يميلُ البشر منذ القِدم للانخراط في العلاقات والنشاطات الاجتماعية بكافة أنواعها وأشكالها، وقد يكون الحديث والكلام جزءًا أساسيًا لا يمكن الاستغناء عنه لتغذية تلك العلاقات. فاللغة هي ما تجمع الأفراد معًا وتسمح لهم بإيجاد أرضيةٍ مشتركة وأبوابًا للتعارف وتكوين الصداقات والعلاقات. لكن هل فكّرتَ يومًا لماذا يميلُ الناس للنميمة والقيل والقال على الرغم من وجود أشكال كثيرة للحديث يمكن أن تجمع بينهم؟
قد تستغرب بدايةً أنّ النميمة سلوكٌ قديم يعود للعصور الأولى من تاريخ الإنسان، ونحن البشر طوّرناه بناءً على تاريخ أسلافنا وطريقة حياتهم وماضيهم. ولنبدأ بفهم ما أعنيه بقول “تطوّرنا لنمارس النميمة أو القيل والقال”، فالنميمة هي نقل الحديث على وجه الإفساد والوقيعة بين الناس وتبادل الكلام الذي لا طائلة منه. أمّا ما أقصده بالتطوّر، فوفقًا لعلم النفس التطوريّ والبيولوجيا هو اختيار صفاتٍ معيّنة وتفضيلها على صفاتٍ أخرى يمتلكها الكائن بهدف مساعدته على البقاء وتحسين تكيّفه مع بيئته، وبالتالي زيادة فرصة تمريرها عير الجينات للأجيال اللاحقة.
وبعيدًا عن الآثار السلبية للنميمة أو القيل والقال والحديث عن الأشخاص من وراء ظهورهم وشعورنا بالذنب أو السوء حيال الأمر، إلا أن بعض علماء النفس يرون أنّ النميمة تُعدّ خاصية تميّزنا عن الحيوانات، وتجعل منّا “بشرًا”، وتشكّل جزءًا حيويًا من حياة الإنسان.
استعمال النميمة بطريقة سلبية ظهر فقط في القرن الثامن عشر مع بداية تطوّر اللغة والمجتمعات.
في دراسة نُشرت عام 2004 بعنوان “النميمة من منظور تطوري”، يرى عالم النفس في جامعة أكسفورد “روبن دونبار” أنّ النميمة تميّز البشر عن الحيوانات لأنها تمكّنهم من تبادل معلومات “مهمة” حول الأشخاص الذين يمكنهم الوثوق بهم، بالإضافة إلى أنها تقوّي الروابط بين الأهل والأصدقاء، نظرًا لأننا -منذ القِدم- نستخدم اللغة لتبادل المعلومات الاجتماعية والحفاظ على التواصل بين أفراد المجموعة، والتحذير أو الإعلان عن الأعداء والجماعات الأخرى.
وتعرّف الدراسة أن “النميمة هي ببساطة التواصل مع الأشخاص والأحداث في محيطنا”، كاشفةً أنّ “استعمال النميمة بطريقة سلبية ظهر فقط في القرن الثامن عشر مع بداية تطوّر اللغة والمجتمعات.
وقد أطلق علم النفس التطوري على هذه الظاهرة “نظرية النميمة”، ووفقًا لدونبار فإنها تُعد واحدة من العديد من النظريات التي تؤكّد على الجوانب الاجتماعية للّغة بدلًا من الجوانب المعرفية، فالنميمة أداة اجتماعية لبناء العلاقات بين الأفراد وليس هدفها الانخراط فقط في حوارات هادفة.
كما هو معروف فإنّ أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ، كانوا يعيشون في جماعات صغيرة نسبية وسط أجواء وبيئاتٍ بيئةٍ ملآى بالصراعات والمنافسة على الموارد الطبيعية المهمّة للبقاء على قيد الحياة ضدّ المجموعات الصغيرة الأخرى، ، الأمر الذي أدّى لخلق الحاجة للتعاون مع أعضاء المجموعة نفسها من أجل درء الأعداء، فظهرت الأسئلة المتعلقة بالثقة والأمان والصداقات والتحالفات.
تروي الدراسة أنّ تلك المجتمعات بدأت بممارسة “النميمة” حينما ظهرت حاجتها للإجابة على الأسئلة من قبيل “من هو جدير بالثقة؟”، “من هو الغشاش أو الخائن؟”، “كيف يمكن تشكيل الصداقات والتحالفات؟” والكثير غيرها. وبكلمات أخرى، فإنّ الجماعات التي كانت معنية بالجماعات الأخرى وأخبارها وتناقل مستجداتها هي الجماعات الأكثر قدرةً على البقاء.
صنّفت الدراسة النميمة إلى نوعين؛ النميمة الجيدة التي تخدم المصالح العامة للمجموعة ككلّ، والتي تُعدّ طريقة لتقوية العلاقات الاجتماعية وتكوين الصداقات والتذكير بقيم ومبادئ المجموعة، فأنتَ حينما تبدأ النميمة مع شخصٍ آخر فهذا دليلٌ على أنك تثق به وتعتبره جزءًا من المجموعة التي تنتمي إليها وتؤمن بمبادئها. وعلى الصعيد الآخر هناك النميمة السيئة التي تتميز بأنانية قائلها وتفضيله لسمعته وصورته دون الاهتمام بالمجموعة.
من جانب آخر، فإنّ امتلاك المعلومات والأخبار التي تُعدّ موضوعًا خصبًا للنميمة، تُشعر الفرد بنوعٍ من القوة وتمدّه بالرضا عن النفس. فمعرفتنا لمعلومات سرية –سواء أكانت عيوبًا أم لا- عن الأشخاص المحيطين بنا وتبادلها مع غيرنا، حتى لو لم تكن نيّتنا خلق الضرر أو الأذى من خلالها، لهو أمرٌ يشعرنا ببعض القوة والسيطرة، نكون نعتقد أننا نعرف عنهم ما يخفونه وما يعتبرونه نقاط ضعفهم.
الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وحبّ الأشخاص للشهرة والظهور من أسباب النميمة
ولو سألت نفسك لماذا يهتم الأفراد بحياة المشاهير ويتناقلون أخبارهم ويمارسون النميمة حيال حياتهم، فإن عالمة النفس البلجيكية شارلوت دي باكر ترى أنّ اهتمامنا بالمشاهير وحياتهم ينمو من عطشنا “المتطوّر” لتعلّم استراتيجيات الحياة وأساليب المعيشة، فالأفراد ينظرون للمشاهير بنفس الطريقة التي كان أسلافنا ينظرون إلى النماذج التي يُحتذى بها داخل الجماعات والتي كانت تُعتبر الأقوى والأكثر قدرة على البقاء والنجاة من جهة، والأجدر بأن تُتبع وتعطي التوجيهات والتعليمات من جهةٍ أخرى. لذلك فالبشر ميّالون لتتبع حياةٍ بعض الأفراذ الذين ينظرون إليهم كنماذج وقدوات.
وخلاصة القول لا يجب أنْ نغفلْ أساسًا عن أنّ هناك الكثير من الانتقادات التي توجّه نحو تفسيرات علم النفس التطوري ونظرياته، لأنها تركّز فقط على تاريخ الإنسان الأول وأسلوب حياته بعيدًا عن أية عوامل أخرى قد تلعب دورًا هامًا جدًا وتساعد على تفسير سلوكيات الأفراد في العصر الحديث.
فلو جئنا إلى النميمة في عصرنا هذا لوجدنا أنّ ثمة عوامل أخرى تلعب أدوارًا متعددة فيه، مثل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي وحبّ الأشخاص للشهرة والظهور وإفشاء تفاصيل حياتهم على العلن، ما يهيّئ أرضية مناسبة لنشر النميمة وتناقلها.