العدو من خلفهم ومن فوقهم وفي البحر أمامهم، هناك حيث يرقد 400 ألف جندي من الجيش البريطاني والفرنسي محاصرين في منطقة “دانكيرك” بفرنسا، منتظرين أعدادًا قليلة جدًا من السفن تأتي إليهم خلال ساعات طويلة من الليل والنهار لتنقذهم، في واحدة من أكبر مآسي الحرب العالمية الثانية وواحدة من أهم معارك بريطانيا التي انهزمت فيها.
يخرج إلينا المخرج الشهير “كريستوفور نولان” (Christopher Nolan) من جديد برائعة من روائع الحرب العالمية الثانية، ليس لأنها تصور قصة من قصص الحرب العالمية قد تؤثر في المشاهد بعض الشيء، ولكن لأنها تُقدم هذه المرة تجربة مختلفة وفريدة من نوعها في سينما الحروب العالمية، ستجعل المشاهد يجرب الحرب العالمية بنفسه، ويرى كل شيء.
فيلم “دانكيرك” يصور انسحاب القوات البريطانية المنهزمة أمام القوات الألمانية خلال بدايات الحرب عام 1940، بعد دفع قوات التحالف البريطاني الفرنسي إلى الساحل وحصارها هناك لأجل غير معلوم، قرر بعدها رئيس الوزراء البريطاني “تشرشل” إجلاء القوات لكي لا تتعرض للأسر، وكان يطمح لإنقاذ 20 ألف منهم فقط، إلا أن العدد زاد إلى 230000 جندي باختلاف المصادر.
قليلاً ما تأتي الأفلام مصورة الهزائم، وكثيرًا ما تصور العدو سواء كان من الروس أو الألمان بالماكينات عديمة الرحمة، ليصل المشاهد إلى مرحلة الحد الأقصى من التعاطف مع جانب بريطانيا أو فرنسا، إلا أن هذه المرة اتبع “نولان” أسلوبًا مختلفًا، فاختار فكرة “العدو الذي لا نراه”، فلم يكن هناك مشهدًا واحدًا للعدو الألماني في الفيلم، كما لن تكون هناك معارك مباشرة بين الجيشين في مشهد ملحمي اعتاده المشاهدون ويعتبرونه من كليشيهات أفلام الحروب.
العدو من خلفهم ومن فوقهم وفي البحر أمامهم، هناك حيث يرقد 400 ألف جندي من الجيش البريطاني والفرنسي محاصرين في منطقة “دانكيرك” بفرنسا، منتظرين أعدادًا قليلة جدًا من السفن تأتي إليهم خلال ساعات طويلة من الليل والنهار لتنقذهم
قليل من الكلام كثير من الدراما
تصوير قصص النجاة تحت سطح البحر
اختار المخرج وكاتب الفيلم نولان الحد الأدنى من الحديث بين شخصيات الفيلم، وركز على أنسنة المشهد الذي يضم في إطاره 400 ألف جندي على شاطئ واحد مصطفين لانتظار سفن الإنقاذ التي قد تأتي أو لا تأتي أبدًا، ليراهم المشاهد من أعلى وكأنهم حشرات صغيرة نُسيت على وجه الأرض، إلا أن لكل واحد منهم قصة مختلفة.
اختار نولان البحر والجو والأرض كثلاثة مقاطع مختلفة تدور فيها أحداث الفيلم في قصص متشابكة ومرتبطة ببعضها البعض من حيث النتائج، ففي الجو طائرات تتفادى السقوط وترمي طائرات العدو بالرصاص والقنابل هادفة التخلص منه في محاولات تنجح تارة لتمنع العدو من أن يبيد أكبر عدد من الجنود الموجودين على الشاطئ أو في السفن، إلا أنها في كثير من الأحيان كانت مجرد محاولات بائسة.
وفي البحر سفن كاملة تحاول نقل أكبر عدد من الجنود والمصابين من ساحة الحرب إلى سلام وأمان الديار، إلا أنها تواجه خطر الغرق وقنابل العدو في السماء، وزيادة عدد الجنود عن حده على سطح السفن، وهو الأمر الذي جعل الآلاف منهم يلقون حتفهم غرقًا في مياه البحار ليعودوا أدراجهم للشاطئ حيث رفاقهم المنتظرين، ولكن يعودون هذه المرة جثثًا هامدة.
اختار نولان البحر والجو و الأرض كثلاثة مقاطع مختلفة تدور فيها أحداث الفيلم في قصص متشابكة ومرتبطة ببعضها البعض من حيث النتائج
وعلى البر مجموعة من الجنود يبدون كأنهم آخر مخلوقات على الأرض، كل ما يفعلونه هو الانبطاح كلما هاجمهم العدو من فوقهم، ينتظرون المصير المجهول، ويتذمرون من قلة وصول الإمدادت البريطانية التي يحاول الجيش البريطاني الحفاظ عليها للمعارك الدائرة على أرض الوطن نفسه.
يعشق نولان في أفلامه أن يكتبها منفردًا، ويعتمد على الحد الأدنى من الحديث بين الشخصيات، بل لا يعطي أهمية للحوار في أحيان كثيرة، وهو الأمر الذي أثار النقد الفني له على أشهر المواقع الفنية والنقاد الصحفيين بأن الحوار يصبح ركيكًا أحيانًا، وصولًا إلى مرحلة عدم قدرة نولان على كتابة حوار من الأساس.
إلا أن هذا لن يطغي على براعته في إثارة المشاهد بالتقنيات الفنية، ولن ينتبه إليه المُشاهد كثيرًا، إذ استطاع نولان أن يُقحم المشاهد في الفيلم وجعله يعيش تجربة الجنود ورغبتهم العارمة في النجاة، حتى إنك لا تستغرب إذا وجدت الجمهور في صالات العرض يتفاعل مع بعض المشاهد بالصراخ أو الانتفاض أحيانًا.
على عكس أفلامه السابقة التي خلق نولان فيها المشاهد من الصفر مثل فيلم “استهلال” (Inception) وفيلم “بين النجوم” (Interstellar) اللذان تميزا بالتعقيد الشديد للفكرة، يأتي فيلم (Dunkirk) بإعادة تصوير المشهد كما حدث في الحرب العالمية الثانية، ليضيف واقعية شديدة على الفيلم تمنح المشاهد فرصة ليكون جزءًا من الأحداث.
استطاع نولان أن يُقحم المشاهد في الفيلم، وجعله يعيش تجربة الجنود ورغبتهم العارمة في النجاة
ستختلف قصص محاولات النجاة في السفن الغارقة والنجاة من أعماق البحار محاولة للوصول إلى السطح والنجاة من النيران المشتعلة والنجاة من قنابل تسقط من أعلى والنجاة من نفاد وقود الطائرات على ارتفاع آلاف الأميال في السماء، إلا أنها ستتشارك في أنسنة المآسي التي تشهدها الحروب على اختلاف أصعدتها.
الواقعية والمصداقية في الأحداث
اعتمد نولان على طائرات وبارجات حقيقية وصل عددها إلى 50 يختًا وبارجة، بعضها كان موجودًا في العملية الأصلية منذ 70 عامًا، كما اعتمد المخرج المكان الأصلى على ساحل “دانكيرك” ساحة لتصوير أحداث الفيلم لإضفاء المزيد من الواقعية.
ما يضيف على الفيلم لمسة من الواقعية المفرطة هو المبالغة في أنسنة المحاولات الفردية للبقاء على قيد الحياة، ففي النهاية ما سيهم في الأمر هو النجاة، ولهذا لم يُذكر حتى في افتتاحية الفيلم أن العدو ألمانيا النازية، فالبطبع الكل يعرف من العدو، والجنود يعرفون من يقاتلونه، إلا أنه في الفيلم غير محدد الهوية وغير مُعرف بشخصيات أو أسماء، بل مُعرف بأنه العدو المجهول وما يُهم هنا هو تفاديه والبقاء على قيد الحياة.
ركز نولان على خبرة الخوض في الحرب وليس على سياسة الحرب والقرارات السياسية القادمة من المراكز العليا لوضع استراتيجيات تضمن النصر، وهذا ما جعل “دانكيرك” تتخطى زمانها وهو الحرب العالمية الثانية وتقارن في براعة بين ما حدث في الماضي وما يحدث في الحاضر، وتؤكد أن الصراع ضد الفاشية ما زال مستمرًا حتى الآن من خلال التجارب الإنسانية، بحسب رأي مراجعة نيويورك تايمز للفيلم.
الجموع هي البطل
لم يركز نولان على شخصنة الأبطال، بل لن يلاحظ المشاهد كثيرًا من الممثلين المعروفين داخل سياق الأحداث المتسارع، حيث انتقل نولان من الارتباط بالأبطال وقصصهم الشخصية إلى قصص الجموع بشكل كامل، فالقصة كلها تعتمد على الجموع المذعورة والتي تحاول بائسة النجاة لأيام معدودة للفرار من الحصار.
وضع المخرج الأقسام الثلاث، البحر والجو والبر في إطار ديناميكي متشابك، يصور في كل مكان وزمن فيه المخاطر الفردية بشكل واقعي مشابه لما حدث بالفعل على أرض المعركة في الحرب العالمية الثانية، لتكون السرديات الثلاثة متزنة ومتلاحمة بشكل يطفي عليها رهبة عميقة وحيرة وخوف في آن واحد، وانتظار ما الذي سيحدث في الخطوة التالية، لأن حدث واحد في سردية من السرديات الثلاثة سيؤثر على مصير السرديات الأخرى.
المدنيون هم الأبطال الحقيقيون
كان قدوم المدنيين بسفن غير حربية لإنقاذ الجنود بمثابة البطولية الحقيقية، على الرغم من عدم تسليحهم وعدم استعدادهم لمواجهة العدو الألماني
إحدى السفن المدنية التي تدخلت لإنقاذ الجنود
لم ينس نولان تصوير الجانب الذي اعتُبر من أكثر المشاهد البطولية في معركة “دانكيرك”، وهو قدوم المدنيين بسفن غير حربية لإنقاذ الجنود، على الرغم من عدم تسليحهم أو استعدادهم لمواجهة العدو الألماني، فإنهم جاءوا يدافعون عن التحالف وجنود بلادهم، رغم خطر الفناء السريع الذي كاد ينتظرهم، وهي مقارنة من المخرج نولان بين قيم الإنجليز في ذلك الوقت وخروجهم للدفاع عن أوروبا، وقيمهم بعد خروجهم من الاتحاد الأوروبي “بريكست”.
فيلم “دانكيرك” عن الانعزال والخوف والمغامرة وكل ما تقدر أن تفعله طاقات الجسد القصوى في محاولات النجاة والهروب من الموت، من خلالها سيستطيع نولان أن يجعل المشاهد يشعر بكل قطرة ماء وكل صوت رصاصة وكل صوت احتراق قد يحدث في المشهد، لكي يتنفس المشاهد الصعداء حينما ينجو من كان يحاول الهروب في المشهد.