أمام أنظار نواب الشعب كشف وزير المالية التونسي بالنيابة محمد فاضل عبد الكافي، الخميس، أن كل محركات الاقتصاد التونسي شبه معطلة، والضغوطات المالية التي تحاصر بلاده تهدد بعدم صرف رواتب الموظفين لشهري أغسطس وسبتمبر القادمين، الأمر الذي أثار مخاوف لدى عموم التونسيين من إمكانية إفلاس بلادهم وعجز حكومتها عن توفير أجور موظفيها في الأشهر القادمة، مما استدعى تدخل الوزير مجددًا ليبدد المخاوف ويطمئن الرأي العام، فما حقيقة إفلاس تونس وعدم قدرتها على تسديد ديونها الخارجية وأجور موظفيها؟
محركات الاقتصاد التونسي شبه معطلة
الخميس الماضي، أطل وزير المالية التونسي بالنيابة محمد الفاضل عبد الكافي من تحت قبة البرلمان على التونسيين بتصريح صادم أثار مخاوفهم، كشف فيه عن تردي الأوضاع المالية في تونس، وحاجة البلاد للحصول على قروض خارجية لتسديد أجور الموظفين توفير مصاريف الدولة وموارد الدعم، وأقر أن كل محركات الاقتصاد التونسي شبه معطلة مجددًا، وهو ما جعل تونس في حاجة إلى موارد مالية عاجلة خلال الأشهر المقبلة على حد تعبيره.
وقال الوزير: “لأول مرة تحتاج الدولة التونسية إلى الاقتراض الخارجي لتوفير موارد مالية للباب الأول من الميزانية العامة للدولة المتعلق بالأجور ومصاريف الدولة والدعم، وهو ما يقرع أجراس الإنذار بشأن توفير الموارد المالية خلال الفترة المقبلة ومواجهة التحديات المالية خاصة على مستوى الزيادات في الأجور المتفق بشأنها بين الحكومة والاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) والتي تدخل حيز التنفيذ خلال النصف الثاني من سنة 2017”.
تحقق تونس إيرادات سنوية جبائية وغير جبائية تتراوح بين 24 و25 مليار دينار وهي إيرادات غير كافية لتغطية كتلة الأجور والديون ونفقات التصرف بالدولة والدعم
وكشف عبد الكافي أن السيولة المالية للدولة التونسية أصبحت ضئيلة ويجب الموافقة على اتفاقية قرض مبرمة مع الاتحاد الأوروبي بقيمة 500 مليون يورو، لأنه يأتي مباشرة لدعم ميزانية الدولة وحتى تتمكن الدولة من دفع أجور الشهرين المقبلين، بسبب ارتفاع كتلة الأجور إلى 15 مليار دينار بعد أن كانت في حدود 6.7 مليارات دينار، وشدد عبد الكافي على أن تونس لم تعد قادرة على التصدي لالتزاماتها المتعددة إلا عن طريق الاقتراض، الحكومة تراقب يوميًا حسابها الجاري لدى البنك المركزي التونسي في ظل تراجع كبير في عائدات الدولة مقابل ارتفاع النفقات الموجهة للأجور والتصرف.
تصريحات الوزير جاءت بعد أيام من صدور تقرير للبنك الدولي حذر فيه تونس من إمكانية الانهيار، وقال البنك إن الحكومة التونسية لا تزال تواجه تحديات اجتماعية واقتصادية، مما يفرض عليها حماية نظامها المالي من الانهيار وذلك بالسيطرة على عجز الموازنة وميزان المعاملات التجارية، وتحقق تونس، وفقًا لأرقام رسمية، إيرادات سنوية جبائية وغير جبائية تراوح بين 24 و25 مليار دينار (ما بين 10 و10.4 مليارات دولار)، وهي إيرادات غير كافية لتغطية كتلة الأجور والديون ونفقات التصرف بالدولة والدعم، مما يدفع الحكومة إلى السوق العالمية للتداين لتغطية الأجور.
وسجلت البلاد ارتفاعًا في نسق تطور الواردات خلال الـ6 أشهر الأولى من سنة 2017 ليصبح في حدود 16.4% مقابل ارتفاع للصادرات بـ12.7%، إلى جانب ذلك بلغ عجز الميزان التجاري التونسي خلال النصف الأول من السنة الحالية 7535.2 مليون دينار مقابل 6034.1 مليون دينار خلال نفس الفترة من سنة 2016 وفقًا للمعهد الوطني للإحصاء (مؤسسة حكومية).
كما تضاعف عجز الميزان التجاري الغذائي خلال النصف الأول من سنة 2017، حيث بلغ 728.5 مليون دينار (ما يمثل 9.7% من إجمالي عجز الميزان التجاري) مقابل 367.6 مليون دينار خلال نفس الفترة من سنة 2016، وفقًا لوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري، كما سجل معدل إنتاج النفط تراجعًا إلى ما دون 30 ألف برميل في اليوم في الفترة الأخيرة، وكانت وزارة الطاقة والمناجم قد أشارت سابقًا إلى أن تونس تتكبد يوميًا نتيجة تعطل الإنتاج خسائر بقيمة 3.4 مليون دينار، فيما تقدر الخسائر أسبوعيًا بما يعادل 25 مليون دينار.
تدارك ما قال
حالة الهلع والخوف التي انتابت التونسيين بعد سماع كلام الوزير، دفعت به إلى الخروج مجددًا ليبدد المخاوف ويطمئن الرأي العام، حيث قال على إثر حضوره في مجلس وزاري أمس الإثنين إن تصريحه السابق أسيء فهمه ولم تتم قراءته على وجه الدقة، وأكد الوزير أن الموارد المالية لتغطية الأجور متوفرة وسيتم صرف الرواتب بشكل عادي، مشيرًا إلى أن مؤسسة البنك المركزي التونسي، وعلى رأسها المحافظ، تقوم بدورها على أكمل وجه في إضفاء التعديلات المالية اللازمة وضمان استقرار قيمة الدينار وتفادي أي انزلاقات محتملة.
وأوضح محمد الفاضل عبد الكافي أن هناك بوادر انفراج إيجابية يشهدها الاقتصاد التونسي حاليًا رغم استمرار تسجيل ضغوطات على المالية العمومية، مفسرًا ذلك برجوع معدلات الإنتاج والمردودية في القطاع الخاص، وعودة الموارد بالنسبة لمجالات السياحة والفوسفات والاستثمار الخارجي، ومن المنتظر أن يبلغ حجم الأجور خلال هذه السنة، حسب أرقام رسمية، 15 مليار دينار تونسي (نحو 6 مليارات دولار) من إجمالي ميزانية الدولة المقدرة بنحو 34 مليار دينار تونسي، وذلك بعد أن كانت تلك الأجور لا تزيد على 6.7 مليار دينار تونسي قبل سنوات.
كان صندوق النقد الدولي قد حث الحكومة التونسية على الضغط على الأجور، وذلك من خلال الاستغناء عن نحو 130 ألف من موظفي القطاع العام
وكان صندوق النقد الدولي قد حث الحكومة التونسية على الضغط على الأجور، وذلك من خلال الاستغناء عن نحو 130 ألف من موظفي القطاع العام، وتحديد نسبة الأجور في مستوى 12%، وهو من بين شروط الإصلاح الاقتصادي الهيكلي المفضي إلى حصول تونس على أقساط من القروض المخصصة لتمويل اقتصادها الذي يمر بفترة صعبة، وفق تقديرات الخبراء في مجالي المالية والاقتصاد.
ومنذ 2011 يعرف الاقتصاد التونسي تراجعًا متواصلًا ومراحل صعبة كانت تتجاوزها الحكومة التونسية ببعض الإصلاحات الجبائية أو بقروض دولية لم تجد البلاد حلًا للتخلي عنها بسبب الضغط الذي مورس على الإدارات والمؤسسات الحكومية لأجل زيادة الرواتب.
ارتفاع الدين الخارجي
سبق أن نبه خبراء اقتصاد تونسيين في السنوات الماضية إلى إمكانية نفاد المخزون المالي للبلاد وأنها على حافة الإفلاس، إلا أن المسؤولين كانوا يخرجون كل مرة بتطمينات لتجنب أي احتقان اجتماعي، ولتفادي الانزلاق نحو الهاوية التجأت تونس نحو الاقتراض، وتحتاج تونس إلى تحقيق نسبة نمو بنحو 4% لتحقيق توازنات مالية إلا أن نسبة النمو لم تتعد 1% واقتربت في 2015 من الصفر ويتوقع أن تبلغ 2.3% هذه السنة، بينما كان النمو في 2010 عند 4.5 % حسب أرقام صندوق النقد الدولي.
وفي خطاب توليه منصب رئاسة الحكومة أكد يوسف الشاهد أن نسبة التداين الخارجي (الاقتراض) ارتفعت بنحو 62% منذ ثورة يناير/كانون الثاني 2011 إلى 2016، أي بارتفاع بنحو 2% مقارنة بالمستوى الذي كانت عليه في العام 2014، حيث أكد وزير المالية التونسي في حكومة الحبيب الصيد حينها أن حجم الديون الخارجية بلغ 21.3 مليار دولار وهو حجم ديون قياسي مقلق.
بلغ حجم الدين الخارجي لتونس في السنوات الأخيرة مستويات قياسية
وكان حجم الدين الخارجي لتونس في 2010 عند مستوى 13.4 مليار دولار لكنه سرعان ما ارتفع إلى 21.3 مليار دولار في 2014 مع نسق تصاعدي في 2015 و2016، وتقترض تونس من أجل استثمار تلك القروض في مشاريع تنموية منتجة، لكنها تضطر في معظم الحالات لتوظيف جزء من تلك القروض لسداد أجور موظفي القطاع العام.
وكانت وزارة الشؤون الاجتماعية التونسية قد أكدت في أحدث الإحصائيات أن نحو 800 ألف شخص يعملون في القطاع العام، بينما كشف محافظ البنك المركزي الشاذلي العياري أن الدولة تدفع شهريًا نحو 416.6 مليون دولار رواتب لموظفي القطاع العام، مما يشير إلى أن الوظائف في القطاع العام تلتهم مخصصات الاستثمار.
ومؤخرًا وافق صندوق النقد الدولي على طلب السلطات التونسية تعديل مراحل الحصول على المبالغ المتبقية من القرض الموقع بينهما والبالغة قيمته 2.8 مليار دولار، وهو ما يعني اقتراح صرفها على ستة أقساط نصف سنوية.
في وقت سابق طرح البنك المركزي التونسي خطة قال إنها استراتيجية جديدة تهدف إلى توفير سيولة مالية تصل إلى 5 مليارات دولار خلال الفترة ما بين 2016 و2020
وفي 12 من يونيو الماضي سمح صندوق النقد الدولي لتونس بسحب مبلغ 314.4 مليون دولار أميركي، أي ما يعادل 787 مليون دينار تونسي، ضمن الأقساط المالية المتفق عليها بين الطرفين، وحصلت السلطات التونسية حتى الآن على قسطين من القرض الذي منحه الصندوق لدعم الاقتصاد التونسي، وقدرت المبالغ المالية المتحصل عليها بما لا يقل عن 628.8 مليون دولار، في انتظار بقية الأقساط التي تمتد من 2016 إلى 2020.
وفي وقت سابق طرح البنك المركزي التونسي خطة قال إنها استراتيجية جديدة تهدف إلى توفير سيولة مالية تصل إلى 5 مليارات دولار خلال الفترة ما بين 2016 و2020 في إطار شراكة مع البنك الدولي ستُوجه إلى إنعاش النمو الاقتصادي وخلق مواطن الشغل وتوفير التنمية للجهات المحرومة من خلال إصلاحات استثمارية هيكلية جريئة.
تراجع العملة المحلية
يواصل الدينار التونسي تراجعه في السوق العالمية لينزل إلى مستويات قياسية أمام العملات الرئيسية، حيث بلغ اليوم الثلاثاء 2.79 أمام اليورو (العملة الأوروبية الموحدة) و2.36 أمام الدولار الأمريكي، وهذه من المرات القلائل التي تنزل فيها قيمة الدينار التونسي إلى هذا المستوى، ويُرجع خبراء اقتصاد هذا الهبوط الكبير لقيمة الدينار التونسي أمام العملات الأجنبية إلى التراجع المستمر للاحتياطي المالي من العملة الصعبة إلى ما دون 98 يوم توريد إلى حدود منتصف يوليو وهو رقم دون المعدل العالمي المحدد بـ110 يوم توريد.
تراجع الدينار أدى إلى ارتفاع قيمة الدين الخارجي
بالإضافة إلى عدم استقرار المناخ السياسي في البلاد وانهيار مداخيل السياحة والاستثمار الأجنبي المباشر مقابل ارتفاع قيمة الأموال المحولة من طرف الشركات الأجنبية العاملة بتونس نحو الخارج، فيما يشير آخرون إلى وجود علاقة وثيقة بين صندوق النقد الدولي وتراجع قيمة الدينار، على اعتبار أن صندوق النقد الدولي يفرض شروطًا على البلدان التي يُقرضها، ورجح خبراء طلب صندوق النقد الدولي من الحكومة تعديل قيمة الدينار، الأمر الذي نتج عنه تراجع قيمته.
من تداعيات هذا التراجع في قيمة الدينار التونسي ارتفاع سعر المنتجات الموردة، خاصة المواد الأولية ومواد الطاقة
وتحدد قيمة العملة بجملة من العوامل على رأسها المستوى العام للأسعار والاحتياطي النقدي للبلاد وسعر الصرف ووضع البلد الاقتصادي والمالي، وكانت وزيرة المالية المقالة لمياء الزريبي، قد أكدت قبل إقالتها أن اقتصاد البلاد يسير نحو التدهور وأن قيمة العملة ستعرف نزولًا تدريجيًا، وتم اعتماد الدينار التونسي منذ نوفمبر 1958 كعملة رسمية للجمهورية التونسية، وعند إصداره قُدرت قيمته بـ2.115880 جرام من الذهب الخالص من طرف البنك المركزي التونسي.
وكان البنك المركزي التونسي يتدخل عند كل تراجع للعملة المحلية مقابل اليورو والدولار، حيث يتدخل في سوق الصرف بين البنوك بضخ أو سحب العملة الأجنبية في السوق لتوفير الاستقرار في الأسعار في حالة تغير الطلب وتمثيله خطرًا على استقرار الدينار، ويملك المصرف المركزي التونسي، وفق القانون المنظم لنشاطه، سلطة التدخل للسيطرة على أسعار صرف الدينار بهدف حماية الاقتصاد من التقلبات المفاجئة التي يمكن أن تضر بالشركات المحلية.
ومن تداعيات هذا التراجع في قيمة الدينار التونسي ارتفاع سعر المنتجات الموردة، خاصة منها المواد الأولية ومواد الطاقة والتي يؤثر ارتفاع أسعارها على أسعار بعض السلع المحلية، إلى جانب ارتفاع مصاريف خلاص ديون تونس الخارجية المقدرة بالعملة الصعبة مقارنة بما هو متوقع (الدولة تشتري العملة الأجنبية التي ستسددها للمقرض الأجنبي من البنك المركزي بالدينار التونسي) وارتفاع المديونية.
خفض الدعم والإصلاح الجبائي وخصخصة مؤسسات الدولة
أمام هذه الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد، من المنتظر أن تلجأ تونس إلى إجراءات صارمة أملتها عليها جهات الدعم الأجنبية، من ذلك رفع الدعم كليًا عن أسعار بعض المواد الأساسية وتوجيهه نحو مستحقيه من الطبقات الضعيفة دون غيرها، حتى تتحكم البلاد في مواردها المالية.
وتهدف سياسة دعم المواد الغذائية في تونس إلى إعادة توزيع الدخل الوطني والمحافظة على المقدرة الشرائية للفئات أصحاب الدخل الضعيف، إذ يتولى الصندوق العام للتعويض ضبط كلفة بعض المواد بهدف الضغط على أسعارها وجعلها في مستويات مقبولة، ويتم تعديل أسعار البيع للعموم لتغطية ارتفاع تكاليف إنتاج المواد المدعمة جزئيًا مع الأخذ بعين الاعتبار مستوى الدخل ومراعاة الإمكانات التي يمكن تعبئتها لتغطية كلفة الدعم.
تراجع المقدرة الشرائية للمواطن التونسي
وبحسب بيانات رسمية فقد تجاوزت ميزانية الصندوق العام للتعويض (صندوق الدعم) قرابة الضعف في الفترة بين 2011 و2017، حيث قفزت من 730 مليون دينار (300 مليون دولار) إلى نحو 1.6 مليار دينار (640 مليون دولار) مقابل حصول الطبقات الضعيفة على 12% فقط من هذه الميزانية، فيما يذهب الباقي إلى الطبقات الغنية والفنادق والمطاعم، وتمثل ميزانية صندوق الدعم 1.7% من الناتج الداخلي الخام للبلاد و5% من ميزانية الدولة ونحو 26% من نفقات الاستثمار، وهو ما أثر سلبًا على التوازنات المالية العامة للدولة.
إلى جانب ذلك، تعمل تونس على إقرار إصلاحات تتعلق بالقطاع الضريبي وهو مورد مالي مهم للدولة لكن التهرب من دفع الجباية فاقم الأزمة في تونس، وتشمل الإصلاحات التي وافقت عليها تونس أيضًا تجميد الزيادات في أجور القطاع العام بهدف تعزيز إيرادات الموازنة والسيطرة على العجز.
وأيضًا إصلاح المنظومة البنكية وبيع البنوك العمومية وإعادة هيكلتها لإخراجها من الأزمة المالية وإدخالها في منظومة التنمية من جديد، وتمتلك الدولة التونسية ثلاثة مصارف وهي “الشركة التونسية للبنك” (مصرف تجاري تونسي)، “البنك الوطني الفلاحي”، “بنك الإسكان”، وهي ركيزة القطاع المصرفي في تونس، وتستحوذ هذه المؤسسات على 40% من حجم تداولات الاقتصاد التونسي، وتشارك الأصول المصرفية بنسبة 23% من قيمة التمويل الإجمالي للاقتصاد، كما أن بها ما يقارب 29 ألف موظف، وتساهم بنسبة 3% من الناتج الداخلي، وتمول جميع القطاعات تقريبًا.