بعد 11 عامًا منذ آخر زيارة رسمية له للمملكة العربية السعودية والتي كانت في 2006 ها هو مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري ( أحد أكبر التيارات الشيعية في العراق)، يتوجه إلى المملكة في زيارة مفاجئة لتعيد ملف العلاقات السعودية العراقية من جانب والعلاقات العراقية الإيرانية من جانب آخر، للسطح مرة أخرى.
الاستقبال الذي وصفته بعض وسائل الإعلام بـ”الحار” للصدر في مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة، بعد ظهر أمس الأحد، حيث كان في استقباله وزير الدولة لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان، الذي كان يعمل سفيرًا للمملكة في العراق سابقًا، أثار الكثير من علامات الاستفهام عن الدوافع الحقيقية لتلك الزيارة فضلًا عما تقدمه من دلالات ومؤشرات.
الرياض تدعو والصدر يلبي
وصل الصدر إلى جدة استجابة لدعوة رسمية وجهها الديوان الملكي السعودي لزيارة البلاد، ورغم مناخ السرية والتكتم الذي أحيط بالزيارة فإنها تأتي في إطار بعض التحركات الأخيرة التي تسعى إلى التقريب بين العراق والرياض، التقى خلالها ولي العهد محمد بن سلمان، وبعض أعضاء هيئة كبار العلماء.
معروف أن مقتدى الصدر لا يمثل صفة رسمية لدى العراق، ومن ثم جاءت الزيارة كونه قياديًا وزعيمًا عراقيًا، إلا أن ذلك لم يحول دون أن يكون في استقباله وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان، والذي تربطه به علاقات قوية منذ أن كان سفيرًا للعراق قبل أن يتم الإطاحة به في أغسطس 2016 إثر اتهامات الخارجية العراقية له بالتدخل في شؤونها الداخلية.
اختيار السبهان ليكون على رأس مستقبلي الصدر في مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة، تعد رسالة مغازلة واضحة من الديوان الملكي السعودي للزعيم العراقي، الذي قد ترى فيه الرياض الورقة الرابحة التي تعيد من خلالها ترتيب أوراقها داخل العراق في مواجهة النفوذ الإيراني كما سيأتي ذكره لاحقًا.
وردًا على هذا الاستقبال الحافل، أصدر مكتب الصدر بيانًا أعرب فيه عن الهدف المعلن من تلك الزيارة، حيث جاء فيه: “إننا استبشرنا خيرًا فيما وجدناه انفراجًا إيجابيًا في العلاقات السعودية العراقية، ونأمل أنها بداية الانكفاء وتقهقر الحدة الطائفية في المنطقة العربية الإسلامية”.
وقد قوبلت هذه الزيارة بترحيب شديد داخل الأوساط السعودية، في مقابل هجوم واسع النطاق من قبل مناهضي الصدر من الكتل الأخرى داخل التحالف الوطني، ممن قللوا من تأثيرها على المشهد العراقي حال سعت الرياض إلى استثمارها لما هو في صالحها، ليبقى السؤال: لماذا مقتدى الصدر دون غيره الذي وجهت له المملكة دعوة الزيارة؟
طموح الصدر في خلافة علي السيستاني دفعه لإعادة النظر في خارطة تحالفاته الإقليمية، وهو ما فسره البعض بتأرجح المواقف والتوجهات ما بين طهران والعواصم العربية
النفوذ الإيراني في العراق يقلق الرياض
لماذا الصدر؟
منذ نشأته السياسية في 2003 ويتسم المنحنى العام للزعيم العراقي الشيعي بالتناقض والضبابية في كثير من المواقف، وهو ما أثار الجدل داخل العراق وخارجه، فالرجل الذي أبدى ميولاً تغازل السنة في كثير من المواقف فجأة ينقلب عليهم ويرتكب بحقهم جرائم أشبه بالتطهير العرقي.
فالبداية حين اصطف إلى جوار التيار السني عقب الغزو الأمريكي للعراق في 2003، حيث دعا إلى مقاومة القوات الأمريكية الموجودة فوق أرض بلاده، ثم فجأة ينقلب عليهم في 2006 حين انخرط في حرب طائفية معهم لا سيما بعد إعلان تشكيل ما عرف حينها بـ”جيش المهدي”، حيث استمرت عمليات العنف والتطهير الطائفي خلال عهد رئيس الوزراء الأسبق إبراهيم الجعفري.
ونفس الرجل الذي دعم حلفاء أمريكا في واشنطن على رأسهم نوري المالكي خلال معركة رئاسة الوزراء في 2006، من انقلب عليهم في نهاية 2007 حين شن المالكي هجومًا ضد أنصاره من التيار الصدري، وقد بلغت قمة تحولاته عقب ثورات الربيع العربي حين دعم احتجاجات التيارات السنية ضد رئيس الوزراء العراقي، حيث اتهمه بتهميشها وإقصاء قياداتها واعتقال عشرات الآلاف من أبنائها.
كما تتكشف جدلية الصدر بالوقوف أمام ميوله السياسية، وإلى أي التيارين الشيعين ينتمي، ففي الوقت الذي يميل فيه إلى تيار الإسلام السياسي الداعم لفكرة أسلمة الدولة، نراه يرفع شعارات مدنية وينادي بالعديد من الدعوات التي تذهب إلى فصل الدين عن الدولة، لكن وعلى مدار مشواره السياسي لم يترجم تلك الشعارات المدنية إلى واقع.
العديد من التصريحات الصادرة عن الصدر أثارت الجدل داخل الأوساط الإيرانية والسعودية على حد سواء، خاصة ما يتعلق بتحفظه على تدخل طهران في الشأن الداخلي العراقي، وهو ما دفع أنصاره في أكثر من مرة إلى الحشد ضد هذا التوجه مرددين شعارات تسببت في إحداث مزيد من التوتر بين الصدر والمرجعية الشيعية الإيرانية.
طموح الصدر في خلافة علي السيستاني دفعه لإعادة النظر في خارطة تحالفاته الإقليمية، وهو ما فسره البعض بتأرجح المواقف والتوجهات ما بين طهران والعواصم العربية، فبعد ساعات معدودة من هجومه على طهران يتوجه إليها بزيارة عاجلة لتلطيف الأجواء معها في مشهد دراماتيكي فاضح، وفي الوقت نفسه تراه يخطب ود العرب بالعزف على وتر القومية والمرجعية العربية والمدنية في أهدافه وميوله السياسية، وربما كان هذا سبب اختيار الرياض له ليكون الحصان الأسود الذي يراهن عليه آل سعود في عودتهم للمشهد العراقي مجددًا بعد سيطرة طهران وأذرعها العسكرية والسياسية على جزء كبير من الصورة.
ومن ثم فالزيارة التي جاءت بعد 11عامًا منذ آخر زيارة للصدر للمملكة في 2006 تخلل المشهد العراقي السعودي خلالها العديد من التطورات والمستجدات لا سيما في السنوات الخمسة الأخيرة، لا شك أنها تحمل دوافع قوية لدى الجانبين، فما هي؟
اختيار السبهان ليكون على رأس مستقبلي الصدر في مطار الملك عبد العزيز الدولي بجدة، تعد رسالة مغازلة واضحة من الديوان الملكي السعودي للزعيم العراقي
ماذا تريد السعودية؟
تسعى المملكة من خلال تلك الزيارة المثيرة للجدل في هذا التوقيت الحساس، إلى هدفين.
الأول: تهدئة الأجواء في المنطقة الشرقية، حيث تواجه السعودية حالة من الفوضى في تلك المنطقة من قبل الموالين للشيعة في تلك البقعة التي تمثل صداعًا في رأس الحكومية الملكية، مما دفع القوات السعودية إلى الدخول في مواجهات واعتداءات معهم كما حدث في العوامية مؤخرًا.
وتمثل المنطقة الشرقية، الدمام والمناطق المحيطة بها، نقطة ارتكاز الشيعة والموالين لهم في السعودية، نظرًا لقربها من مملكة البحرين ذات الكتلة الشيعية الكبرى، وقد شهدت خلال الفترة الأخيرة بعض الحوادث والمواجهات ما بين الحين والآخر، تسفر عن سقوط بعض القتلى وعشرات المصابين، مما دفع النظام السعودي إلى محاولة البحث عن حل.
هدف رئيسي من وراء زيارة الصدر للسعودية هو محاولة الضغط على الشيعة وأنصارهم في المنطقة الشرقية للتوقف عن مشاكساتهم مع الأمن السعودي، والكف عن أي تحركات ميدانية أو تظاهرية تنتقد المملكة وسياسات حكامها، توظيفًا للشعبية الجارفة التي يتمتع بها الزعيم الشيعي الكبير.
الثاني: مناهضة النفوذ الإيراني في العراق، أما الهدف الثاني الذي تسعى الرياض لتحقيقه من وراء تلك الزيارة فيتمثل في محاولة العودة للمشهد العراقي مجددًا بعد غياب استمر لسنوات باتت فيه بلاد الرافدين مرتعًا لإيران وأذرعها السياسية والعسكرية، وهو ما أوقع العراق أسير لنفوذ نظام الملالي في طهران.
الرياض من خلال ما رأته بشأن توسيع الصدريين للهوة بينهم وبين إيران من جانب، ومغازلة العرب من جانب آخر، فرصة سانحة لاستغلال ورقة الصدر لتنفيذ أهداف المملكة داخل العراق، من خلال تقوية شوكة التيار السني والوقوف خلف التيار الصدري في محاولة لإخراجه عن العباءة الإيرانية رويدًا رويدًا.
الاحتجاجات في المنطقة الشرقية صداع في رأس النظام السعودي
وماذا يريد الصدر؟
لا زال حلم خلافة على السيساتي، زعيم الحوزة العلمية في النجف، يراود مخيلة الصدر منذ سنوات عدة، خاصة بعد تكهنات بشأن اقتراب أجل الزعيم الأكبر للشيعة في العالم، إلا أن الوصول إلى هذا اللقب يحتاج إلى بعض الاستراتيجيات التي طرق الصدر أبوابها تمهيدًا لبلوغ حلمه.
فالرجل الذي طالما رفع شعارات عدة تنادي بمدنية الدولة يجد نفسه في موقف حرج أمام شيعة العراق ممن يميلون بصورة أكبر إلى أسلمة الدولة، ما أوقعه في مأزق في مواجهة السيستاني، وهو ما دفعه لتقديم مرجعية دينية لتصبح فيما بعد بديلة للتي طرحها زعيم الحوزة العلمية، حيث لجأ إلى تلامذة عمه محمد باقر الصدر، إلا أنه ومع مرور الوقت بزغت الخلافات بين الصدر وبعض تلامذة عمه وفي مقدمتهم كاظم الحائري وكمال الحيدري، بسبب بعض التوجهات التي يعتنقها مقتدى وعلى رأسها حركة الاحتجاجات التي يقودها في الداخل والتي من شأنها أن تحدث خرقًا في الصف الشيعي داخل الحكومة العراقية.
هدف رئيسي من وراء زيارة الصدر للسعودية هو محاولة الضغط على الشيعة وأنصارهم في المنطقة الشرقية للتوقف عن مشاكساتهم مع الأمن السعودي
التوتر كما يبدو ظاهريًا في العلاقات بين طهران والصدر دفع الأخير إلى محاولة البحث عن حاضنة عربية بديلة يستطيع من خلالها ترجمة أهدافه ومخططاته داخل العراق، ومن ثم كانت السعودية، الخصم التاريخي للحليف القديم، لتصبح الداعم الجديد للصدريين في توجهاتهم الجديدة والتي تخدم الطرفين في آن واحد، تيار مقتدى الصدر، والسنة العراقيين.
ومن المهم الإشارة إلى أن زيارة الصدر تأتي في إطار عدد من الزيارات التي قام بها مسؤولون عراقيون للسعودية خلال الآونة الأخيرة، لعل أبرزها زيارة رئيس الوزراء حيدر العبادي، قبل نحو شهر، ووزير داخليته قاسم الأعرجي، إلا أنها جاءت بالتنسيق الكامل والمسبق بين البلدين وفي العلانية، وذلك على عكس تلك التي قام بها الزعيم الشيعي، مما دفع بعض المصادر الرفيعة إلى القول بأن عنوان تلك الزيارة هو “وداع صدري لطهران” ليبقى السؤال: هل بالفعل من الممكن أن يخرج الصدر عن عباءة طهران؟
رغم التوتر الإعلامي المعلن بسبب الخلاف على بعض التوجهات بين الصدريين وطهران، لا تخفى قوة العلاقات بينهما بصورة من الصعب تفكيكها
هل يخرج الصدر من عباءة طهران؟
رهان السعودية على انسلاخ الصدر عن الفلك الإيراني ومحاولة توظيف هذا الانسلاخ من خلال الاحتواء وتكوين حاضنة جديدة له مسألة جدلية إلى حد ما، وهو ما يتطلب الإشارة إلى بعض النقاط لتبيان حقيقة هذه المسألة.
أولا: قبل عامين، نادى أنصار الصدر في وسط العاصمة بغداد بشعار “إيران برّا برّا” وذلك اعتراضًا على التدخل الإيراني في الشأن الداخلي العراقي، سبقه تصريحات متتالية لزعيم التيار الصدري اتهم فيها طهران باستخدام بعض الأوراق لتقوية نفوذها داخل بلاد الرافدين.
اعتقد البعض أن هذه هي ذروة الخلاف بين الصدر وحاضنته القديمة طهران، وبدأت التأويلات هنا وهناك عن خريف دائم في مشهد والنجف، لكن سرعان ما حسم الزعيم الشيعي هذا الجدل بسفره إلى إيران في محاولة منه لتبرير ما ردده بعض أنصاره خلال تلك الاحتجاجات، في رسالة منه أن علاقته بدولة الملالي أقوى من المهاترات التي تحدث ما بين الحين والآخر.
ثانيًا: منذ بداية مشواره السياسي في 2003 تميز الصدر بالضبابية في النهج والفكر والإجراءات المتخذة، هذا فضلاً عن مساعيه الحثيثة لخلافة السيستاني، ومن هنا سعى إلى سد الثغرات كافة التي من شأنها إضعاف موقفه أمام منافسه العجوز.
وكما تم ذكره سابقًا اتخذ الصدر مرجعية بديلة للسيستاني من خلال تلامذة عمه، كذلك طالما دخل في مواجهات مع الأمريكان تارة ورجالها في العراق تارة أخرى، في محاولة لتوسيع دائرة نفوذة مستغلاً الأوضاع المتقلبة التي يجيد العزف عليها بصورة كبيرة.
ومن هنا فإن أي تحرك للصدر داخليًا وخارجيًا إنما يأتي في إطار تعزيز نفوذه وتهيئة الأجواء من جميع الجهات للجلوس على عرش الزعامة الشيعية في العراق، لكنها هذه المرة ستكون بصبغة عربية خالصة وليست إيرانية كما كان في السابق، وهو ما يفسر بشكل كبير فتح قنوات اتصال مع الرياض وغيرها من العواصم العربية.
الهدف الثاني الذي تسعى الرياض لتحقيقه من وراء تلك الزيارة يتمثل في محاولة العودة للمشهد العراقي مجددًا بعد غياب استمر لسنوات
ثالثًا: رغم التوتر الإعلامي المعلن بسبب الخلاف على بعض التوجهات بين الصدريين وطهران، لا تخفى قوة العلاقات بينهما بصورة من الصعب تفكيكها، وهو ما دفع البعض إلى القول إن ما يمارسه الصدر على أرض الواقع من تقارب مع العرب، والسعودية على وجه الخصوص، يأتي في إطار خطة محكمة متفق عليها بينه وبين المسؤولين الإيرانيين.
طهران في ظل الحصار المفروض عليها طيلة السنوات الماضية بسبب برنامجها النووي، تسعى إلى فتح قنوات اتصال مع الدول المجاورة، بهدف توسيع نفوذها خطوة تلو الأخرى، وفي الوقت الذي تعاني فيه علاقاتها مع تلك الدول من تأزم جراء تباين وجهات النظر حيال الملفات الإقليمية فضلاً عن الخلاف المذهبي، كان لا بد من تقديم وجه جديد للعرب يحمل أصلهم ويتكلم بلسانهم لكنه في النهاية يخضع لتوجهات وإملاءات طهران، ومن ثم كان مقتدى الصدر ودوره الجديد في المنطقة كرسول إيران الجديد.
مما سبق يلاحظ أن المبالغة في التعويل على تلك الزيارة مسألة تحتاج إلى مزيد من النقاش، والحديث عن توديع صدري كامل لطهران في مقابل احتضان سعودي جديد حديث في حاجة إلى إعادة نظر، حتى لا تخرج الزيارة عن إطارها الطبيعي وفق مصالح مشتركة للطرفين في التقارب في هذه اللحظة الآنية ربما يعقبها خريف جديد حال حدوث مستجدات قد تغير ملامح المشهد.