“يا وطن يا حبيب.. يا أبو تراب الطيب”، أول كلمات جرت على لسان المقدسيين في احتفالاتهم فجر الخميس الموافق 27 من يوليو 2017، بعد إزالة قوات الاحتلال الجسور والحواجز الحديدية التي وضعتها بمنطقة باب الأسباط في المسجد الأقصى.
نترك السياسة جنبًا، ونقول: “الفن الذي يخرج من القلب يدخل إلى القلب”، والمقدسيون أحسوا بعذوبة كلمات الأغنية العراقية التي نقلت شعورهم وفرحتهم التي عجزت الكلمات عن ترجمتها، فسحر القدس العتيقة لم يهدأ، فشعاعه أصاب الفن وأصحابه الذين صاحبوا أوراقهم وأقلامهم وأدواتهم الفنية ليخرجوا لنا أيقونات فنية رائعة لن يكررها الزمان ولم تنس، بل تتناقلها الأجيال.
نبدأ الحكاية من شوارع القدس التي أسرت الفنانة اللبنانية الكبيرة فيروز بجمالها وطيبة أهلها، فمن منا لم يسمع أغنية “القدس العتيقة” التي غنتها لفلسطين ومدينة القدس، ولكن قلة منا لا يعلم أن لهذه الأغنية قصة حقيقية، حدثت لفيروز بالفعل.
ففي عام 1964 زارت فيروز وزوجها عاصي الرحباني وصهرها منصور الرحباني، مدينة القدس، للمرة الثانية للمشاركة في احتفالية تراتيل بمناسبة زيارة البابا بولس السادس للمدينة المقدسة التي كانت، وقتئذ، تحت الحكم الأردني.
وفي أثناء تجوالها بشوارع القدس تجمع حولها الناس، وأخذوا يشكون همومهم لها، ومعاناتهم المستمرة منذ النكبة، وتقدمت منها إحدى السيدات وبدا الحزن عليها في أثناء حديثها مع السيدة فيروز، فتأثرت فيروز ولم تتمالك نفسها فبكت، ولم تجد تلك السيدة شيئًا تعطيه للسيدة فيروز لتعبر عن حبها لها وفرحتها بلقائها، فاشترت تلك السيدة “مزهرية” وقدمتها لها.
وبعد عودتها من زيارتها تلك قصت فيروز إلى عاصي ومنصور هذا الموقف، وكتب صهرها منصور الرحباني هذه الكلمات من وحي تلك الحادثة وأسمعها إياها ولحنها زوجها عاصي، وسجلت هذه الأغنية في استوديو التليفزيون اللبناني عام 1965، ومن وقتها عندما نريد أن نتجول في شوارع القدس نتذكر الكلمات التالية:
مريت بالشوارع شوارع القدس العتيقة.. قدام الدكاكين البقيت من فلسطين
حكينا سوى الخبرية وعطيوني مزهرية.. قالوا لي هيدي هدية م الناس الناطرين
ولم تكتف صوت الجبل بأغنية “القدس العتيقة” فقدمت لنا العمل النادر المطبوع بقلب كل عربي وهي أغنية “زهرة المدائن” التي تثير بداخلك الغضب على العدو والحنين إلى القدس في وقت واحد.
الأغنية ألفها ولحنها الأخوين رحباني عقب حرب هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967، واسم الأغنية “زهرة المدائن” هو الاسم القديم لمدينة القدس وكان قبل اسمها يبوس.
السينما تهزم السياسة
ننتقل إلى السينما المصرية التي قدمت الكثير من الأعمال الفنية عن القضية الفلسطينية، ففي عام 1949 قدمت فيلم “فتاة من فلسطين” بطولة سعاد محمد وعزيزة أمير، يحكي الفيلم عن ضابط طيار مصري يستبسل في الدفاع عن الأرض الفلسطينية ضد العدو الصهيوني، ويحدث ذات غارة جوية أن تسقط طائرته في قرية فلسطينية وتعثر عليه سلمى الفلسطينية مصابًا في قدمه فتستضيفه في منزلها وتعمل على تطبيب جراحه ويعجب الطيار بالفتاة سلمى وشجاعتها حتى يتبادلان الحب ويتزوجان في عرس فلسطيني.
فيلم “نادية” هو الفيلم المصري الثاني الذي تم إنتاجه عام 1949، بطولة عزيزة أمير ومحمود ذو الفقار، تدور قصته حول التضحيات العظيمة التي قدمتها المدرسة نادية طول حياتها، فمع تحملها لمسؤولية أشقائها الصغار حتى يتخرج شقيقها من الكلية الحربية ويشاء القدر أن يستشهد في الحرب بفلسطين فيتقدم لها صديقه للزواج منها إلا أنها تقرر استكمال تضحياتها عندما تكتشف حب شقيقتها له وتتركهما وتعود لأمها ووحدتها.
كما أنتجت الشاشة المصرية فيلمين، يشيران إلى صفقة الأسلحة الفاسدة التي وردت عام 1948 كان أولهما “أرض الأبطال” حيث يُصدم أحد الشباب عندما يعلم أن والده الثري قرر أن يتزوج الفتاة التي يُغرم بها، فيتطوع في الجيش ويشترك في الحرب، وفي مدينة غزة يلتقي بفتاةٍ فلسطينية ويتحابان ويقرران الزواج، فيورد الأب أسلحة فاسدة إلى الجيش، تكون سببًا في فقدان الابن لبصره في خلال إحدى العمليات.
أول الأفلام التي صورت داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، هو “أرض السلام” للمخرج كمال الشيخ عام 1957
والفيلم الثاني “الله معنا” لإحسان عبد القدوس عام 1955 حيث يذهب الضابط عماد للمشاركة في حرب فلسطين بعد أن يودع خطيبته ابنة عمه التاجر الثري، يصاب عماد ويتم بتر ذراعه، يعود مع عدد من الجرحى والمشوهين وهذا يؤدي إلى حركة تذمر بين رجال الجيش، وتنتهي الأحداث بالإطاحة بملك البلاد وتحرير الوطن، الفيلم من بطولة فاتن حمامة وعماد حمدي.
أما عن أول الأفلام التي صورت داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو “أرض السلام” للمخرج كمال الشيخ عام 1957 يحكي عن أحمد فدائي مصري يختفي داخل قرية فلسطينية، تتعاون معه سلمى، وهي إحدى فتيات القرية، ويصور الفيلم معارك الفدائيين من أجل تحرير فلسطين، وأخذ هذا الفيلم أكثر من ثلاثة أسابيع في دور العرض نظرًا لأبطاله فاتن حمامة وعمر الشريف نجوم ذلك العصر.
لقطة من فيلم “أرض السلام”
سلطت حقبة الثمانينيات الضوء على القضية الفلسطينية عبر عدة أفلام منها “كتيبة الإعدام” 1989، وفيلم “ناجي العلي” 1992 الذي أثار ضجة في مصر ومنع من العرض وقتها، واختفت القضية الفلسطينية والقدس عن السينما المصرية طيلة فترة التسعينيات إلا في أفلام الاستخبارت التي قامت بها نادية الجندي كفيلمي”48 ساعة في إسرائيل” وفيلم “مهمة في تل أبيب”.
“باب الشمس” الذي يعد فيلمًا ملحميًا سجل فيه تاريخ القضية الفلسطينية وتطورها فهو ثنائية الرحيل والعودة من خلال قصة حب بين البطل الفلسطيني يونس الذي يذهب للمقاومة بينما تظل زوجته نهيلة متمسكة بالبقاء في قريتها بالجليل
بعد انتفاضة الأقصى 2000 ركز بعض السينمائيين في تناولهم للقضية على الفدائي، مثلما جاء فيلم “أصحاب ولا بيزنس” عام 2001 إخراج علي إدريس، ليصور الفدائي باعتباره الحل الأمثل للقضية، فبتفجير نفسه تحل القضية الفلسطينية، وينتهي الحديث عنها.
ونختم حديثنا عن الأفلام السينمائية بفيلم “باب الشمس” الذي يعد فيلمًا ملحميًا سجل فيه تاريخ القضية الفلسطينية وتطورها فهو ثنائية الرحيل والعودة من خلال قصة حب بين البطل الفلسطيني يونس الذي يذهب للمقاومة بينما تظل زوجته نهيلة متمسكة بالبقاء في قريتها بالجليل.
وطول فترة الخمسينيات والستينيات يتسلل من لبنان إلى الجليل ليقابل زوجته في مغارة “باب الشمس” وتنجب منه ويعود مرة أخرى لينضم إلى تنظيم المقاومة في لبنان، الفيلم مأخوذ عن رواية تحمل نفس الاسم للأديب إلياس خوري، وإخراج المصري يسري نصر الله عام 2004.
الضمير العربي
الفنانة الراحلة ذكرى في أوبريت “الحلم العربي”
بعد أغاني فيروز هناك أغاني انضمت إلى التاريخ بنقلها واقع القضية الفلسطينية عبر كلمات وألحان لمست مشاعر العرب، ومثال على ذلك أوبريت الحلم العربي وهو أوبريت غنائي عربي صدر عام 1998 وشارك فيه عدد كبير من الفنانين العرب، واشتهر في سبتمبر 2000 عقب انتفاضة الأقصى الثانية والتي اندلعت عقب تدنيس أرئيل شارون رئيس وزراء “إسرائيل” السابق لساحة المسجد الأقصى، حيث تم عرض هذا الأوبريت مرارًا وتكرارًا على الفضائيات العربية باختلافها مما أكسبه شهرة أكثر.
لهذا الأوبريت جزء ثانٍ اسمه “الضمير العربي” جمع أكثر من مئة فنان وفنانة عرب من مغنين وممثلين وغيرهم، تم بثه للمرة الأولى في 27 من فبراير 2008 على قناة زوم، وهو فكرة ورؤية وإنتاج أحمد العريان، وكان مطلع الأوبريت الذي علق بأذهان الناس يقول:
ماتت قلوب الناس.. ماتت بنا النخوة
يمكن نسينا في يوم.. إن العرب أخوة
وفي عام 2000 غنى عدد كبير من مطربي الوطن العربي، أوبريت “القدس هترجع لنا”، الذي رصد الصراع العربي الإسرائيلي على القدس.
وعبر العديد من الفنانين العرب أيضًا عن دعمهم للقدس من خلال الأغاني، مثل المطرب الشعبي شعبان عبد الرحيم، الذي غنى أغنيته الشهيرة “أنا بكره إسرائيل”، ولاقت الأغنية قبولاً كبيرًا لدى الجمهور المصري والعربي.
أيضًا الفنان هاني شاكر الذي غنى أغنية “على باب القدس” تأثرًا باستشهاد الطفل محمد الدرة، وعمرو دياب غنى “القدس دي أرضنا” عام 2001م .
أحدث إنتاج فني تناول معناة أهل القدس مسلسل “بوابة السماء” الدرامي الذي عرض في رمضان 2017 وهو يجسد أحياء مدينة القدس المحتلة ويتناول معاناة سكانها بسبب الاحتلال الإسرائيلي.
وتم تصوير المسلسل في مدينة إنتاج إعلامي تبلغ مساحتها 5 آلاف متر مربع وتقع جنوبي القطاع، وسيتم بثه على شاشة قناة “الأقصى” الفضائية على مدار 30 حلقة في شهر رمضان المقبل.
وأنشأت شبكة “الأقصى” الإعلامية في مدينة الإنتاج منطقة تحاكي حارة “باب السلسلة” المحاذية للمسجد الأقصى في مدينة القدس القديمة.
قال مخرج مسلسل “بوابة السماء” زهير الإفرنجي إن المسلسل يركز على تصوير معاناة المواطنين المقدسيين، وخاصة في حارة باب السلسلة، من المستوطنين والشرطة والبلدية الإسرائيلية
وتتضمن المنطقة جدرانًا ومقاهي ومتاجر ومنازل وطرقات على النمط المعماري ذاته للحارة المقدسية التي تضم أحد أبواب المسجد الأقصى “باب السلسلة”.
وفي تصريح سابق، قال مخرج مسلسل “بوابة السماء” زهير الإفرنجي إن المسلسل يركز على تصوير معاناة المواطنين المقدسيين، وخاصة في حارة باب السلسلة، من المستوطنين والشرطة والبلدية الإسرائيلية.
رحلة الفن مع فلسطين لم تنته بعد، فالفن نصر القضية الفلسطينية ولم يخذلها مثلما فعلت السياسة، ويقدم لها أول بأول أعمالاً فنية إبداعية تحاكي الواقع الأليم الذي يعيشه المواطن الفلسطيني بكل تفاصيله الصغيرة.