ثارت تكهّنات المراقبين للشأن الأفريقي بشأن مستقبل نشاط مجموعة فاغنر الروسية، في أعقاب مصرع زعيمها يفغيني بريغوجين بحادث طائرة بروسيا في أغسطس/ آب الماضي، خاصة أن بريغوجين ألمح إلى وجوده في القارة السمراء في آخر مقطع فيديو ظهر فيه قبل مصرعه، حيث تنشط فاغنر في عدة دول أفريقية، وتشكّل منافسًا قويًّا للنفوذ الغربي في القارة.
ظهر بريغوجين ممتشقًا بندقيته ومرتديًا زيه العسكري، خلفه أرض مسطحة يرجّح أنها في غرب أفريقيا، وقال في تصريحه المصور قبل مقتله بأيام، إنه يقوم بتجنيد رجال أقوياء يقومون بالمهام التي حددتها روسيا، “لنجعل روسيا أعظم في جميع القارات، وأفريقيا أكثر حرية.. لنجعل الحياة كابوسًا على “داعش” والقاعدة والآخرين”.
ويرجّح الصحفي الفرنسي بينوا برينجر، مخرج الفيلم الوثائقي “صعود فاغنر”، أن بوتين رتّب سرًّا لتصفية زعيم المجموعة بريغوجين، انتقامًا من المحاولة التي وُصفت بالانقلابية في يونيو/حزيران الماضي، وخشية تكرارها في المستقبل.
ورجّح برينجر في حديث لـ”بي بي سي” أن بوتين احتاج الى وقت لتنظيم عملية الاغتيال، وهذا ما يفسّر سبب انتظاره شهرَين قبل التخلص من بريغوجين، بحسب الصحفي الفرنسي.
فاغنر ضرورية للكرملين
الشبكة البريطانية استفسرت من برينجر عن توقعاته بشأن مجموعة فاغنر بعد مقتل قائدها، وعمّا إذا كانت ستظل باقية أم سيتم إنهاؤها، فردّ بقوله إن فاغنر “ضرورية في أفريقيا” من حيث تعزيز المصالح الروسية، وأضاف: “من المؤكد أن الهيكل سيظل موجودًا هناك، ربما لم يعد تحت اسم فاغنر، لكن مع رئيس جديد موالٍ للكرملين”.
وقال إن فاغنر “أظهرت للكرملين كيف يمكن لجيش غامض خاص، قادر على العمل خارج القانون تمامًا، أن يكون مفيدًا في حروبه الهجينة، وكذلك لكسب النفوذ في الخارج”.
يبدو أن توقعات برينجر في طريقها لتصبح حقيقة ماثلة، إذ كشفت صحيفة “فيدوموستي” الروسية مؤخرًا، أن موسكو بدأت تشكيل “الفيلق الأفريقي” ليحلَّ محل قوات فاغنر، على أن يكتمل هيكله بحلول صيف 2024، وينشط في 5 دول أفريقية.
ونقلت الصحيفة الروسية عن مصدرَين قريبَين من وزارة الدفاع قولهما: “إن وحدات الفيلق الأفريقي تخطط للانتشار في ليبيا وبوركينا فاسو ومالي وجمهورية أفريقيا الوسطى والنيجر”، مشيرة إلى أن الفيلق المذكور سيكون تابعًا بشكل مباشر لوزارة الدفاع، وأن من سيشرف عليه نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكيروف، الذي تعددت زياراته إلى المنطقة خلال النصف الثاني من عام 2023.
40 ألف مقاتل
وفقًا لتقرير الصحيفة الذي ترجمته وكالة “أنباء الأناضول” التركية، فإن “الفيلق الأفريقي” سيشكَّل من 40 ألف مقاتل، منهم عسكريون نظاميون إلى جانب مسلحي فاغنر السابقين، وأيضًا مجموعات أمنية خاصة تابعة لشركات روسية تعمل في أفريقيا.
وذكر التقرير أن مخطط وزارة الدفاع الروسية للفيلق يقوم على اتخاذ المنطقة الشرقية في ليبيا، التي يسيطر عليها الجنرال المتقاعد حفتر، قاعدةً رئيسية له، للانتشار منها إلى بقية البلدان الأفريقية، وذلك كان سبب لقاءات نائب وزير الدفاع الروسي يونس بك يفكيروف بحفتر ببنغازي في أغسطس/ آب الماضي، قبل أن يجتمعا من جديد في نهاية سبتمبر/ أيلول في موسكو.
عن أسباب اختيار شرق ليبيا مقرًّا لـ”الفيلق الأفريقي” الجديد، قال الباحث في العلاقات الدولية أحمد زمراوي إن له علاقة كبيرة بقرب ليبيا من البحار الدافئة، وقربها كذلك من ميناء طرطوس في سوريا، حيث توجد أكبر قاعدة عسكرية روسية خارج نطاق الاتحاد السوفيتي السابق.
موقع ليبيا الأمثل لـ”الفيلق الأفريقي”
ويوضح زمراوي في حديث لـ”نون بوست” أن موقع طبرق في شرق ليبيا “يتيح للروس سهولة الوصول إلى قاعدتهم في طرطوس، إلى جانب إمكانية الربط بين تلك القاعدة وتحالف دول الساحل الأفريقي (مالي والنيجر وبوركينا فاسو)، التي أصبحت حليفة لروسيا بعد الانقلابات التي شهدتها تلك الدول”.
ويرى أن الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، بحكم أنه حليف موثوق للكرملين، يمكن أن يقدّم العديد من الخدمات للمخطط الروسي، بما في ذلك تسليح المقاتلين وتدريبهم وصيانة الأسلحة وتوفير قطع الغيار.
وبسؤاله عمّا إذا يتوقع أن يكون هناك اختلاف بين “الفيلق الأفريقي” وفاغنر من حيث الأهداف وطريقة العمل، قال زمراوي لـ”نون بوست” إنه لا يتوقع أن يكون هناك أي اختلاف، وأضاف: “تتنوع المسميات لكن الأهداف ستظل كما هي: حماية المصالح الروسية، دعم الانقلابات العسكرية، إغراق القارة السمراء بالأسلحة الروسية، الاستيلاء على الموارد الطبيعية المحلية لتمويل فيلق المرتزقة كما كانت تفعل فاغنر”.
تحدٍّ جديد للغرب
وفقًا لمعهد دراسة الحرب -مركز بحثي أمريكي مختص بقضايا الدفاع والشؤون الخارجية-، فإن موسكو تتطلع إلى ترسيخ نفوذها في القارة السمراء، وسط المنافسة مع الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، من خلال استيعاب مجموعة فاغنر السابقة في “الفيلق الأفريقي”.
Russia chooses a novel name for its Wagner rebrand, the Africa Corps https://t.co/tWn8US58df pic.twitter.com/lUKFDMTLh0
— Lauren Blanchard (@LaurenBinDC) December 5, 2023
ونقلَ المعهد أن الحد الأدنى لراتب الجندي المنضم إلى الفيلق الأفريقي هو أكثر من 3100 دولار شهريًّا، وهو ما لاحظ أنه أعلى بكثير من تلك التي عرضتها وزارة الدفاع الروسية على مقاتلي فاغنر السابقين، أو التي قدمتها فاغنر لمجنّديها.
وذكرت مجلة “نيوزويك” الأمريكية أن بصمة فاغنر المتزايدة أعطت للكرملين نجاحات جديدة في أفريقيا، حيث سعى منذ فترة طويلة لتقويض النفوذ الغربي، مشيرة إلى أن عدم الاستقرار والتوترات الأخيرة مع القوى الاستعمارية السابقة في الغرب -خاصة فرنسا- أتاحا لموسكو فرصًا جديدة، خاصة بعد وفاة بريغوجين.
“سيتعيّن على الفيلق الأفريقي الروسي إجراء عمليات عسكرية واسعة النطاق في القارة لدعم البلدان التي تسعى إلى التخلص نهائيًّا من التبعية الاستعمارية الجديدة، وتطهير الوجود الغربي والحصول على السيادة الكاملة”، بحسب “وكالة نوفا” الإيطالية.
السيطرة على الذهب والمعادن
أضافت “نيوزويك” أن الكرملين سيبحث أيضًا عن “أرباح اقتصادية” من السيطرة على الذهب والبلاتين والكوبالت واليورانيوم والماسّ والنفط والمعادن الأرضية النادرة وتطويرها، بشروط مع الشركاء الأفارقة.
وبحسب المجلة الأمريكية، فإن وزارة الدفاع الروسية تسعى إلى السيطرة على عمليات فاغنر المربحة في دول أفريقية، من بينها ليبيا والسودان ومالي، منذ مقتل زعيم المجموعة السابق يفغيني بريغوجين في أغسطس/ آب الماضي.
علّقت الخارجية الأمريكية على قرار إنشاء “الفيلق الأفريقي”، بقولها إنه لا ينبغي لحفتر أن يعتمد على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في إنشاء فيلق عسكري روسي في أفريقيا.
وتابعت الخارجية على لسان متحدثها، أن مرتزقة شركة فاغنر شبه العسكرية الروسية يمثلون عنصرًا ضارًّا في ليبيا، فهم ينهبون البلدان التي يوجدون فيها، ويعرّضون الأمن العام للخطر، ويتسبّبون في عدم احترام حقوق الإنسان.
وقال الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية إن مجموعة فاغنر زعزعت استقرار ليبيا، واستخدمتها كمنصة لتنظيم أنشطتها في المنطقة، مشيرًا إلى أن المرتزقة الروس قاموا عام 2020 بزرع مئات الألغام أثناء الانسحاب من طرابلس، أدّت إلى مقتل أكثر من 300 شخص.
لا توجد استراتيجية أمريكية لمواجهة النفوذ الروسي المتزايد
فيما يتعلق بكيفية ردّ فعل الولايات المتحدة لمواجهة النفوذ الروسي المتزايد في القارة السمراء، بما في ذلك “الفيلق الأفريقي”، قال الباحث في العلاقات الدولية أحمد زمراوي إن الولايات المتحدة ليس لديها استراتيجية واضحة لأفريقيا، رغم استضافة واشنطن العام الماضي قمة مشتركة مع القادة الأفارقة.
The U.S.-Africa Leaders Summit only proved the enormous potential that our nations can harness together.
The United States is all in on Africa’s future. pic.twitter.com/bZkBal6AYF
— President Biden (@POTUS) December 17, 2022
ولفت إلى أن الولايات المتحدة بدأت تدرك مؤخرًا خطورة التحركات الروسية والصينية، موضحًا أن وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، أجرى في سبتمبر/ أيلول الماضي جولة أفريقية، استمرت 6 أيام وشملت جيبوتي وكينيا وأنغولا.
وأشار زمراوي إلى أن الجولة أثارت تكهّنات بشأن ما إذا كانت واشنطن تستعدّ لتأسيس استراتيجية جديدة لها في أفريقيا، خاصة مع المتغيرات المتلاحقة التي تشهدها دول القارة خلال الآونة الأخيرة، في ظل التنافس الدولي الحاد.
توتُّر محتمَل بين روسيا وحليفتها الجزائر
أخيرًا، يلفت بعض المراقبين إلى انزعاج الجزائر من دور مجموعة فاغنر في مالي وقرار إنشاء بديلها “الفيلق الأفريقي”، فرغم نفي السفير الروسي لدى الجزائر، فاليريان شوفايف، وجود مشاكل بين بلاده والجزائر، بشأن دور ونشاط أفراد مجموعة فاغنر الموجودة في العديد من الدول الأفريقية، إلا أن مراقبين اعتبروا أن النفي ذاته دليل على الخلافات الصامتة، بعد تقارير عن انزعاج الجزائر من دعم فاغنر للجيش المالي، الذي يخوض منذ عدة أشهر حربًا على المعارضة الأزوادية في الإقليم الشمالي للبلاد.
فالجزائر تعتقد أن العمليات العسكرية التي ينفذها حكّام مالي المدعومون من الروس، أسهمت بشكل كبير وفعّال في تراجُع حظوظ اتفاق السلام والمصالحة في مالي الذي ترعاه منذ عام 2015.
وعليه، ربما يكون “الفيلق الأفريقي الروسي” سببًا في توتر العلاقات بين العاصمتَين الحليفتَين (موسكو والجزائر)، إذ تتخوف الأخيرة من الدعم الروسي للمجلس العسكري الحاكم في مالي، واستقواء باماكو به.