ترجمة وتحرير نون بوست
عندما يندلع العنف في القدس والضفة الغربية، عادة لا يمر وقت طويل قبل أن يطال النزاع قطاع غزة. يوم الجمعة، وعلى الحدود مع قطاع غزة، قُتل مراهق فلسطيني وهو بصدد الاحتجاج تضامنا مع الفلسطينيين في القدس. وقبل عدة أيام، أطلق صاروخان على إسرائيل انطلاقا من غزة. وفي اليوم التالي، دمرت الدبابات الإسرائيلية أحد مواقع حماس.
عموما، يعد هذا الأمر متوقعا ومألوفا للغاية على غرار أحداث التي سبقت النزاع العسكري في غزة سنة 2014، حيث اتسمت تلك الفترة بانبثاق موجة من الاحتجاجات واسعة النطاق في القدس، كما قتل عدد من الإسرائيليين في الأراضي المحتلة. علاوة على ذلك، سجل ارتفاع حاد في عدد القتلى الفلسطينيين من قبل القوات الإسرائيلية، فضلا عن الاعتقالات الجماعية في صفوف مسؤولي حماس في الضفة الغربية، وتشديد الخناق بشكل مطرد في جميع أنحاء القطاع.
في شباط / فبراير، أصدر مراقب الدولة في إسرائيل تقريرا ينتقد من خلاله بشدة فشل الحكومة في منع نشوب صراع سنة 2014. وأشار التقرير إلى البيان الذي أصدره وزير الدفاع الأسبق، موشيه يعالون بعد أيام من اندلاع الحرب، حيث قال: “لو تم التعامل مع مسألة حماس قبل بضعة أشهر، لكنا تجنبنا التصعيد الحالي”.
في الحقيقة، يعاني سكان غزة في الوقت الراهن أضعاف ما شهدوه من مآسي قبل اندلاع الحرب على غزة سنة 2014. ومرة أخرى، تتمثل الأطراف الثلاثة المسؤولة عن الحصار، الذي ترتب عنه هذا التضييق على المواطنين، في إسرائيل ومصر والسلطة الفلسطينية. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن الحرب القادمة قد أزفت.
في الواقع، يفتقر القطاع إلى الكهرباء، في حين أن المياه غير صالحة للشرب، كما يتم إلقاء مياه الصرف الصحي في البحر
من ناحية أخرى، تفشت موجة العنف التي اندلعت سنة 2014، بشكل أكبر نتيجة لتغير السياسة المصرية بعد تولي عبد الفتاح السيسي منصب الرئاسة في يوليو / تموز سنة 2013، حيث عمد إلى إغلاق المعبر الحدودي الوحيد بين مصر وغزة لفترات طويلة. فضلا عن ذلك، قام السيسي بتدمير جميع الأنفاق تقريبا التي كانت تستخدم لتهريب الوقود وغيرها من السلع التي فرضت عليها حكومة غزة الضرائب. ونظرا إلى النقص الحاد في الإيرادات، كان من الصعب على الحكومة التي تقودها حماس أن من تصمد أكثر من ذلك. ونتيجة لذلك، وافقت حماس على تسليم المسؤولية الإدارية إلى السلطة الفلسطينية التي تسيطر عليها حركة فتح.
عموما، لم تُحدث الحكومة الجديدة أي تغيير يذكر بالنسبة لسكان غزة، حيث لم يقع دفع أجور موظفي الخدمة المدنية، في حين كان معظم السكان محاصرين داخل أراضيهم، علما وأنهم قد قضوا معظم الوقت من دون كهرباء. ومن هذا المنطلق، يرى البعض أن نشوب حرب جديدة، هو خلاصهم الوحيد، على أمل أن أي حرب من شأنها أن تؤدي إلى اتفاق شبيه بذلك الذي أبرم في تشرين الثاني / نوفمبر سنة 2012، لوقف إطلاق النار والذي أدى إلى الحد من القيود المفروضة على أهالي غزة آنذاك.
في الوقت الراهن، ساهمت السلطة الفلسطينية في تفاقم معاناة سكان غزة. ففي الأشهر الأخيرة، اشترطت السلطة الفلسطينية تزويد القطاع بالوقود مقابل دفع ضريبة كبيرة، كما خفضت قيمة التعويضات بشكل مهول بالنسبة لموظفي السلطة الفلسطينية في غزة. فضلا عن ذلك، عمدت السلطة الفلسطينية إلى التخفيض من قيمة المدفوعات للجانب الإسرائيلي الذي يتكفل بتوفير الكهرباء، بالإضافة إلى منعها لأعداد كبيرة من المرضى من تلقي العلاج خارج الإقليم، وإجبار الآلاف من موظفي حكومة غزة على التقاعد المبكر.
علاوة على ذلك، منعت السلطة الفلسطينية مختلف المصارف في غزة من تحويل مبالغ مالية إلى مصر من أجل الحصول على الوقود لتزويد محطة الكهرباء الوحيدة في القطاع. كما هددت السلطة بقطع مدفوعات الرعاية الاجتماعية التي تقدم لصالح 80 ألف أسرة في غزة.
نقل البضائع من إسرائيل يعتبر بمثابة عبء إضافي على كاهل السكان الذين يعيشون في غزة
ترتب عن هذه القرارات حدوث كارثة إنسانية في غزة، التي أمست على وشك الانهيار. ففي الواقع، يفتقر القطاع إلى الكهرباء، في حين أن المياه غير صالحة للشرب، كما يتم إلقاء مياه الصرف الصحي في البحر. وقد لقي العديد من المرضى الذين رفضت السلطات نقلهم من القطاع لتلقي العلاج حتفهم. وقد كانت هذه الأزمة بمثابة ناقوس خطر بالنسبة لبعض المحللين وصناع القرار الإسرائيليين، حيث أصبحوا يترقبون نشوب صراع جديد.
في أواخر نيسان / أبريل، حذر إيجورا أيلاند، مستشار الأمن القومي في عهد رئيس الوزراء السابق أرييل شارون، من أن السلطة الفلسطينية بصدد “دفع حماس إلى اعتماد الخيار الوحيد أمامها، ألا وهو فتح النار على إسرائيل وجذب انتباه المجتمع الدولي مرة أخرى”. كما أضاف أيلاند أن “السلطات الفلسطينية تسعى لدفع الوضع في غزة نحو الانهيار والتأزم قدر الإمكان حتى تتفوق حركة فتح في أي مواجهة ضد حماس. في المقابل، سيدفع كل من الشعب الإسرائيلي وسكان غزة ثمن هذه اللعبة السياسية المثيرة للسخرية”.
من ناحية أخرى، لا ينبغي أن نلقي اللوم فقط على السلطات الفلسطينية نظرا لأن السبب الرئيسي وراء مختلف المشاكل التي يعيشها قطاع غزة هو التحركات الإسرائيلية والمصرية لعزل القطاع. فضلا عن ذلك، تتمسك إسرائيل والمجتمع الدولي بالرواية التي تحيل إلى أن السلطة الفلسطينية هي التي تتحكم في القطاع. وبالتالي، ينبغي أن يكون لها الحق في فرض الضرائب على البضائع هناك وتلقي المعونة الموجهة للقطاع وتوزيعها بنفسها.
على مدى عشر سنوات، سعت إسرائيل ومعظم المجتمع الدولي إلى إضعاف حكام غزة من خلال التظاهر بأنهم غير موجودين. وفي الأثناء، تقوم إسرائيل بجمع الضرائب المتأتية من جميع السلع التي ترسلها إلى غزة، ومن ثم تحويل تلك الأموال إلى السلطة الفلسطينية. من جهتها، تأبى السلطة الفلسطينية إنفاق الأموال المتأتية من الضرائب لتوفير الخدمات للقطاع، حيث تقوم بتخصيصها لفائدة موظفي السلطة الفلسطينية السابقين، الذين تلقوا أموالا طائلة لمدة عشر سنوات فقط للبقاء في منازلهم، وذلك بغية شل تحركات الحكومة التي تقودها حماس.
وحتى تتمكن من دفع تعويضات موظفيها وتغطية نفقاتها التشغيلية، عمدت حكومة غزة إلى فرض الضرائب على البضائع التي كانت تهرب عبر أنفاق سيناء. وخلافا للسلع التي تدخل من إسرائيل، لم ترد هذه البضائع مرفقة بعلامات سعرية التي غالبا ما يرتفع سعرها بسبب الضرائب التي تفرضها السلطة الفلسطينية. في سنة 2013، أغلقت مصر الأنفاق بالكامل تقريبا. ونتيجة لذلك، ارتفعت كمية البضائع التي تدخل غزة من إسرائيل بشكل كبير. وفي الأثناء، فُرض على القطاع ضرائب مضاعفة على العديد من الواردات، في مرحلة أولى من قبل السلطة الفلسطينية، قبل دخول البضائع إلى القطاع، وثم من قبل حكومة غزة.
في حين أن نقل البضائع من إسرائيل يعتبر بمثابة عبء إضافي على كاهل السكان الذين يعيشون في غزة، إلا أنه يمثل نعمة بالنسبة للسلطة الفلسطينية. وعوضا عن إنفاق المزيد من الأموال على القطاع، أخذت السلطة الفلسطينية في الحد من حجم إنفاقها على أمل أن تتسبب في إضعاف موقف حماس.
من المحتمل جدا أن ينشب نزاع جديد بين غزة وإسرائيل، وقد يعقب ذلك نزاع آخر أكثر حدة
في الوقت نفسه، ساهم المجتمع الدولي في دعم هذا النظام الظالم، كما رفض التفاوض مع حكومة غزة. وبدلا من ذلك، تم توجيه جزء كبير من المساعدات، التي كانت لصالح المدنيين في غزة أي حوالي 40 بالمائة من الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، إلى السلطة الفلسطينية.
من جانب آخر، وبغية تحقيق الاستقرار في غزة، سمحت مصر بنقل بعض الوقود إلى القطاع كخطوة إيجابية. في المقابل، لا يزال هناك الكثير من العمل والتدابير التي يجب اتخاذها في هذا الصدد. ففي المقام الأول، يجب تغيير النظام القائم الذي تخضع بموجبه حكومة غزة للإملاءات الضريبية من قبل حكومة لا تمثلها فحسب، بل تسعى جاهدة إلى إلحاق الضرر بها.
في واقع الأمر، يمكن تحقيق ذلك من خلال ثلاثة طرق. أولا، يمكن لإسرائيل، التي ترفض التعامل مع أي حكومة تقودها حماس، أن تنقل عائدات الضرائب على البضائع إلى متساكني غزة، إما عن طريق إشراف دولي أو من خلال توظيف إيرادات الضرائب لتوفير المزيد من الكهرباء لصالحهم.
ثانيا، يمكن لمصر أن تُصدر المزيد من السلع إلى غزة، مما سيساهم في الحد من الأموال التي تفرضها إسرائيل ويدعم الضرائب التي تفرضها حكومة غزة مباشرة. ثالثا، باستطاعة حماس أن تسمح بتشكيل هيئة إدارية جديدة في غزة، بقيادة شخصية لا تنتمي للحركة. وفي هذه الحالة، يمكن لإسرائيل والمجتمع الدولي التعامل مع هذا المسؤول مباشرة وذلك لتحسين سبل الحياة في غزة وتوقيع اتفاق طويل الأمد لوقف إطلاق النار.
على العموم، سيعمق الاعتراض على أي من هذه الخيارات في رام الله الهوة بين الضفة الغربية وقطاع غزة، كما سيمهد الطريق أمام نهاية الحركة الوطنية الفلسطينية. وفي الأثناء، أعرب البعض في غزة عن مخاوف مماثلة، فالتغييرات التي طرأت على القطاع يمكن أن تجعله أكثر عرضة للخطر، في حال اعتمد السكان بشكل كامل على مصر، التي قد تنتهج سياسة أكثر قسوة في ظل ارتفاع وتيرة الإفلات من العقاب مع كل هجوم يقع بالقرب من حدود غزة في سيناء.
في الحقيقة، لا ينبغي أن يؤدي الخوف من العواقب المحتملة إلى القبول بهذا الوضع وتجاهل التهديد الوشيك. في المستقبل القريب، من المحتمل جدا أن ينشب نزاع جديد بين غزة وإسرائيل، وقد يعقب ذلك نزاع آخر أكثر حدة. وبالتالي، من غير المرجح أن يتم رتق الصدع بين الضفة الغربية وقطاع غزة. عموما، تتمثل الطريقة الأسهل والأكثر فعالية حتى لا يكون المستقبل كارثيا في السماح فقط للحكومة التي تشرف على تسيير شؤون مليوني شخص في غزة بفرض الضرائب على البضائع التي يستهلكونها.
المصدر: نيويورك تايمز