في مقالتين سابقتين عرضت عشرًا من وسائل السيطرة على مفاصل الدولة قارنت فيها أداء ضباط يوليو بإخوان يناير، وهنا نختم المقارنة بثلاث وسائل أقول إنها الوسائل الختامية التي أحكمت قبضة الضباط على مصر في الخمسينيات والستينيات وهي المفاتيح الأقوى التي قصر عن استخدامها الإخوان فعادت دولة الضباط من جديد على يد عسكر كامب ديفيد هذه المرة.
نجاحات في مواجهة إخفاقات
سحر الإعلام لحشد التأييد.. التعبئة النفسية
وفي كل وسائل السيطرة تلك كان لا بد من تخدير وعي الناس ومحو ذاكرتهم وصناعة ذاكرة ووعي جديدين على هوى الحاكم الجديد وورثته من بعده، وهنا وعلى سنة فرعون يعمل السحرة فيرهبون الناس ويسحرون أعينهم فلا يرون إلا ما يرى الفرعون، بينما مرسي كان بين سندان ومطرقة الآلة الإعلامية لم يسيطر عليها ولا حتى سعى لمحاسبتها، كان كل يوم يتم سبه وتكفيره والانتقاص منه، لم يسيطر مرسي والإخوان على الإعلام بل ظلوا بين يدي أخطبوط عمره 70 سنة يخنقهم ويضغط ضلوعهم، أخطبوط الشؤون المعنوية.
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
ننظر لهذه الصفحة لنرى كيف يشحن كتاب الدجل العسكري الستيناتي المطبوع في مايو 1967 أذهان الضباط والجنود بأن لهم عدُوَّان: “الاستعمار والرجعية”! أو بمعنى أصح الإمبريالية والإسلام! ونحن في غنى عن ذكر عمالة الناصرية لأمريكا وعدائها للإسلام!
يستخدم المرجع عبارات كـ”أن يكون الشعب كله يدًا واحدة يبايع القائد”، وينعت الإخوان بـ”الإرهاب”، ويدندن بوجوب “البيعة” لـ”القائد الرائد”، ويأمر الشعب والجنود بـ”السمع والطاعة إلا أن يروا كفرًا بواحًا”، وينهى عن أن ينازع أحد من بايعه الشعب! وكل ذلك يماثل ما رددته الآلة الإعلامية الدجلية منذ 2013 من أن “الجيش والشعب إيد واحدة” وما تلصقه بمناهضي الانقلاب من تهمة “الإرهاب” وما أخذه السيسي من “تفويض” وما سعى إليه من “استفتاء على دستور لجنة الخمسين” ومن “انتخابات صورية” وما يروجه مشايخ الدجل من “إمامة المتغلب” وأن من يناهضه “خوارج” بالطبع هذا هو دور علماء السلطان عَبَد الجبت والطاغوت في وأد الثورات وإحلال دماء الثائرين!
ولنعرف كيف تم الوصول بشعب كان الإخوان هم من يصوغون وعيه قبل 1954 إلى حالة من الخطف الذهني يتقبل فيها أكاذيب العسكر حيث يدفعون الناس للإيمان بأنه ليس فوق السماء إلا النجوم “الدبورة”!
لنرى ذلك سأسوق صفحات من مرجع تأسيسي آخر مطبوع ضمن منشورات “إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة” في يوليو 1966 أي قبل هذا المرجع بسنة واحدة، لكنه خلال قضية سيد قطب ومن معه وقبل إعدامهم بشهرين حين أدرك العسكر ضعف قبضتهم على العقول وانتفضوا يجتهدون في إجادة السيطرة عليها، ولنعرف أهمية خطة السيطرة و”إعادة هيكلة الآلة الإعلامية” المنشورة فيه على صغر حجمه نرى أن الكتاب حاصل على الجائزة الأولى للموضوعات العسكرية في عيد العلم الحادي عشر ومنشور بتقديم جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ومُهدى إليهما!
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
[[{“attributes”:{},”fields”:{}}]]
هذا الكتاب وثيقة تتابع منها تطوير هجوم العسكر على وعي الشعب بعد خطر تنظيم سيد! تتابع منها تطور آلة الدجل والسحر الجبارة تلك التي تُسمى باسم “إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة” بينما هي أخطبوط سيطرة عقلية ضخم تلتف أذرعه حول كل مصدر تتلقى أنت منه معلومة أو طُرفة أو تتسلى بمشاهدته! تلتف حول الإذاعة والسينما والمسرح والصحافة! وهي في عصرنا تلتف حول الإنترنت والقنوات الفضائية ودور النشر! ليصبح كل ما يُعرض على عقلك هو ما يرضاه العسكر! بل فقط ما يريد العسكر أن تتلقاه منهم وحيًا يضاد وحي الرب ويمحو أثره في نفسك حتى تؤمن أنه لا إله إلا هم ولا رب سواهم!
يكفيك أن تقرأ في ص 52 من الكتاب فقرة بعنوان “قسم السينما والإنتاج” كتب إلى جوار عنوانها بين قوسين كلمة “واجبة”! ونص الفقرة: “إعداد خطط الإنتاج السينمائي داخل وخارج القوات المسلحة بما يحقق مطالب خطط التوجيه المعنوي ونقل مادة التوعية، بما في ذلك إعداد وإنتاج الأفلام السينمائية التي تبرز أوجه نشاط القوات المسلحة وتطويرها ودورها في المجتمع الاشتراكي”!
ا تمارسه إدارة الشؤون المعنوية مع وعي الشعب طول ستين سنة هو نسخة حقيقية واقعية مما في رواية 1984 من سحر للوعي وقمع للفِكر وبناء للأساطير
ومن هذه المعلومة تعرف مع من يعمل نادر بكار حين روَّج لفيلم “المصلحة” الذي يحسن صورة الشرطة المجرمة في سيناء ويرمي أهلها بكل نقيصة ويحل دماء سكانها للنظام، وتعرف أيضًا مع من يعمل مخرج مثل خالد يوسف يروج في أفلامه للصدام المسلح بين الإسلاميين والنظام وفناء الإسلاميين على إثر ذلك، ويقدم دومًا نموذج الثائر في عباءة الملحد أو اللاديني ليطبع الإصلاح في أذهان الناس بطابع الثورة على الدين لا الثورة على الظلم والهوان ولا الثورة انتصارًا للدين ذاته! ولا تكون مصدومًا جدًا حين يخرج الممثلون والراقصون والداعرون كافة في أول من يخرج تأييدًا لأي طاغوت يقدمه النظام إلى كرسي الحكم.
إن ما تمارسه إدارة الشؤون المعنوية مع وعي الشعب طول ستين سنة هو نسخة حقيقية واقعية مما في رواية 1984 من سحر للوعي وقمع للفِكر وبناء للأساطير!
إن الكتالوج الناصري العتيق الذي أنشأه هيكل وتفرع عنه هذا المرجع في أيدينا والمطبوع سنة 1967 لا يزال المرجع الذي تستخدمه الشؤون المعنوية للجيش عمليًا بعد نصف قرن! شيء يدلك على أن الانقلاب ليس ابن بضعة أشهر، لكننا منذ 23 من يوليو 1952 في انقلاب عسكري مستمر لم يسقط ولم ينعدِل!
وعلى صعيد المقارنة انطلق العثمانيون الجدد بجهود عظيمة في الشؤون المعنوية والإعلام فأنتجوا مسلسلات مثل “قيامة أرطغرل” و”فيلينتا” و”السلطان عبد الحميد” تناقش قضايا النفاق والخيانة والانقلابات والعمالة والثبات والتنظيم الإسلامي وغيرها من أفلام تخدم أهدافهم وتعزز قيمهم في نفس أتباعهم والمجتمع التركي والمجتمعات العربية التي انهالت تشاهد وتحلل وتهلل!
وكذا حماس انطلقت في قناة الأقصى تنتج مسلسلات “الروح” و”الفدائي” و”بوابة السماء” تناقش قضايا فلسطين من حق العودة والأسرى والرباط وغيرها، بينما مرسي لما تولى دعا الفنانين المصريين للقاء في قصره لم يدع له نشطاء السوشيال ميديا الذين دعموه، وانطلق الإعلام في عهده يمزقه وجماعته إربًا ولا نذكر موقفًا لإعلام وزيره الذي عينه غير موقف “ابقى تعالي وأنا أقولك فين”!
ولا اعتراض يصح بأن هذا أنتج أيام تمكن العثمانيين أو حماس، لأن العثمانيين ينتجون الكارتون الإسلامي القويم قبل أن يصلوا للحكم وكذا حماس كانت تنتج فنًا مقبولاً أشهره الأناشيد التي أشعلت العالم الإسلامي شرقًا وغربًا!
احتواء واستخدام الحلفاء
عند اشتعال أزمة سد النهضة فترة مرسي أبلغني مصدر خاص أنه عُرض عليه استخدام حركة الشباب الصومالية في تخريب السد حيث بينها وبين إثيوبيا ثأر قديم جديد وإذا دعمهم لن يظهر في الصورة وسيحمي بذلك المصالح المصرية لكنه لم يفعل، وكنت ضمن قلّة من شباب السوشيال ميديا عُرض عليهم أيام انفجار أزمة مقتل الجنود في سيناء عُرض علينا أن ندخل سيناء لجمع الأخبار لصالح مرسي لكن دون صفة رسمية، فقط خطاب من الرئاسة بأننا في مهمة تابعة لها، وكان السبب أن مرسي لا يثق في المخابرات ويريد تقاريرًا مستقلة عن الأوضاع.
لكن نظرًا لضعف موقف مرسي ذاته رفض الكثيرون هذا العرض لأنه لو كان بصورة أكثر رسمية لدل على سلطان صاحبه أما بهذه الصورة فالوضع برمته كان مقلقًا ونذيرًا واضحًا بما جرى بعد ذلك من الانقلاب عليه.
استفادة عبد الناصر من نذير رشيد مدير المخابرات الأردنية الأسبق في تأسيس استخباراته في سوريا ومصر، ومن صناعته له قبل ذلك على أرض الأردن واستخدامه له ضد الملك حسين، ثم مكافأته له بعيشة رغدة من ضمنها مرتب شهري 100 جنيه أيام كان الجنيه الورقي يساوي الجنيه الذهبي تقريبًا!
وعلى صعيد آخر كان عبد الناصر يدعم الانقلابات والثورات في كل اتجاه ويصدر الناصرية ومعاداة الإمبريالية في العالم العربي وإفريقيا وللنظر هنا إلى شهادة نذير رشيد مدير المخابرات الأردنية الأسبق حيث يقص طبيعة حياته الرغدة في مصر لاجئًا لدى عبد الناصر بعد مشاركته في محاولة انقلاب فاشلة ضد الملك حسين، قال:
“1957.. وتمت معاملتي في سوريا ومصر معاملة جيدة وكنا 600 أردني في سوريا ودفعت رواتبنا الجمهورية العربية المتحدة (سوريا ومصر)، وكان هناك لاجئين سياسيين في سوريا ومصر من كل أركان الأرض خاصة أفارقة، منهم 2000 عراقي، وكنا لاجئين عمليًا تابعين لمصر وكانت مصر ترسل الراتب.
وكنت درست بسوريا في كلية الحقوق 3 سنوات، وقدمت للاقتصاد في جامعة الإسكندرية ورسبت (ضاحكا)، وعشت في الإسكندرية 3 سنوات، وكان راتبي 100 جنيه مصري سنتي 63-65، يأتيني الراتب على باب البيت يعادل الآن 50000 جنيه، وكان يأتيني أيضًا دعم من أهلي، واشتركت في نوادى الإسكندرية”.
فانظر إلى ما وراء الخبر من استفادة عبد الناصر من الرجل في تأسيس استخباراته في سوريا ومصر، ومن صناعته له قبل ذلك على أرض الأردن واستخدامه له ضد الملك حسين، ثم مكافأته له بعيشة رغدة من ضمنها مرتب شهري 100 جنيه أيام كان الجنيه الورقي يساوي الجنيه الذهبي تقريبًا! بينما لم يفعلها مرسي عندما احتاجها بل وعُرضت عليه سهلة ميسورة، وحين احتاجها لم يكن عرضه بالصورة التي تؤمن حياة من يعرض عليهم وبالتالي لم يكن مقنعًا بل كان محبطًا مريبًا.
دولة بتكّة زرّ
بعد استخدام كل هذه الوسائل وأكثر منها تحقق لعبد الناصر حلمه الذي صرّح به في بداية مشواره العلني للسيطرة، ولنستعرض هذا الحلم، حيث قال عبد الخالق عن آخر جلسة له مع عبد الناصر قبل انفجار الأزمة بينه وبين الإخوان: “29 ديسمبر 1952 في منزل عبد القادر حلمي، بحضوري ومنير دلة وصلاح شادي وحسن العشماوي وأنورالسادات وكمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادي وأحمد أنور قائد البوليس السياسي، وانفردت بعبد الناصر جانبًا على أريكة، وكانت مكاشفة لجوهر الأمور، ناقشته بأخوية وموضوعية وكنت مؤمنًا بإمكانية تفادي النظام، وكان يتغير تاريخ البلد لو حصل هذا التصالح ولكانت البلد وطنية إسلامية على قلب رجل واحد مسيحيين ومسلمين وكان المسيحيون مرحبين، وانتهى الاجتماع عن طريقه، أطال المناقشة ليفرض عليّ الاقتناع بوجهات نظره وإلا فنحن أعداء.
فاعتبر هذه صدمة لأمور جوهرية كأنها قلبت المائدة رأسًا على عقب، فلما أعياه مسايرتي منطقيًا قال (هاقول لك على اللي في نفسي) فقلت (لي ساعة أحادثك لأصل إليه) فقال (أنا استقر في نفسي فكرة استولت عليّ: أنني أستطيع خلال فترة وجيزة لا تتجاوز سنتين أن أكون في وضع أملك ناصية الأمور، بحيث لو أتّكّ على زرّ البلد تقف، ولو أتّكّ على زرّ البلد تقعد، بس مش عارف ده صح ولا غلط) فلما كشف عن نفسه بهذا المفهوم فُجِعْت! وقلت (إذا بلغنا ذلك، فأحب أقول لك أن هذا اللي بيسموه الاستبداد والحكم المطلق، وهذا ما يخالف تمامًا كل ما بيننا وبينك وعلاقتنا بالثورة، وهذا غلط وسيؤكد لك غلطه ليس فريد عبد الخالق، الذي سيحكم بيننا وبينك هل هو صح أم خطأ، التاريخ) وكانت هذه آخر كلمة” .
فأي أجهزة دولة تلك التي تسير بطريقة آلية تمامًا كماكينة تنتج ما يريد صاحبها؟! بل أي دولة هذه تصير لعبة في يد حاكمها؟!
خاتمة
عبد الناصر سحر أعين الناس واسترهبهم وجاء بسحر عظيم فلم يروا إلا ما رأى وما ظنوا أنه يهديهم إلا سبيل الرشاد، وامتد خارج حدوده ليجعل له رجالاً وحدودًا جديدين في كل مكان له فيه مصلحة أو له فيه عدو وخصم، حتى صارت مصر في يده لعبة يحركها بتكّة زر، لكن خصومه لما حانت لهم الفرصة مرة بعد مرة لم يستخدموا ذات الوسائل ولا حتى غيرها، لم يحرصوا على السيطرة ولا توطيد أوتاد الحكم وأركانه، هذا حكمي فيما أرى وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين.
وإذا كان الشريف الذي نراه لم يفعل الواجب، لكن المتعسف الذي نراه فعل الواجب لكنه فعله لمصلحة نفسه لا للفكرة ولا للغرض النبيل.. فهذه المقالة مجرد مدخل وبداية لمن أراد وضع يده على طريق جديد للتغيير إلى الأفضل وعَدلِ حال بلد صارت كل يوم تميد بأهلها إلى حفرة لا قرار لها ولا فيها بقاء.