شهد عام 2023 حراكًا غير مسبوق للسياسة التركية في المواجهة التاريخية الجارية بمنطقة جنوب القوقاز مع مثلث “روسيا – إيران – أرمينيا”، وبفضل التفوق الإستراتيجي التركي، سطرت أذربيجان صفحة في تاريخها وحررت أراضيها من محتل كان مدعومًا من جهات عظمى وإقليمية، وذلك بعد آخر عملية عسكرية شنتها في 19 سبتمبر/أيلول الماضي.
لكن الانتصار الكامل للحليفين التركي والأذربيجاني ما زال منقوصًا ولم يكتمل المشهد حتى الآن لسببين: الأول تلكؤ روسيا في اتخاذ موقف واضح، والثاني وهو الأهم، الحراك المؤثر الذي تقوده إيران وتُساند فيه “أرمينيا المسيحية” من أجل طرد تركيا من جغرافيا الصراع بجنوب القوقاز.
ممر زنغزور
مرّ أزيد من 3 أشهر مُذ أعلن وزير المواصلات والبنى التحتية التركي عبد القادر أوغلو، مع الجانب الأذربيجاني، العمل رسميًا على إنشاء المشروع الطموح الممر زنغزور، الذي يربط أنقرة مباشرة بأذربيجان ومن ثم إلى امتدادها التاريخي في آسيا الوسطى.
وفي حين باتت فرصة تفعيل ممر زنغزور تقترب يومًا بعد يوم، أظهرت طهران رغبة قوية من أجل التأثير في اتجاه الصراع وإفشال ممر زنغرور، وفي الواقع فإن إيران تمتلك نفوذًا وعلاقات خاصة تربطها بروسيا وأرمينيا، ما أكسبها الثقل الأكبر في هذه المواجهة، وإن كان الأمر متعلقًا أيضًا بموقف روسيا المشغولة في أوكرانيا.
لا توافق روسيا على ممر زنغزور ويثير قلقها، لكنها لم تبدِ أي مواقف حاسمة حتى الآن، ومن المتوقع أن تتلكأ بهدف الضغط والمساومة بورقة زنغزور، وفي الواقع، فإن تركيا أيضًا ما زالت تُمسك بورقة الموافقة على انضمام السويد للناتو، وهي ورقة تريد موسكو استخدامها لعرقلة هذا الانضمام.
ورغم اختلاف المصالح والدوافع التي تُحرك كل من روسيا وإيران وأرمينيا، فإن ثمة قواسم مشتركة – خاصة بين إيران وأرمينيا – تجعل من انخراطهم في المواجهة أقرب إلى تحالف في مواجهة تركيا وأذربيجان، وهو ما يظهر بشكل واضح في تناغم مواقف هذه القوى المنسجمة والمنسقة إلى حد كبير.
في المقابل، هناك أيضًا قدر كافٍ من التناغم والانسجام بين تركيا وأذربيجان، سمح حتى الآن باتخاذ موقف مشترك.
ويمكن القول إن الوضع الراهن المتمثل في الحرب على غزة، قد خدم مصالح موسكو وطهران، إذ كسر عزلة الأخيرة، وأُجل مشروع ممر زنغزور بعد أن كان التصعيد على أشده، خصوصًا أن إيران أظهرت خلال الأشهر الماضية رغبة واضحة بالانخراط المباشر في التصعيد ضد تركيا وأذربيجان.
ورغم أن حالة الحرب الحاليّة على غزة أبطأت من حدة الأمور بجنوب القوقاز، ما زالت المعطيات الراهنة بخصوص ممر زنغزور في نفس حالة التجاذب، ويبدو أن الصدام سيأتي لا محالة، فحتى المفاوضات الطويلة التي عقدت بين أذربيجان وأرمينيا في ختام السنة الماضية، لم تتوصل إلى نتيجة بخصوص الوضع المستقبلي لممر زانغزور، وكذلك المفاوضات الجارية بين تركيا وإيران لم تتوصل بعد إلى حل.
ولا يبدو أن باكو ستتنازل عن فكرة الممر في أي وقت قريب، ما يدل على أن محادثات السلام الأخيرة بين أرمينيا وأذربيجان أو أي اتفاق سلام يتم توقيعه سيكون عرضة للانهيار، ما لم يحدد مستقبل ممر زانغزور، وقبله حل المظالم التاريخية والتوترات الجيوسياسية المستمرة.
بوابة العودة إلى تركيا.. إعادة تشكيل المشهد
صنع الموقع الجغرافي لجنوب القوقاز إشكالات وتعقيدات كثيرة جعلت منه ساحة تنافس ومطمع للإمبراطوريات والقوى الكبرى، والحقيقة أن دول جنوب القوقاز استقرت بحدودها الحاليّة في سياق الهيمنة السوفيتية، لذا فإن دول القوقاز في وضعها الحاليّ لا تُعد وحدة جغرافية طبيعية وقومية، ومعظم حدودها اصطناعية فرضتها القوات الروسية.
ومنذ أوائل القرن الماضي، خسرت تركيا وجودها بجنوب القوقاز، وشرع بعد ذلك اللاعبون الروس والإيرانيون في الإحاطة بأنقرة وبناء حاجز بينها وبين امتدادها العرقي والثقافي، وظل الأتراك في ظل هذا الوضع الخانق يبحثون عن صيغة لإعادة الوجود والتأثير.
لا شك أن المتابع لدور أنقرة في جنوب القوقاز، يلاحظ أنها في السنوات الأخيرة شهدت تحولًا في علاقاتها الإستراتيجية مع جنوب القوقاز، فبخلاف تصاعد حجم التبادل التجاري، كان الدعم العسكري الأخير الذي قدمته لأذربيجان دليلًا واضحًا على إستراتيجية تركيا الجديدة، وتمكنت باكو من تحرير أراضيها المحتلة من أرمينيا في حرب “ناغورنو كاراباخ”، التي دارت رحاها بدءًا من عام 2020، وأعطت الطائرات التركية ميزة حاسمة لأذربيجان.
مع ذلك، لم يكن انتصار أذربيجان نهاية الصراع، فالجانب الأهم من تداعيات هذه الحرب أنها أحدثت وضعًا جيوسياسيًا جديدًا، حاولت تركيا وأذربيجان من خلاله إعادة الروابط والمصالح المشتركة، وخطط البلدان معًا لشراكة إقليمية ستغير قواعد اللعبة، وذلك عبر إنشاء “ممر زنغزور” الذي يربط إقليم ناخيتشيفان بوطنه الأم أذربيجان وصولًا إلى الأراضي التركية، وفي الحقيقة فإن ممر زنغزور لم يكن فكرة جديدة.
3 Kasım tarihinde #TürkDevri temasıyla #Astana'da gerçekleştirilen @Turkic_States 10. Zirvesi sonrasında yayınlanan bildiri ile Devlet Başkanları, @TurkiyeBurslari programını ve Azerbaycan Uluslararası Mezun Buluşması programını takdir etmişlerdir.
🔗 https://t.co/7ThDyAqaBK https://t.co/Hcd0nmXRIK pic.twitter.com/q2B2P7pGLl
— YTB (@yurtdisiturkler) November 7, 2023
بالنسبة لتركيا، فإن إنشاء الممر يندرج ضمن إستراتيجيتها الإقليمية الهادفة إلى تعزيز روابطها بالقوقاز الجنوبي ودول آسيا الوسطى، فهذه المنطقة تمثل امتدادًا عرقيًا ولغويًا وثقافيًا ودينيًا لها.
وقد صرح أردوغان في نوفمبر/تشرين الثاني 2023 خلال مؤتمر القمة العاشرة لرؤساء دول منظمة الدول التركية بأن ممر زنغزور “سيربط الأتراك بموطن أجدادهم”، وبالفعل يُعد هذا الممر ثورة جيوسياسية في المنطقة، والجسر البري الوحيد الذي يربط تركيا بأذربيجان، وبعدها إلى بحر قزوين ودول آسيا الشرقية.
وبالتالي إذا نجح هذا المشروع، فتحصل أنقرة على أقصر طريق إلى البلدان التركية في آسيا الوسطى، متجاوزة إيران وروسيا، والأهم تعزيز وجودها في المنطقة.
إيران.. العائق الرئيسي
تتمتع إيران بمكانة فريدة بسبب جغرافيتها الواقعة على مفترق طرق العالم، مع ذلك فإن هذه المكانة قد تفقد جزءًا كبيرًا من قيمتها في حالة ما تم إنشاء ممر زنغزور، بجانب أنه سيُطيح أيضًا بآمال وخطط القادة الإيرانيين المستقبلية في جنوب القوقاز.
تظهر إيران في مقدمة حراك “تحالف الخاسرين” ضد ممر زنغزور، وعلى مر القرنين الماضيين، صمتت طهران ولم تعرب عن قلقها عندما احتلت أرمينيا 20% من أراضي أذربيجان، بل كانت من أشد المؤيدين لأرمينيا ودعمتها ضد أذربيجان، رغم أن الأخيرة تشترك معها في نفس الدين والمذهب، لذا لم يكن من المستغرب أن تظهر طهران استجابةً واضحةً لموقف أرمينيا الأخير.
من وجهة النظر الإيرانية، فإن ممر زنغزور يستهدف مكانتها ومصالحها الأمنية والسياسية والاقتصادية في جنوب القوقاز، وترى أنه سيؤدي إلى محاصرتها جغرافيًا، لذا تتعامل الأوساط الإيرانية مع الممر من منطلق أمني، وهو ما حمل طهران بالفعل على مدار الأشهر الماضية، إلى رفع مستوى المناورة والتحرك النشط في حشد القوات على الحدود من أجل إرسال رسالة بأنها تمتلك زمام المبادرة في المنطقة.
ويمكن إحالة أسباب التحرك الإيراني ضد ممر زنغرور إلى عدة أسباب، أهمها: رفض إيران وصول تركيا البري إلى بحر قزوين وآسيا الوسطى وإعادة الاندماج بين أبناء المنطقة، إذ ترى أن الربط المباشر بين تركيا وأذربيجان وتقلص المسافة بينها سيعزز تطلعات ومكانة تركيا الإقليمية، الأمر الذي سيفقد إيران حرية الحركة والمناورة بالمنطقة التي تعتبرها نفوذها التقليدي ولا تريد لتركيا أن تزاحمها فيها، رغم أن الأخيرة اقترحت أن يكون ممر زنغزور ليس فقط باتجاه الشرق والغرب، ولكن أيضًا باتجاه الشمال والجنوب ليشمل طهران بوصفها دولة عبور.
لكن كانت ردة الفعل الإيرانية غاضبة في كل الأحوال، واعتبرت زنغزور ممرًا للناتو ولأتباع “الفكر الطوراني”، أي أنها ترى المشروع بمثابة تهديد لانتشار القومية التركية في المنطقة، لذا خرجت تصريحات من أعلى المستويات أبدت رفضها لما اعتبرته “تغييرًا في جيوسياسية المنطقة”، وأكد وزير الدفاع الإيراني عدم قبول بلاده أي تغيير جيوسياسي في المنطقة، كما انتقد المرشد الأعلى خامنئي ممر زنغزور في محادثات له مع رئيسي روسيا وتركيا.
إضافة إلى تحذيرات وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان بأن بلاده لن تتسامح مع أي تغييرات جيوسياسية في جنوب القوقاز، بجانب التصريحات المتكررة للقادة العسكريين بأنهم لن يسمحوا بمثل هذه الخطوة التي اعتبروها “خطًا أحمر”، وعملوا بالفعل على تعزيز الحشود العسكرية في المنطقة الحدودية المحاذية لأذربيجان وأرمينيا.
علاوة على ذلك، ففي حالة تنفيذ الممر، فإن إيران ستحرم من الاتصال بالشمال، أي أرمينيا وروسيا وجورجيا وأوروبا، فطريق إيران إلى أوروبا يمر عبر أرمينيا وأذربيجان وتركيا، وبالتالي سيقل دورها في طريق العبور بين الشرق والغرب وستحرم من مزايا اقتصادية وجيوسياسية عدة، خصوصًا أنها تعتمد بشكل كبير في نقل صادراتها إلى دول البحر الأسود على حدودها مع أرمينيا.
وبدلًا من ورقة التحكم في تجارة تركيا مع وسط آسيا والرسوم التي تفرضها طهران على الشاحنات المتجهة إلى أذربيجان وتركمانستان – تحصل إيران على 15% من قيمة الغاز الذي تصدره أذربيجان إلى إقليم ناختشيفان عبر الأراضي الإيرانية – سيكون لأذربيجان وتركيا اليد العليا، وستخسر طهران العائدات التي كانت تحصل عليها، كما ستعتمد على أذربيجان في مرور بضائعها وستدفع رسومًا للأولى، وهذا التحول غير مقبول وفقًا للقادة الإيرانيين الذين اعتادوا التفرد بمسارات التجارة والنقل في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى.
أيضًا تنظر طهران بريبة نحو أذربيجان رغم أن الأخيرة ذات غالبية شيعية، ويرجع ذلك إلى أن الأذربيجانيين يمثلون ثاني أكبر القوميات في إيران، ويشكل الأذريون الأتراك من 16 إلى 25% من سكان إيران، كما يطلق عليهم في أذربيجان اسم “أذربيجان الجنوبية”.
وهناك بالفعل حركات انفصالية في المحافظات الإيرانية ذات الأغلبية الأذرية تطالب بتوحيد أذربيجان الكبرى، وبالتالي يخشى المسؤولون الإيرانيون من تداعيات نجاح ممر زنغزور على أذربيجان، وما قد يترتب عليه من صعود المشاعر القومية والنزعة الانفصالية داخل مناطق العرقية الأذرية التي تهيمن عليها طهران.
وفي الواقع، هناك قناعة متزايدة اليوم لدى صانع القرار الإيراني بأن تركيا تعمل على إخراج إيران من الجغرافيا السياسية بجنوب القوقاز. ومن المهم الإشارة كذلك إلى أن طهران تتعامل بعجرفة شديدة مع فكرة الممرات المنافسة، فعلى سبيل المثال، أضعفت في السابق الممر العراقي-التركي ورأت فيه محاولة من جانب أنقرة للتسلل إلى العراق الذي تعتبره حديقتها الخلفية، وتعتبر الآن العائق الرئيسي أمام ممر زنغزور.
ويبدو أن الإدارة التركية ترغب بالانخراط المدروس في المشهد الإقليمي بالقوقاز، ومن جانب آخر تدرك حجم التهديد الإيراني الذي ردت عليه للمرة الأولى بمناورات عسكرية مع أذربيجان في المنطقة الحدودية مع إيران.
ومن اللافت أن أردوغان اشترط تطبيع العلاقات مع أرمينيا مقابل موافقته على فتح ممر زنغزور، كما أشار بشكل صريح إلى أن الأمر لم يعد يقتصر على مواجهة العوائق التي تحاول أرمينيا فرضها أمام ممر زنغزور، بل معظم العراقيل متعلقة بإيران.
وإلى الآن ما زالت طهران تدعو أذربيجان إلى إلغاء فكرة ممر زنغزور، ففي آخر اجتماع جمع الثنائي: أرمين غريغوريان أمين مجلس الأمن الأرميني وخلف خلوف ممثل أذربيجان للمهام الخاصة مع الرئيس الإيراني، حذر الأخير من أن إيران تنظر إلى ممر زنغزور باعتباره نقطة انطلاق للناتو في المنطقة، وأنها ستعارض بشدة كل الجهود المبذولة لإنشائه.
وفي حالة إصرار تركيا وأذربيجان على السعي لتحقيق هدفهما الخاص، فقد تنشط إيران بشكل أكبر في المدى القريب لجعل موقف روسيا أكثر تشددًا، مع ملاحظة أن إيران تركز في دعايتها على أن ممر زنغزور هو مؤامرة “لمنح الناتو موطئ قدم” في المنطقة، كما تشير إلى تركيا باعتبارها العمود الفقري لحلف شمال الأطلسي.
أذربيجان.. معضلة الترويض
تتمتع أذربيجان بمزايا جغرافية هائلة، لكن الوضع المشتت الذي عاشته في السابق حرمها من الاستفادة من موقعها الإستراتيجي، وتقول باكو إن ممر زنغزور سيصبح جزءًا من “الممر الأوسط” وهو طريق تجاري يربط الصين وأوروبا عبر آسيا الوسطى وتركيا.
وفي الحقيقة لا تكمن فقط أهمية ممر زنغزور في تنمية أذربيجان اقتصاديًا وجعلها مركزًا لوجستيًا أساسيًا في منطقة القوقاز، وكذلك بين أوروبا وآسيا، الأهم أن هذا الممر سيعيد توحيدها مع جيوبها وسيمنحها حرية الوصول إلى باقي الأراضي الأذرية المنفصلة عنها جغرافيا ودون العوائق والجمارك ونقاط التفتيش الأرمنية.
وأيضًا سيلعب الممر دورًا مهمًا في أمن الأراضي الأذربيجانية المحررة حديثًا، ولن يحتاج الأذربيجانيون إلى المرور عبر الأراضي الإيرانية ليسافروا إلى جمهورية ناختشيفان المتمتعة بالحكم الذاتي وكذلك مع تركيا شريكتها الإستراتيجية والطبيعية، لذا تعتبر باكو الممر ضرورة تاريخية.
مراسم استقبال رسمية للرئيس أردوغان في المجلس الأعلى بجمهورية نخجوان ذاتية الحكمhttps://t.co/Qn0etiaRrv pic.twitter.com/fuvgTnovG4
— الرئاسة التركية (@tcbestepe_ar) September 25, 2023
والواقع أن أذربيجان تسعى إلى تنفيذ الممر بأسرع وقت ممكن، وفي تصريحات لوزير الخارجية الأذربيجاني، قال إن بلاده قد تتجه لفتح ممر زنغزور شاءت أرمينيا أم أبت، وقد أشار علييف إلى أنه قد لا يكون أمامه خيار إلا فتح ممر زنغزور بالقوة، ومع ذلك، ما زالت تركيا وأذربيجان تواصلان المُضي في استخدام المفاوضات مع إيران من أجل خفض التصعيد والتفاهم بشأن مشروع الممر.
وفي خطاب له قبل أيام قليلة، ناشد الرئيس علييف، أرمينيا أن تستخلص الدروس من هذه الأحداث الأخيرة وأن تتصرف بشكل مقبول، ورغم توتر الوضع حاليًّا، تقوم أذربيجان ببناء مشاريع البنية التحتية وبناء طريق بري جديد لاستكماله عبر منطقة زنغزور، في إصرار وجهد واضح من أذربيجان لجعل الممر حقيقة واقعة بأي شكل من الأشكال، واللافت أيضًا تأكيد وزير النقل والبنية التحتية التركي أورال أوغلو منذ يومين بأن “ممر زنغزور” لن يتم استبداله وسيكون مكتملًا بحلول عام 2028.
أرمينيا.. نفق مغلق
لقد مثل انتصار أذربيجان الأخير كابوسًا لأرمينيا، وما زالت حتى اللحظة تتمسك بموقفها الكلاسيكي واعترضت وبشكل ثابت في المحافل الدولية على ممر زنغزور، تمامًا مثل إيران، تخشى أرمينيا بشكل أساسي من نمو نفوذ تركيا في المنطقة، ورأت أن الممر سيقوض سيادة البلد وسيشوه وحدة أراضيها بسبب ما اعتبرته ضخًا للقومية التركية، وبدلًا من ممر زنغزور، اقترح الرئيس الأرمني إنشاء ممر يكون لبلاده سيطرة عليه وقد أسماه “ممر مفترق طرق السلام”.
ՀՀ կառավարությունը ներկայացնում է «Խաղաղության խաչմերուկ» նախագիծը։
The Government of the Republic of Armenia presents «Crossroads of Peace» project. pic.twitter.com/VGrRtMEHiT
— Nikol Pashinyan (@NikolPashinyan) November 18, 2023
وفي الواقع، بات موقف أرمينيا أكثر ضعفًا مع الوقت، خصوصًا أن هناك نصرًا عسكريًا واضحًا لأذربيجان، بجانب أن جيشها أصيب بالشلل التام وغير قادر على الدخول في حرب جديدة، وأيضًا عندما نقارن الاقتصاد والتجارة بين البلدين، هناك تفوق واضح لباكو.
ويرى ستيفن بلانك الباحث البارز في المعهد الأمريكي للدراسات السياسة الخارجية، أن أرمينيا لم تعد قادرة على التأثير في إفشال ممر زنغزور بسبب تداعيات الحرب في أوكرانيا، التي جعلت موسكو لا تنحاز بشكل أعمى للأولى.
وتحاول السياسية الأرمنية في التعامل مع ملف ممر زنغزور إدخال المنظومة الغربية وتنشيط اللوبي الأرمني في فرنسا والولايات المتحدة، وقد تم بالفعل استدعاء الأمريكيين إلى الصراع، وأجرت أرمينيا تدريبات مع الجيش الأمريكي، الأمر الذي أغضب موسكو بشدة وطالبت حليفتها التقليدية قبل أسابيع عدم الجلوس على كرسيين في وقت واحد، والتخلي عن انتهاج سياسات مزدوجة.
وتجدر الإشارة إلى أن أرمينيا حصلت مؤخرًا على منظومة أسلحة كبيرة من الهند، وهو أمر بالغ الأهمية يشير إلى تحول محوري في الديناميكيات والجغرافيا الإقليمية، وقد وصف الرئيس علييف دعم الهند لأرمينيا بأنه “سلوك غير ودي”.
واللافت كذلك أن الاتحاد الأوروبي يشارك في هذا الصراع بطريقة متناقضة، إذ يدعم موقف أرمينيا، ثم في نفس الوقت يعد أكبر عميل ينتظر في طابور النفط والغاز من أذربيجان إلى جانب فرنسا، وفي نوفمبر الماضي، حاولت باريس التصرف كعملاق في جنوب القوقاز، وأرسلت أسلحة إلى أرمينيا، ومسؤولًا عسكريًا لتدريب الجنود الأرمن، بجانب المعدات العسكرية، وتشير بعض التقارير إلى أن أرمينيا تمد العصابات الانفصالية في قرة باغ بالذخيرة والسلاح.
وقد وصف كبار المسؤولين الأذربيجانيين فرنسا مرارًا وتكرارًا بممارسة “الاستعمار الفرنسي الجديد”، كما اتهم علييف فرنسا بأنها تعمل على تأجيج التوترات.
من ناحية أخرى، تبنت أرمينيا الموقف الإيراني بكل تفاصيله تجاه ممر زنغزور، وباتت تراهن على طهران أمام أذربيجان وتركيا، ومن مؤشرات التقارب الأرمني الإيراني الأخير، إنشاء قنصلية إيرانية في منطقة سيونيك بجنوب أرمينيا وبجوار الحدود الأذربيجانية، وزيادة ملحوظة في الاجتماعات رفيعة المستوى بين المسؤولين الإيرانيين والأرمن، بجانب تعزيز العلاقات الاقتصادية، والواقع أن إيران تستخدم أرمينيا مرارًا وتكرارًا كأداة ضغط لتحقيق مصالحها الجيوسياسية والاقتصادية.
روسيا.. الإمساك بالأوراق
تمتلك موسكو نفوذًا قويًا على طهران وأرمينيا يجعلها من أهم اللاعبين القادرين على تحديد مستقبل ممر زنغزور، وهي بالأساس الضامن على الأرض لاتفاق وقف إطلاق النار.
ورغم وجود قاعدة عسكرية روسية و10 آلاف جندي روسي في أرمينيا، إضافة لاعتماد أرمينيا على السلاح الروسي، بجانب أنها عضو في منظمة الأمن الجماعي التي تضم روسيا ولا تضم أذربيجان، لم تستجب موسكو لطلب أرمينيا بإيقاف أذربيجان واستعادة الأراضي التي حررتها باكو.
وهو ما شكل صدمة وخيبة أمل للأخيرة التي توقعت مساندة عسكرية من موسكو كون الأخيرة منذ قرون انحازت بالكلية لها – زواج كاثوليكي – وساعدتها على احتلال أجزاء من أذربيجان، لذا صرحت أرمينيا بأنها ستعيد النظر في تحالفاتها الإستراتيجية مع روسيا بعد سيطرة أذربيجان على إقليم قرة باغ 2023.
من الواضح أن مقتضيات الحرب على أوكرانيا ساهمت في تغيير السياسة الروسية تجاه أذربيجان، خاصة مع حاجة موسكو اليوم إلى فتح خطوط نقل إضافية مع تركيا بعد سياسة العقوبات التي ينتهجها الغرب ضدها وإعاقة حركة الشحن نحو أوروبا.
لكن روسيا من حيث المبدأ لا ترتاح لفكرة ممر زنغزور وتعتبره بلا شك تحديًا، وما زالت حليفًا وثيقًا لأرمينيا وترغب فى استمرار دعمها، كما أن جنودها يتمركزون في أراضي وحدود أرمينيا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي.
وترغب موسكو بهذا البقاء، لأن الوجود العسكري على الأرض يمنحها الكثير، إضافة إلى أنها تخطط لزيادة وجودها العسكري في أرمينيا، وهو ما يعد “إشارة مهمة إلى الجميع”، مع ذلك، فظروف الحرب على أوكرانيا أجبرتها على خلط الأوراق من أجل تعزيز قدرتها على الابتزاز والمساومة في مصالحها الإقليمية الأوسع.