحيوانات جنبًا إلى جنب مع رؤية لفلسطين كملاذ لإساءة معاملة الحيوانات، لزيادة تجريدهم من إنسانيتهم بين الجماهير الغربية وتخفيف الانتقادات الموجهة لـ”إسرائيل”.
وكما هو الحال مع “الغسيل الوردي”، فإن سجل “إسرائيل” في مجال حقوق الحيوان ليس ورديًا تمامًا كما قد يتصور البعض، ففي حين أنه من الصحيح أن “المقاهي النباتية” تنتشر في شوارع تل أبيب، إلا أن “إسرائيل” بعيدة كل البعد عن الجنة النباتية التي يصورها العديد من نشطاء حقوق الحيوان الإسرائيليين.
الشق الآخر لـ”هاسبارا” هو سعيها عبر الأعمال الدرامية العالمية مثل “فوضى” و”جولدا”، لإظهار الفلسطيني على أنه “إرهابي مرتبط بأخطر التنظيمات”، وهو “خائن مراوغ”، وأن جميع الشخصيات السياسية تسعى وراء مصالحها الشخصية، وأن “الفلسطينيين لا يستحقون دولة”، هذا بخلاف استخدامها أيضًا شبكة “نتفلكس” وتطبيقات أخرى للحديث عن “القيم الإسرائيلية التي تسعى لتأمين الرفاهية للشعبين اليهودي والعربي”.
للترويج لهذه المضامين الدعائية المناهضة للعرب والمسلمين والمؤيدة لدولة الاحتلال، أَسَّست المنظمات الصهيونية في “إسرائيل” والولايات المتحدة ما يسمى بـ”مشروع إسرائيل”، وهو منظمة للدعاية والعلاقات العامة تهدف إلى تحسين صورة الاحتلال عبر مختلف المنصات الدعائية والإعلامية، مع تركيز واضح على منصات بث المحتوى الرقمي الأمريكية واسعة الانتشار، مثل “إتش بي أو” ونتفلكس، وغيرهما.
في عام 2015، أعدت الشبكة اليهودية المناهضة للصهيونية تقريرًا فضح 17 جهة رئيسية مانحة للدعاية الإعلامية الإسرائيلية بهدف التأثير على الرأي العام واستهداف المؤسسات الأكاديمية، على رأس هؤلاء كبار العائلات اليهودية الثرية والمؤسسات المرموقة مثل مؤسسة عائلة أديلسون ومجموعة كوخ براذرز (Koch Brothers) ومؤسسات سكيف (Scaife Foundations) ومؤسسة كوريت (Koret Foundation) وغيرها.
تعمل كل هذه الجهات على تمويل “هاسبارا” من أجل السيطرة على الرواية وفرض السردية الخاصة وجر كبريات مؤسسات الإنتاج الإعلامي لتكون طرفًا في الصراع، وأي شخص يتحدى خداع الإعلام الإسرائيلي بنشر معلومات صحيحة عن استهداف المدنيين والأطفال في فلسطين سيتعين عليه مواجهة كل تلك الأطراف العالمية بثقلها المالي والسياسي.
سقطات “هاسبارا” في حرب غزة
لم تكن الأكاذيب التي شرع الاحتلال في نشرها منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول عشوائية، بل جزء أساسي من إستراتيجية مدروسة ومنظمة، فقد راهن على “الحرب الإعلامية”، واستحضر مفهوم “هاسبارا” الذي يسعى إلى “تصحيح الصورة السيئة” التي يحملها العالم عن “إسرائيل”، في مسعى لتبرير ما يجري في غزة، ووفقًا لتقرير نشره موقع “فرانس إنفو”، يعرض جيش الاحتلال مقاطع فيديو لهجوم حماس للصحافة الدولية، وهو مثال على الحرب الإعلامية.
شهد الجهاز الدعائي الذي بنته “إسرائيل” على أُسُس نظرية وعلمية اقتبستها من تجربتي الدعاية النازية والسوفيتية، سقطات لا حصر لها خلال فترة قصيرة من حربها الأخير على غزة
منذ اليوم الأول لعملية “طوفان الأقصى”، بدا واضحًا أن القتال لم يكن على الأرض فقط، بل هناك صراع إعلامي محتدم تعمل من خلاله “إسرائيل” بصورة مكثفة لدعم روايتها الضعيفة، إلى درجة أنها ورطت الكثير من الصحف العالمية في الترويج لأكاذيب اُضطرت لاحقًا لنفيها، لكن النفي لن يحظى بنفس الترويج الذي حظيت به الأخبار الكاذبة.
كان أكبر دليل على الطريقة التي تعمل بها الآلة الإعلامية المضللة والداعمة للاحتلال هو الترويج لقيام حماس بارتكاب انتهاكات بحق الأطفال من خلال نشر كذبة قطع رؤوس 40 طفلًا إسرائيليًا دون تقديم دليل واضح أو مصور أو توثيق واضح بالأسماء، ورغم الأكذوبة المفضوحة إعلاميًا، فإن كبار المسؤولين الغربيين رددوا ذلك الخبر، وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي أدلى بأخبار كاذبة اُضطر البيت الأبيض لنفيها لاحقًا.
مثل هذا الأمر تكرر عندما اتهمت “إسرائيل” المقاومة الفلسطينية بالمسؤولية عن القصف الدامي على مستشفى المعمداني، لتتوالى بعد ذلك الهجمات على المستشفيات التي استخدم الاحتلال “هاسبارا” لتحويلها إلى أهداف عسكرية، وحوَّل المدنيين إلى “إرهابيين”، والملاجئ إلى مراكز لمقاتلي حماس.
إحدى وظائف “هاسبارا” تجلت في تبرير استهداف المناطق المدنية وما يترتب على ذلك من سقوط ضحايا بين المدنيين، وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل “إسرائيل” تتهم حماس باستمرار باستخدام المدارس والمستشفيات والأحياء والمصانع كمناطق عسكرية، وهذا بالأحرى “هاسبارا” في شكل معلومات مضللة تُستخدم كسلاح للرد على الغضب الشعبي بشأن الوحشية الإسرائيلية.
كما اتخذت “إسرائيل” خطوة أخرى بتبرير استخدام المدنيين الفلسطينيين “كدروع بشرية”، ومن خلال إصدار أوامر إخلاء جماعية لكل سكان شمال غزة، فإن رواية “هاسبارا” الإسرائيلية ستجعلك تعتقد أنها تحاول منع الدروع البشرية ووفيات المدنيين.
مع ذلك، يرى بعض المحللين أن إصدار أمر الإخلاء الجماعي غير الواقعي وغير العملي أعطى “إسرائيل” الضوء الأخضر لمهاجمة المدنيين، حيث يمكنها تبييض مثل هذه الهجمات بالقول إنها “حذرت المدنيين وطالبتهم بالفرار”، وهذا، بحسب المحللين، السبب وراء ضراوة الهجوم الإسرائيلي على المناطق المدنية.
خلال فترة قصيرة من حربها الأخيرة على غزة، شهد الجهاز الدعائي الذي بنته “إسرائيل” على أسس نظرية وعلمية اقتبستها من تجربتي الدعاية النازية والسوفيتية، سقطات لا حصر لها، فقد اتُهمت “إسرائيل” بتصوير شريط فيديو يزعم أنه يُظهر استسلام مقاتلي حماس في غزة، وتظهر اللقطات المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي عشرات الرجال مجردين من ملابسهم، بينما يسلم أحدهم بندقيته، لكن يبدو أن المشهد قد تم تمثيله وتصويره عدة مرات ليُظهر لحظة انتصار إسرائيلي مزعومة في غزة.
هذه ليست المرة الأولى التي تفشل فيها الجهود الدعائية الإسرائيلية، ففي مشهد مزعوم مماثل أثار جدلًا أيضًا، ادعى جيش الاحتلال أن صورًا نشرها لفلسطينيين حفاة عراة معصوبي العينين تظهر مشتبه بهم من حماس يسلمون أنفسهم، لكن مقاطع الفيديو والصور المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي ساعدت الصحفيين والناشطين في التعرف على بعض المعتقلين، ما يدحض الادعاءات الإسرائيلية بأن هؤلاء من مقاتلي حماس.
وكان هناك مقطع فيديو آخر أثار السخرية من جيش الاحتلال، عندما عرض المتحدث العسكري الإسرائيلي دانييل هاجاري “أدلة تدين أيام الأسبوع بالإرهاب” في غرفة بالطابق السفلي لمستشفى الرنتيسي للأطفال في غزة، مدعيًا استخدام حماس المستشفيات في الحرب، وأن “الروزنامة” التي أشار إليها تحمل أسماء أعضاء حماس الذين يحرسون الأسرى الإسرائيليين.
كذلك شكلت عمليات تحرير الرهائن الإسرائيليين التي شاهدها الملايين، وأظهرت توديعهم لمقاتلي المقاومة الفلسطينية، أكبر ضربة لـ”هاسبارا” في تاريخها، فسعت لتشويه صورة المقاومة ثم حاولت تحريف ترجمة تصريحات المفرج عنهم لكنها فشلت، ما يدلل على أن تأثيرها قد لا يصل إلى المدى الذي تريده “إسرائيل” خصوصًا مع زخم التظاهرات في عواصم عالمية، رفضًا لآلة القتل الإسرائيلية.
إذ سهلت وسائل التواصل الاجتماعي على الجمهور اكتشاف العيوب والتناقضات، ورغم أن العديد من الادعاءات يمكن دحضها بسهولة، فإنها قد تصرف الانتباه عن الصورة الأكبر مثل العدد المتزايد من الضحايا الفلسطينيين في غزة.
في المجمل، هذه مجرد عينة صغيرة من الدعاية الإسرائيلية التي اعتمد عليها الاحتلال لتبرير إبادة غزة، وما زالت كل هذه الجهود في حرب المعلومات وتطوير مفاهيم جديدة لتنفيذها مستمرة بلا توقف، وربما لن يوقفها إلا جهة فاعلة تتبع الأسلوب نفسه، وتستفيد من تلك الإستراتيجيات لدحض الرواية الإسرائيلية ومحاربة النار بالنار.