تتوالى الانشقاقات في الأحزاب العراقية الشيعية منها والسنية، والتي لم تنج منها حتى الأحزاب الكردية، والقاسم المشترك في كل تلك الانشقاقات حلول موسم تغير اللباس الذي كانوا يرتدونه بسبب اهترائه واستبداله بثوب جديد يتناسب مع المهرجانات الانتخابية القادمة بعد بضعة أشهر.
خطورة هذا الانشقاق
لم تكن الانشقاقات بالأمر الجديد على الأحزاب العراقية التي جاءتنا بعد عام 2003، فقد بدأ بها الكرد ثم لحِقَهم السنَّة وانتهت في هذه الأيام بالأحزاب الشيعية، ولكن كل تلك الانشقاقات لا تحمل خطورة جدية على العملية السياسية التي أسسها الاحتلال، مثلما حمله الانشقاق الذي قام به عمار الحكيم، وما سيزيد الأمر سوءًا ما يتم تناقله من أخبار عن نية حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي، بقيادة انشقاق جديد في حزب الدعوة الذي ينتمي له.
وربما سيفتح انشقاق العبادي الباب على انشقاقات عديدة داخل المنظومة السياسية الشيعية ترتكز بالأساس على ضرورة تغير قواعد اللعبة السياسية للفترة القادمة، ومكمن خطورة هذه الانشقاقات الشيعية على العملية السياسية، أن تلك الأحزاب قد استطاعت احتكار السلطة في العراق بدعم إيراني وأمريكي طيلة أربع عشرة سنة خلت، صبغت العملية السياسية بصبغتها، وأنهت كل توجه سياسي مخالف لتوجهاتها، لتتحول الأحزاب الأخرى المشاركة لها بالعملية السياسية من أحزاب سنية أو كردية، إلى توابع يدورون بفلكها.
وبالتالي فإن تفكك هذه المنظومة السياسية الشيعية، سيؤثر تأثيرًا بالغًا على قدرتها على الاحتفاظ بالسلطة في العراق.
يؤمن النظام الإيراني بأنه لا بأس من التضحية ببعض الرموز السياسية التي كانت تعتمد عليهم بالسابق
أما خطورة الانشقاقات على النفوذ الإيراني في العراق، فإن انشقاق عمار الحكيم رغم أنه ليس الأول من نوعه في الأحزاب الشيعية، لكنه الأول من نوعه الذي يحدث دون الكونترول الإيراني، فقد انشق هادي العامري من المجلس الأعلى الإسلامي وانشقت الكثير من التيارات السياسية والمليشياوية من التيار الصدري، لكنها كانت بتنسيق إيراني مباشر، أما انشقاق عمار الحكيم فهو الأول الذي يحدث دون رعاية النظام الإيراني أو رغبته، وهنا تكمن خطورته بالنسبة لإيران.
الأمر الآخر أن آل الحكيم وقيادة المجلس الأعلى الإسلامي الذي تأسس في إيران في الثمانينيات، يعتبر من أكثر التيارات السياسية الشيعية حماسةً لإيران، ويؤمنون بشكل كامل بنظرية ولاية الفقيه المطبقة في إيران، كما أنهم ينشدون بعمله السياسي في العراق، تحويل النظام السياسي لما يشبع ما هو معمول بإيران، ولهذا يعتبر انشقاق عمار الحكيم صفعة كبيرة للنفوذ الإيراني في العراق.
هل من الممكن أن تكون هذه الانشقاقات لعبة إيرانية؟
ويرجح بعض المحللين أن الانشقاقات الحالية لا يمكن أن تخرج عن التوجيه والتخطيط الإيراني الذي تبتغي منه إيران تجاوز المرحلة الحالية التي يمر بها العراق، والناتج عن تغير كبير في مزاج الشارع العراقي وتحوله بشكل معاكس للتوجهات السياسية التقليدية التي تتخذ من الطائفية أداة لتجميع الجماهير حولها، بل وصل الأمر لسريان ثقافة ترجع أسباب كل الخراب الذي لحق بالعراق إلى تلك الأحزاب وتوجهاتها السياسية الطائفية.
وبالتالي فإن إيران ومن أجل المحافظة على نفوذها في العراق واستمراريته، لا بد لها من استحداث تيارات سياسية بعيدة عن الدين والطائفية، وتؤمن بالليبرالية لامتصاص نقمة الناخب العراقي، وتحيل كل موبقات وآثام الفترة السابقة للأحزاب والتيارات السياسية القديمة، ويؤمن النظام الإيراني بأنه لا بأس من التضحية ببعض الرموز السياسية التي كانت تعتمد عليهم بالسابق، وتطمح إيران أيضًا في توسيع سياسة كسبها لتشمل كل المغفلين من غير الشيعة من الطوائف الأخرى الذي يصدقون بأن الأحزاب التي نشأت حديثًا، هي فعلاً أحزاب لا طائفية تبتغي إصلاح أوضاع العراق.
المستقبل للعملية السياسية في العراق سيتم رسمه من جديد على أيدي الإدارة الامريكية الجديدة
لكن التحليلات المذكورة أعلاه يمكن أن تكون حقيقية لكن ليست بالمرجحة لدينا، ذلك لأنها لعبة خطيرة جدًا لا نعتقد أن إيران تقدم عليها مغامرةَ بكل عملها وجهودها بالعراق، كون هذه الانشقاقات من الممكن أن تتحول من انشقاقات سياسية إلى عسكرية.
فكما هو معلوم أن كل الأحزاب لديها مليشيات رسمية عاملة ضمن صفوف الحشد الشعبي، وتصادم هذه المليشيات مع بعضها، سوف يشعل حرب دموية ماحقة، تكون ساحتها وسط وجنوب العراق، تفوق بضراوتها كل ما جرى من حرب مع متطرفي داعش بالمناطق السنية.
وما جرى في محافظة “ذي قار” ربما يعتبر الشرارة الأولى لحرب الأحزاب، عندما حدثت مناوشات بالأسلحة الخفيفة بين أتباع عمار الحكيم وتياره الجديد، وجماعة المجلس الأعلى الإسلامي الذين يتبعون جلال الدين الصغير، على خلفية مطالبة جماعة المجلس بمقرّهم في ناحية الفهود والمحالّ المحيطة به، مما أسفر عن سقوط جرحى، فإذا كان مقرّ وخمسة محال تجارية تسببت بمعركة مسلحة، فكيف سيكون الحال في توزيع باقي تركة الأحزاب القديمة.
هي مغامرة كبيرة لا نعتقد أن إيران تُقدم عليها، وعلى هذا الأساس، فمن المرجح أن هذه الانشقاقات تمت بمعزل عن الإرادة السياسية الإيرانية، وتحاول الأخيرة بكل طاقتها، احتواءها والتقليل من خسائرها، فأصبحت طهران هذه الأيام قبلة لكل السياسيين الشيعة ليتم التباحث في سبل الخروج من هذه الأزمة والمحافظة على التحالف الشيعي وعدم تفككه.
ما الذي دفع عمار الحكيم للانشقاق؟
تصدرت وسائل الإعلام لتلخص أسباب الخلافات بين قيادات المجلس الأعلى على خلفية رغبة عمار الحكيم بتقريب العناصر الشابة وأبعاد المخضرمين من السياسيين القدامى، بالإضافة إلى الاستئثار بالقرارات دون الرجوع لتلك القيادات، لكن ما نراه أن دافع عمار الحكيم للانشقاق، ليس مثلما أعلنه، ذلك لأن ندرك أن التنافس الإيراني الأمريكي على السيطرة بالعراق تنافس حقيقي، رغم كل الأقاويل، والولايات المتحدة لا تريد أن تتحول إيران للمتحكمة الوحيدة بالمنطقة وخاصة العراق، الذي تعتبره من حصتها، وهي جادة في توجهها هذا.
وعلى هذا الأساس أدرك الكثير من السياسيين الشيعة، أن المرحلة المقبلة على العراق لن يكون لاتباع إيران دور فيها، ومن الأفضل لهؤلاء السياسيين إذا أرادوا الاستمرار كلاعبين سياسيين للفترة المقبلة، ركوب الموجة واللهب وفق قواعد اللعب الأمريكية الجديدة، ومن أهمها الابتعاد عن إيران.
وهذا يفسر لنا سر إصرار الحكيم الإقدام على خطوته بالانفصال رغم التحذيرات الإيرانية، وكذلك يفهم باقي السياسيين الشيعة مثل العبادي والصدر، فقد أدركوا أن المستقبل للعملية السياسية في العراق سيتم رسمه من جديد على يديّ الإدارة الأمريكية الجديدة، والأفضل لهم التكيف مع المتغيرات الجديدة القادمة.
يمكن أن يتحول السنَّة إلى بيضة القبان بعد أن تفشل كل التكتلات السياسية الشيعية في الحصول على الأغلبية النيابية لتشكيل حكومة
ما شكل الخارطة السياسية الجديدة؟
من المتوقع أن سلسلة الانشقاقات والانشطارات لن تنتهي بالحكيم، فبالأفق انشطار كبير سيقوده العبادي رئيس الوزراء العراقي الحالي لكي يستأثر بكل الإنجازات العسكرية التي حققها في فترة حكمه (كما يرى هو ذلك) دون الآخرين، مستفيدًا من الدعم الأمريكي والخليجي لخطوته تلك، وهو بنفس الوقت من المستحيل أن يبقى بقائمة انتخابية واحدة مع نوري المالكي الغريم الذي ما زالت عينه على منصب رئيس الوزراء، الذي انتزع منه انتزاعًا سنة 2014.
وعلى هذا فإن شكل الخارطة السياسية المستقبلية في ظل هذه الانشقاقات الحزبية، ستفرز تحالفات عديدة، ربما أحدها سيضم العبادي بحزبه الجديد الذي سيرى النور قريبًا، مع التيار الصدري الذي تربطه حاليًا علاقة وثيقة بالعبادي، ومن المحتمل جدًا أن ينضم إليهم عمار الحكيم بحزبه الجديد (الحكمة)، لكن هذه الكتل الثلاثة لن تكون قادرة على تشكيل حكومة عراقية بقيادة شخصية شيعية، بعد الانتخابات القادمة، ما لم يعملون على توسيع نطاق تحالفاتهم لتضم أطراف أخرى سنيَّة كانت أم كردية.
أما في حالة فشلهم في توسيع هذا التحالف، فسيتحولون إلى كتلة منافسة لكتلة سياسية شيعية أخرى مشكلة من باقي الأحزاب الشيعية، وعدم اتفاقهم سوف يفرط عقدهم ولا يجعلهم يحققون الأغلبية في البرلمان القادم ما لم تتدخل إيران بكل قوتها لرأب الصدع بينهم وتوحيد صفوفهم لتبقى رئاسة الحكومة حكرًا على أحزاب إيران في العراق.
وفي سيناريو آخر يمكن أن يتحول السنَّة إلى بيضة القبان بعد أن تفشل كل التكتلات السياسية الشيعية في الحصول على الأغلبية النيابية لتشكيل حكومة بسبب تفرقها وتنافسها.
في هذه الحالة فإن بالإمكان أن تستفيد السنَّة من خلال التحالف مع الطرف الذي يلبي كل مطالبهم، وبذلك ستكون لهم فرصة تاريخية لتحقيق التوازن المفقود في الدولة العراقية وإنصاف أهلهم إذا ما أحسنوا استغلال هذه الفرصة.