حمل المغاربة البندقية في وجه الفرنسيين الذين احتلوا بلادهم لنحو 43 عامًا، كما حملوا السلاح من قبل ضدّ المحتل الإسباني بهدف تحرير كامل ترابهم الوطني، ولتحقيق ذلك ظهر جيش التحرير المغربي الذي خاض عدة معارك تاريخية ضدّ الاستعمار، بقيادة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي وعدد من رفاقه.
جرائم الاستعمار
امتدت يد الفرنسيين إلى المغرب سنة 1912، وخلال فترة الاحتلال نكّل المستعمر الفرنسي بالمغاربة، وتفنّن في قتلهم والنيل من كرامتهم ونهب ثروات بلادهم الكثيرة.
دخلت فرنسا في تلك السنة مدينة فاس عاصمة المغرب آنذاك، مستغلة ثورة بعض القبائل ضد السلطان عبد الحفيظ بن الحسن العلوي، وشمل الاستعمار الفرنسي المنطقة الوسطى بالمغرب التي سيطرت عليها فرنسا بموجب معاهدة فاس، التي قسمت البلاد بموجبها إلى 3 محميات.
ضمن هذا التقسيم، حافظت إسبانيا على احتلال المنطقة الشمالية والمنطقة الصحراوية في الجنوب، فيما كانت المنطقة الوسطى تحت الاحتلال الفرنسي، بينما خضعت مدينة طنجة لحماية دولية بين فرنسا وإنجلترا وألمانيا وإسبانيا.
مارست فرنسا على امتداد فترة استعمارها للمغرب أبشع الجرائم، فقد دمّرت قبائل زيان وبني خيران والسماعلة وقصبة تادلة والقصبة الزيدانية، والبروج ووادي أم الربيع ووادي العبيد وخنيفرة، وقتلت آلاف المواطنين العزّل بمن فيهم النساء والأطفال، وواجهت المظاهرات بالرصاص الحي كما حصل يوم 29 يناير/ كانون الثاني 1944 في أغلب المدن المغربية، ويوم 7 أبريل/ نيسان 1947 ضد ساكني الدار البيضاء، ويومَي 16 و17 أغسطس/ آب 1953 في وجدة وتافوغالت (بركان)، ويوم 19 أغسطس/ آب 1955 في مدينة وادي زم (إقليم خريبكة).
جرائم فرنسا بحقّ المغاربة لم تتوقف عند هذا الحدّ، إذ أقدمت على استعمال المغاربة كدروع بشرية لها في الحرب العالمية الأولى، فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى صيف 1914، حشد الحاكم العام الفرنسي بالمغرب، الجنرال هوبير ليوتي، آلاف الجنود المغاربة للمشاركة في الحرب، وكان يُرمى بهم في الصفوف الأمامية لتلقّي الضربات الأولى، وتكرّر الأمر نفسه خلال الحرب العالمية الثانية.
فضلًا عن ذلك، عملت فرنسا الاستعمارية على إحداث تفرقة بين العرب والأمازيغ وإحداث شرخ فاضح في المجتمع المغربي المحافظ، بهدف طمس الهوية المغربية وإحداث خلخلة في النسيج المغربي، إذ مُنع عن الأمازيغ التحاكم في قضاياهم المختلفة إلى الشريعة الإسلامية، وأن يتحاكموا إلى العرف البربري، ومُنعوا أيضًا من تعلُّم الإسلام واللغة العربية.
تكررت الجرائم في شمال البلاد أيضًا، إذ تفنّن المحتل الإسباني في التنكيل بالمغاربة في منطقة الريف، وأذاقهم العذاب وأعدم قادتهم ويتّم أطفالهم، وشرّد الآلاف منهم، كما نهب ثرواتهم.
المقاومة الشعبية
تيقّن المغاربة أنه لا سبيل للخلاص من الاحتلال الفرنسي والإسباني إلا بالمقاومة، وهو ما تحقق في بداية خمسينيات القرن العشرين، وقد تعدّدت أشكالها، إذ شملت في البداية مقاطعة المغاربة استهلاك السجائر الفرنسية، وتوسّعت المقاطعة لتشمل فيما بعد الحليب والسكّر.
كما عمد الفلاحون إلى الكفّ عن استعمال الآلات الحديثة التي تأتي بها فرنسا، وعمدوا كذلك إلى إحراق محاصيلهم الزراعية ومحاصيل المستوطنين أيضًا، حتى لا يجد الفرنسيون ما يأكلون، وهي أداة ضغط قوية رغم تأثيرها على الأهالي أيضًا.
تعتبر عملية 2 أكتوبر/ تشرين الأول 1955 لحظة الولادة الميدانية لجيش التحرير المغربي.
في تلك الفترة، برزت فكرت المقاومة المسلحة مجددًا، خاصة بعد أن تحرر الأمير عبد الكريم الخطابي ولجأ إلى مصر عام 1947، إذ ساهمت هذه اللحظة بالتحديد في تصوُّر طبيعة الكفاح ضد المستعمر الفرنسي.
يعدّ الخطابي أحد أعظم أبطال الكفاح المغربي ضد المستعمر، حيث قاد المقاومة في منطقة الريف، واستطاع بذلك كسر شوكة الاستعمار الإسباني هناك، وتأسيس إمارة الريف الإسلامية في شمال المغرب، رغم أنها لم تدم طويلًا.
كما أسهم الخطابي في تأسيس جيش تحرير المغرب الأقصى مستغلًّا خبرته السابقة في حرب الريف المغربية، فنجح في قلب الموازين لصالح الطرح الوطني، فأُجبرت فرنسا على خوض مفاوضات مع المغاربة والرضوح لمطالبهم، المتمثلة في استقلال البلاد وعزل السلطان البديل وعودة السلطان الشرعي إلى عرشه.
يذكر أنه في صيف 1953 نُفي الملك محمد الخامس في جزيرة كورسيكا، ثم أُبعد يوم 2 يناير/كانون الثاني 1954 إلى مدغشقر، نظرًا إلى دعمه مواقف الحركة الوطنية الممثلة أساسًا في حزب الاستقلال، ورفضه التوقيع على القوانين التي تصدر شكليًّا باسم الملك.
يوم 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1955 عاد الملك محمد الخامس من منفاه -الذي اقتاده إليه الاستعمار- إلى وطنه، وبعدها بسنة حصل المغرب على استقلاله، إذ عاد الملك إلى عرشه بعد أن ظلَّ مخلوعًا منه منذ 20 أغسطس/ آب 1953، وحصل استقلال البلاد بفضل الشعب الذي حمل السلاح في وجه المستعمر الغاصب.
جيش التحرير المغربي
تعتبر عملية 2 أكتوبر/ تشرين الأول 1955 لحظة الولادة الميدانية لجيش التحرير المغربي، ففي ذلك اليوم هاجم قرابة 1000 مقاوم مسلح مراكز تابعة لسلطات الاستعمار الفرنسية في المنطقة الحدودية مع منطقة النفوذ الإسباني شمال المغرب، الواقعة بين مدن تازة والحسيمة وبركان.
تفاجأت سلطات الاحتلال بهذا الهجوم السريع والمنسّق، ما دفعها إلى إرسال قوات عسكرية مكوّنة من جنود سنغاليين ومظليين، وتحركت القوات الجوية لقصف المناطق الثائرة، ظنًّا منها أن القصف كافٍ للقضاء على المقاومين، لكن خاب ظنّ الفرنسيين، إذ كانت المقاومة أشد وطأة وتنظيمًا هذه المرة.
اتّسعت رقعة المعارك في مناطق الشمال عمومًا وفي إقليم تازة خصوصًا، لتشمل العديد من القرى الصغيرة، ومنها معركة “بين الصفوف” ومعركة “جبل القرع” ومعركة “بوسكور وتيزي ودارن”، وخلال هذه المعارك تكبّد المستعمر الفرنسي خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد.
خطّط لهذه العمليات إلى جانب الخطابي الذي أفلت من قبضة الفرنسيين، وطنيون آخرون من منطقة المغرب العربي، ومهّدت لها مكاتب ولجان القادة المغاربيين في العاصمة المصرية القاهرة.
بادر مقاومو جيش التحرير بشراء كمّيات من الرشاشات الآلية والقنابل اليدوية والذخيرة الحربية عبر وسطاء من إيطاليا، لكن الفضل الأكبر لبداية المقاومة المسلحة كان للسفينة “دينا” التي وفّرت السلاح القادم من مصر.
ففي ربيع 1955، وصلت إلى ساحل المغرب الشمالي الخاضع للحماية الإسبانية الباخرة “دينا” التي تعود لزوجة ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال، وعلى متنها سلاح مصري وُزّع على مقاومين مغاربة وجزائريين تدرّبوا في معسكرات خاصة في العراق وسوريا ومصر وليبيا، لينفّذوا بها عمليات عسكرية نوعية ضد مواقع الاستعمار الفرنسي شمال المغرب.
وكان شمال المغرب الخاضع للاحتلال الإسباني مُنطَلَقًا للمقاومة المغربية، بالنظر إلى الفجوة التي برزت بين مدريد وباريس في تلك الفترة، وهو ما سمح باستغلال المقاومين المغربيين لهذا التناقض، فرغم الحلف الفرنسي الإسباني كانت تناقضات مصالح البلدَين تسمح للمقاومين بهامش من المناورة.
لم تتوقف المقاومة في الشمال فقط، إنما امتدت إلى الشطر الجنوبي للبلاد أيضًا، سعيًا من قيادة جيش التحرير إلى تحرير كامل التراب الوطني، ومن ثم تحرير المغرب العربي الكبير، إذ كان هذا الجيش جزءًا من جيش تحرير المغرب العربي.
ضمّت النواة الأولى المشكِّلة لجيش التحرير مقاومين مغاربة ينتمون إلى مناطق مختلفة، وشملت منطقة اجزناية (أكنول – تيزي وسلي – بورد)، وكانت قيادته العسكرية بمدينة الناظور تحت إشراف عباس المساعدي وعبد الله الصنهاجي، وقيادته السياسية/ العامة بمدينة تطوان تحت إشراف الدكتور الطبيب عبد الكريم الخطيب والمقاومين الغالي العراقي وسعيد بونعيلات والحسين برادة وحسن صفي الدين.
بعد ذلك، انضمّت إليهم أعداد كبيرة من الجنود المغاربة المنضوين آنذاك في الجيش الفرنسي، بسلاحهم وعتادهم، حتى تعززت صفوف المقاومين من أعضاء جيش التحرير، ما أسهم في تتالي الانتصارات العسكرية، وهو ما مهّد لانتصارات سياسية لاحقًا.
وحّد جيش التحرير المغربي لأول مرة المدن والبوادي في وجه المستعمر الفرنسي، وجمع بين الحرب المباشرة في القرى والعمليات الفدائية في الحواضر، ما أجبر فرنسا على الرضوخ لمطالب المغاربة، لكن هذه النجاحات ألّبت على جيش التحرير أطرافًا داخلية عديدة، ما جعله عرضة لكثير من المؤامرات والمواجهات انتهت بتصفيته سنة 1960.
حرب الريف
استلهم جيش التحرير المغربي خططه العسكرية وتحركاته الميدانية من المقاومة المسلحة التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي بالريف خلال عشرينيات القرن الماضي، خاصة أن الخطابي قاد هذا الجيش منذ البداية.
وسبق أن حققت حركة المقاومة التي قادها الخطابي في الريف العديد من الانتصارات على الاستعمار الفرنسي والإسباني، ويُنسب إليه فضل ابتكار فن حرب العصابات.
وفي 20 يوليو/ تموز 1920، أطلق الخطابي شرارة الثورة المسلحة ضدّ الإسبان، وخرجت الرصاصة الأولى، واعتمدت استراتيجيته على غنائم المهزومين الإسبان، بعد أن أصبح جيشه يعدّ قرابة الـ 500 جندي، مقابل عشرات الآلاف من جنود الأعداء.
من أبرز معارك الريف، معركة أنوال الشهيرة التي وقعت في 21 يوليو/ تموز 1921، وتمثّلت خطة هجوم الخطابي في مهاجمة الإسبان في وقت واحد ومن جميع الجهات، وقطع خطوط الإمداد والاتصال واصطياد الجنود الفارّين، فتمَّ القضاء على معظم الجيش الإسباني بمن فيهم الجنرال سلفستر، واعترف الإسبان أنهم خسروا في تلك المعركة 15 ألف قتيل و570 أسيرًا.
هذه المعركة كانت سببًا مباشرًا لاستقلال بلاد الريف، وتشكيل حكومة دستورية جمهورية يرأسها المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي زعيم الثورة، وأُعلنت آنذاك أجدير عاصمة لجمهورية الريف الجديدة، وهو ما أثار حفيظة فرنسا التي تحتل وسط المغرب.
دفعت خطورة الوضع الفرنسيين إلى التحالف مع الإسبان، واتخاذ عدة استراتيجيات لتقويض الثوار في الريف، منها الإيعاز إلى السلطان المغربي بأن الخطابي خارج عن سلطته الشرعية، وتأليب القبائل على الخطابي، فضلًا عن استخدام الأسلحة الكيماوية المحرّمة لمجابهة المقاومين.
اضطر الخطابي إلى إعلان الاستسلام وتسليم نفسه خوفًا على أهل الريف في 26 مايو/ أيار 1926، خاصة أن المحاصيل الزراعية قد قلّت والأعداء أحكموا الحصار من الخارج والداخل عبر طابورهم الخامس، وإثر هذا القرار نفت فرنسا الخطابي إلى جزيرة معزولة في المحيط الهادي، قبل أن يهرب إلى مصر سنة 1947.
تابع جيش التحرير المغربي خطوات الخطابي، وساهم في تحرير البلاد ونيل الاستقلال، إلا أن هذا الانتصار يبقى ناقصًا إلى الآن، حيث ما زالت سبتة ومليلة تقبعان تحت الاحتلال الإسباني، ولا وجود لمساعٍ مغربية جدّية لاستعادة هذه الثغور على أهميتها.