لم يقتصر الأمر على المقدسيين الذين توحدوا جميعًا بمختلف مشاربهم وتوجهاتهم بمسلميهم ومسيحييهم لنصرة المسجد الأقصى في صد الهجمة الاحتلالية على المسجد الأقصى ومنع الإجراءات الجديدة التي أراد الاحتلال فرضها مؤخرًا من تركيب لبوابات إلكترونية وكاميرات ذكية وممرات حديدية، بل إن عددًا من بلاد المسلمين رفضت هذه الإجراءات، وكانت تركيا من أكثر الدول تميزًا بهذا الخصوص سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي أو الحزبي.
وفي هذا السياق يمكننا الوقوف على بعض الدروس والملاحظات وأولها أن هذا الحدث جاء بعد عام كامل تقريبًا من عودة السفراء بين تركيا و”إسرائيل” في يونيو 2016، مشعلة التوتر الأول في العلاقات منذ ذلك الوقت بعد سلسلة من اللقاءات وصلت إلى مستوى بعض الوزراء، وقد أحدثت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والمسؤولين الأتراك التي اتهمت “إسرائيل” بانتهاك حقوق الإنسان وحرية المعتقد، ردة فعل إسرائيلية غير مسبوقة، حيث اعتبرت الخارجية الإسرائيلية تصريحات أردوغان سخيفة، كما كتبت على موقعها على تويتر تغريدات مفادها أن عهد الدولة العثمانية قد ولى وأردوغان هو آخر من ينصح “إسرائيل”.
فيما ردت الخارجية التركية على تصريحات الخارجية الإسرائيلية بأنها تصريحات وقحة، ولعل هذا يثبت أن تطبيع العلاقات لم يتم بعد بشكل كامل أو أنه سوف يبقى تطبيعًا جزئيًا على الصعيد الدبلوماسي وما حوله، وقد نبه الأتراك خلال المفاوضات على عودة العلاقات مع “إسرائيل” أن أي اعتداء على المقدسات أو حرب على الشعب الفلسطيني سيعرض استمرار العلاقات للتهديد.
إن كل الأحزاب التركية سواء الحزب الحاكم أو أحزاب المعارضة مع بعض التفاوت صدرت موقفًا مشرفًا رافضًا للاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى
ثانيًا أنه رغم حالة الاستقطاب بين المعارضة والحكومة التركية التي تزايدت قبيل وبعد الاستفتاء في 16 من نيسان وما تبع ذلك من مسيرات العدالة التي نظمها حزب الشعب الجمهوري ورئيسه كمال كليجدار أوغلو، وكذلك الحال في الخلاف بين الحكومة وحزب الشعوب الديمقراطية فإن كل الأحزاب التركية سواء الحزب الحاكم أو أحزاب المعارضة مع بعض التفاوت صدرت موقفًا مشرفًا رافضًا للاعتداءات الإسرائيلية على المسجد الأقصى وحرمان المسلمين من حق العبادة فيه، وأكدت على موقفها من حقوق الشعب الفلسطيني هذا أمر مهم جدًا يمكن البناء عليه في رفع مستوى التضامن من هذه الأحزاب.
ثالثًا لقد سلط هذا الحدث الضوء على مستوى عالٍ من التنسيق بين كم كبير من منظمات المجتمع المدني التركية التي قادت حراكًا في الشارع التركي، حيث قدم الشارع كعادته صورة ناصعة من التضامن مع مقدساته الإسلامية ومع الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لظلم الاحتلال الإسرائيلي، وربما كان الشارع متقدمًا على الأطراف الرسمية والحزبية.
بعض الأتراك قد توجهوا للمسجد الأقصى وشاركوا في الفعاليات وتعرض عدد منهم للإصابة خلال مداهمات قوات الاحتلال
وقد نظمت مجموعة من منظمات المجتمع المدني التركية خلال الثلاثة أسابيع الماضية تجمعات في كل المدن التركية وخاصة مدينة إسطنبول (التي نظمت فيها يوم الأحد 30 من يوليو/تموز 2017 أكثر من 60 منظمة مجتمع مدني مهرجانًا كبيرًا في يني كابي)، والعاصمة أنقرة حيث أغلقت دولة الاحتلال سفارتها في أنقرة لأسباب احترازية وذلك لمعرفتها بشعور الأتراك تجاه المسجد الأقصى، وهي بهذا قد أحدثت حالة كبيرة من المؤازرة للمقدسيين.
بل إن بعض الأتراك قد توجهوا للمسجد الأقصى وشاركوا في الفعاليات وتعرض عدد منهم للإصابة خلال مداهمات قوات الاحتلال، وعطفًا على النقطة الثانية فقد ساهمت هذه المنظمات في خروج ممثلين أحزاب تركية مختلفة أيديولوجيًا معًا في مسيرات وتجمعات واحدة، ولهذا لا بد من الاستفادة من دعم هذه المؤسسات وإبقاءه حيًا خاصة مع الامتدادات الدولية لهذه المؤسسات
أما رابعًا فقد أثبت حراك الشارع التركي أن جهود التطبيع الصهيونية لن تحدث اختراقات كبيرة في الشارع التركي الذي بات أكثر اتصالاً بقضية فلسطين والمسجد الأقصى، مع التوقف عند وجود حاجة لمزيد من المعلومات التاريخية والتوعية بالواقع الموجود والظروف المعيشية والسياسية في فلسطين، وهنا يقع دور كبير على الفلسطينيين سواء مؤسسات أو طلاب مقيمين في تركيا للمساهمة في هذه الجهود.
هناك شعور تركي رسمي وشعبي بتراجع الإسناد العربي للقضية الفلسطينية خاصة بعد تراجع الربيع العربي وحصول أزمات في البلدان العربية من سوريا إلى اليمن إلى مصر وليبيا وتونس وحاليًا في منطقة الخليج بعد مقاطعة عدة دول لقطر وغيرها
خامسًا يبدو أن هناك شعور تركي رسمي وشعبي بتراجع الإسناد العربي للقضية الفلسطينية خاصة بعد تراجع الربيع العربي وحصول أزمات في البلدان العربية من سوريا إلى اليمن إلى مصر وليبيا وتونس وحاليًا في منطقة الخليج بعد مقاطعة عدة دول لقطر وغيرها، وهذا الشعور المرتبط بعاطفة قوية تجاه المقدسات يدفع نحو السعي لملء هذا الفراغ سواء من خلال المواقف الشعبية أو الحراك الدبلوماسي، ولهذا ينبغي التشبث بهذا الدعم تحديدًا في هذا الوقت الحرج الذي تعيشه الأمة العربية، وفي ذات السياق يرى بعض الأكاديميين الأتراك أن قرار الصهاينة بفتح المسجد الأقصى جاء خشية من أن تسبب المواجهات عامل إيقاظ للشعوب العربية التي بدأ يظهر التململ في بعضها مثل الأردن ولبنان.
سادسًا لا أزعم أن لدي معلومة أكيدة ولكن باستثناء توافق 100 خطيب مسجد في السودان لم أجد أنه تم التعميم على مساجد دولة أن تكون خطبة الجمعة عن المسجد الأقصى كما حصل في تركيا في أكثر من 85 ألف جامع، حيث دعا الخطباء للتضامن مع المسجد الأقصى في مواجهة الإجراءات والقيود الإسرائيلية، وإغلاقه أمام المصلين للمرة الأولى منذ عام 1967.
سابعًا رغم الحملة الدبلوماسية التي قامت بها تركيا والاتصالات التي قام بها الرئيس أردوغان بالإسرائيليين وبعدة رؤساء، حتى إن وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو اتصل بنظيره المصري سامح شكري للتشاور في مسألة إغلاق المسجد الأقصى لم يصدر في تركيا أو في الإعلام التركي نسب الفضل للرئيس أردوغان في دخول المصلين للمسجد كما حدث في عدد من البلدان العربية، بل على العكس اتهمت تصريحات إسرائيلية أردوغان بتحريض الفلسطينيين.