إن الإجابة عن أداة السؤال “هل” يجب أن تكون صريحة، إما “نعم” أو “لا”، وعليه بات من المتاح لنا أن نُجيب عن السؤال المطروح بـ”نعم”، نعم انتصرت الدبلوماسية التركية والقطرية المشتركة على دبلوماسية الدول الخليجية الأخرى، والقول هنا لا يعتمد على التعاطف مع طرف على حساب آخر، بل على مؤشرات عملية توضح حقيقته.
إن الخطاب الذي ألقاه الأمير القطري تميم بن حمد، يوم الجمعة 21 من تموز/يوليو، أي قبل زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إلى قطر بيومين فقط يوحي أن الطرفين وكأنهما خططا لإعلان انتصار دبلوماسيتهما خطيًا وإعلاميًا عبر الخطاب الذي اتهم دول الخليج الأخرى باستغلال ثرواتها في فرض نفوذها الجبري على الدول الأخرى، وعمليًا عبر الانتقال إلى تطبيق الاتفاقيات العسكرية المُبرمة بينهما، والاستعداد لإجراء مناورات عسكرية مشتركة مع القوات الأمريكية، وبدء التحرك الدبلوماسي في سوريا واليمن بمعزل عن خطط الدول الخليجية الأخرى.
مؤشرات الانتصار الدبلوماسي
في حين ادعينا وجود انتصار للدبلوماسية القطرية والتركية ضد دبلوماسية دول الخليج الأخرى لا سيما الإمارات، بات لزامًا علينا الحديث عن مؤشرات هذا الانتصار، والتي يمكن اختصار أهمها في أربع نقاط:
1ـ دعم الإعلام الغربي لا سيما الأمريكي، للرؤية القطرية في الأزمة، والتي ادعت وجود نية لدى دول الخليج المحاصرة لفرض وصاية غير قانونية على سيادتها.
2ـ اختيار وزارتي الخارجية والدفاع سبيل تأييد قطر، للحفاظ على المصالح الأمريكية المهمة فيها، وإجراء وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، أول زيارة له في منطقة الأزمة إلى قطر وتوقيعه معها “اتفاق محاربة الإرهاب” عملًا بالنقاط الصادرة عن قمة الرياض التي عُقدت في السعودية وليس قطر.
ـ تراجع دول الحصار عن المطالب العشر والاكتفاء بـ6 مبادئ مخففة جدًا مقارنة بالمطالب المذكورة.
الصدام بين المؤسسات الأمريكية: تجلت ملامح الصدام في دعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في البداية موقف الدول المحاصرة
ـ تمكن تركيا من نشر قواتها في قطر وإقناع المملكة العربية السعودية، ولو بشكل نسبي، بعدم وجود نية تركية لخوض الأزمة وكأنها طرف فيها، فضلًا عن إظهار السعودية نيتها عن عدم اتخاذ تركيا كطرف خصم مساند لقطر عن طريق توقيعها عدة اتفاقيات اقتصادية وعسكرية معها، وهذا انتصار تركي قطري دبلوماسي واضح ضد الإمارات على وجه التحديد، إذ نجت تركيا من السقوط في بوتقة الاتهام الموجهة لقطر، وبالتالي كسبت قطر استمرار وجود الدعم التركي لها من دون تشكيل دول الخليج الأخرى أي عائق أو اعتراض عليه، وتم تصديق ذلك بتراجع تلك الدول عن مطالبتها بإغلاق القاعدة التركية، كما يُعتبر إعلان قطر عن وجود تحضيرات لإجراء مناورات قطرية أمريكية تركية مشتركة مؤشرًا صارخًا على انتصار دبلوماسيتهما.
عوامل ساهمت في هذا الانتصار
ـ عدم اتباع الدول المحاصرة استراتيجية الأمننة الهيكلية: يبدو أن هذا العامل هو العامل الأهم والأساسي، إن استراتيجية الأمننة تعني تحديد عنصر ما على الساحتين الداخلية الدولية على أنه يشكل تهديدًا أو خطرًا على المصالح المشتركة، والاتجاه نحو تأسيس تحرك إقليمي أمني سياسي مشترك ضد هذا الخطر.
ولا تتم هذه الاستراتيجية في يوم وليلة كما فعلت دول الخليج، بل تحتاج إلى ترتيبات وتحركات متتالية، لا سيما على الصعيد الخطابي أو الفعلي الكلامي الذي يؤدي دورًا خطابيًا مقنعًا للجمهور الداخلي ودول الساحة الدولية، ويتم الاعتماد في هذا الخطاب على فكرة سياسية يتم إظهارها على أنها تتعارض مع الإطار العام، خطوات هذه الاستراتيجية وفقًا لمدرسة كوبنهاجن الأمنية تهدف بشكل أساسي تهيئة الساحتين الداخلية والدولية للتحرك ضد طرف ما، وتتجلى هذه الخطوات في النقاط التالية:
ـ إعلان الطرف المستهدف على أنه تهديد وجودي.
ـ إقناع الكيان المرجعي، أي الشعب، بضرورة الوقوف وراء الحكومة في هذه الإجراءات.
ـ إجراء تحركات استباقية كسبق الخصم في الاتجاه نحو مجلس الأمن، إجراء تحركات حقوقية كالمقاطعة أو الاستنكار.
ـ شرعنة التحركات والانتهاكات باسم المصالح القومية العليا للحفاظ على بقاء الدولة.
بينما تحتاج الخطوات المذكورة أعلاه وقتًا معينًا لإقناع الجمهور والدول الأخرى بالتحركات المتخذة في إطار الأمننة، نجد أن دول الخليج المحاصرة قامت بالأمر في يوم وليلة، الأمر الذي نتج عنه صدمة لدى الجمهور والدول الأخرى التي لم تستطع استيعاب الأمر، وتعرضت للدبلوماسية القطرية العامة، الإعلام والتحرك المنظماتي وغيرها، القوية.
تم إعلان قطر على أنها تهديد وجودي، وسرعان ما فُرض حصار شامل ضد قطر، متخطية بذلك نقطة الإقناع والتأهيل الإعلامي للمتابعين، بل وفرضت عقوبات غير قانونية على المعارض للحصار الذي يبدي تعاطفه مع قطر، الأمر الذي أفشله في الوصول إلى النقطة الأخيرة التي تسمح لها القيام بكل الانتهاكات التي يمكن شرعنتها في ظل التهيئة الإعلامية.
ـ الصدام بين المؤسسات الأمريكية: تجلت ملامح الصدام في دعم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في البداية موقف الدول المحاصرة، لكن سرعان ما انتفضت وزارتا الدفاع والخارجية لإصلاح ما أفسده الرئيس فقير الخبرة والخلفية السياسية، معلنتين عدم التخلي عن التعاون مع قطر التي تحتضن أكبر قاعدة جوية أمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
وإذا تابعنا تسلسل الأحداث، نجد أنه على الرغم من التصريحات المتضاربة للإدارة، انتصرت في النهاية المؤسسات على الرأي الشخصي للرئيس، فزيارة ريكس تيلرسون الأولى للمنطقة انطلقت من قطر، وفي ذلك رسالة واضحة لعزم الولايات المتحدة على الاستمرار في تعاونها مع قطر وعدم مجاراة مواقف الدول الخليجية الأخرى، فضلًا عن توقيع اتفاق محاربة الإرهاب مع قطر أولًا.
متابعة تحرك الإعلام القطري والتركي، نجد أنهما اتبعا خطابًا لغويًا متين البنية متكامل الذرائع
ـ الهوية المشوهة لدول الخليج: على الرغم من الحشد الإعلامي الذي قامت به دول الخليج المعترضة على سياسات قطر، فإنها عجزت عن إقناع جمهور ودول العالم بموقفها، ومرد ذلك ليس عدم تسلسلها في تطبيق استراتيجية الأمننة فقط، بل هويتها سيئة السمعة حول العالم، فهذه الدول يضرب بها المثل في خنق الحريات وعدم احترام الآراء المخالفة لرؤيتها وتمويلها للإرهاب وفقدانها للهوية المؤسساتية العقلانية، وغيرها الكثير من النقاط التي تسببت في عدم اقتناع دول العالم بموقفها.
ـ مخالفة القانون الدولي: خالفت دول الخليج الفصل السادس من قانون الأمم المتحدة المتعلق بالنزاعات، والذي يقضي بضرورة حل النزاعات بين الأطراف بالمفاوضات والتحقيق والتوفيق قبل اتخاذ إجراءات عدوانية، وخالفت كذلك الفصل السابع المتعلق بالإجراءات التي يتم اتخاذها في حالات تهديد السلم ووقوع العدوان، والذي يقضي بضرورة الرجوع إلى مجلس الأمن ليبت في طبيعة الادعاء عن وجود تهديد أو خطر معين، فضلًا عن مخالفتها لمواثيق اتفاقيات جنيف لحقوق الإنسان، الأمر الذي دفع بعض دول الاتحاد الأوروبي على وجه التحديد والدول الغربية الأخرى عمومًا إلى اتخاذ موقف غير متناغم مع رغبات الدول الخليجية.
ـ الإرادة السياسية لتركيا وقطر: عكست تركيا إرادتها السياسية في تعجيل عملية نشرها لقواتها وفقًا لاتفاقية الدفاع المشتركة المبرمة بينها وبين قطر، أما قطر فأظهرت إرادتها السياسية بثباتها على موقفها وشروعها في جولات دبلوماسية مكثفة وحملات إعلامية موسعة، أفضت إلى إقناع جمهور ودول العالم بموقفها الذي ركز على نقطتي السيادة ومحاولة الدول الخليجية الأخرى فرض الوصاية عليها.
استطاعت تركيا وقطر امتصاص صدمة إجراءات دول الخليج وتجاوز إجراءات الأزمة
ـ التركيز على شق صفوف الدول المحاصرة: اضطلع كلا الطرفين بهذا الدور، فبينما اتكأت قطر على قناة الجزيرة التي بينت طموح الإمارات المهددة للمصالح السعودية في أكثر من منطقة جغرافية في الإقليم، لتحقيق ذلك استندت تركيا إلى مخاطبة السعودية بوصفها الدولة الكبرى في المنطقة، والتي يجب أن تقوم بدورها الإصلاحي المجمع للإخوة.
ـ الدبلوماسية العامة الناجحة: تشمل الدبلوماسية العامة أساليب القوة الناعمة كوسائل الإعلام والاستثمارات الاقتصادية المنتشرة حول العالم وغيرها، وفي متابعة تحرك الإعلام القطري والتركي نجد أنهما اتبعا خطابًا لغويًا متين البنية متكامل الذرائع، ساهم في دفع عدد واسع من الدول لتأييد سياسة قطر، وفي إطار هذه النقطة نجد أن وسائل الإعلام القطرية انقلبت انقلابًا كاملًا على تحركات دول الخليج في اليمن على وجه التحديد بعد أن كانت داعمة لها وبقوة، وهنا تتجلى براغماتية وميكيافلية قطر في تعاملها السياسي حيال التطورات السياسية.
ـ التوازنات الدولية: أبدت تركيا تحركًا عاجلًا معتمدًا على إرادة سياسية صلبة انبثقت عن تخوفها من ميل قطر للتعاون مع إيران أو رضوخ قطر، وبالتالي نهاية قطب تركيا ـ قطر مقابل قطب الإمارات ـ السعودية، أما الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا وألمانيا، فوجدت في مساندتها لقطر التي تملك خيوطًا مع أغلب الجهات المتصارعة والمتنازعة في المنطقة، والتي دافعت عن نفسها أمام تحركات الدول الخليجية الأخرى بحرفية أظهرت نفسها على أنها ترغب في التحرك باستقلالية من دون وصاية أي طرف من الأطراف.
في الختام، استطاعت تركيا وقطر امتصاص صدمة إجراءات دول الخليج، وتجاوز إجراءات الأزمة بفضل عامل أساسي ألا وهو استعجال دول الخليج في تطبيق إجراءاتها ضد قطر من دون اتباع قواعد السلم الهرمي الخاص باستراتيجية الأمننة.