انقلبت مقاطع الفيديو التي بثها جنود الاحتلال من قلب قطاع غزة، وهم يستمتعون بقتلهم وقصفهم وممارستهم الإبادة الجماعية، وينشروها بكلٍ فخرٍ على منصة تيك توك، إلى أدلة استخدمتها دولة جنوب أفريقيا في اليوم الأول من جلسات استماع للنظر في القضية التي رفعتها ضد “إسرائيل” في محكمة العدل الدولية بتهمة ارتكاب إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في قطاع غزة.
خلال الجلسة، التي عقدت في مقر المحكمة بمدينة لاهاي بهولندا، يوم الخميس 11 يناير 2024، قال الفريق القانوني لجنوب أفريقيا في مرافعته، إن الجنود الإسرائيليون يلتقطون صورا لأنفسهم وهم يحتفلون بتدمير المدن والقرى، وهم يستعرضون الصور. وبدلًا من السماح بترويج الأكاذيب الإسرائيلية، أكد الفريق القانوني أن “إسرائيل” ترتكب عنفًا جنسيًا بحق النساء والأطفال في قطاع غزة.
وبلغات مختلفة، كان العالم يشاهد انعقاد جلسة الاستماع الأولى في القضية التي رفعتها بريتوريا ضد تل أبيب، وأن الأخيرة مارست وارتكبت جرائم إبادة جماعية بما يتعارض مع اتفاقية الأمم المتحدة لمنع الإبادة الجماعية لعام 1948، والتي وقعت عليها كل من جنوب أفريقيا و”إسرائيل”. وتحتفظ الأطراف الموقعة على المعاهدة بحقها في منع الجريمة ووقفها.
تنتهي جلسات الاستماع، بقرار المحكمة المستعجل بوقف أو عدم وقف الإبادة الجماعية في قطاع غزة، بعدها تنظر في مجموعة من المؤشرات حول عمليات جيش الاحتلال وكيف أنها ترقى لإبادة جماعية وفق طلب جنوب أفريقيا، ثم ستنظر في جلسات المحاكمة، لتحكم إذا كان الاحتلال قد ارتكب أو لم يرتكب إبادة جماعية.
وبينما يمكن أن تشكل خطوة جنوب أفريقيا وتوجهها في محكمة العدل الدولية، تغيرًا مفصليًا في مسار الأحداث لا على الاحتلال وحده، بل على مزوديه بالسلاح وداعميه، لأنهم قد يوسموا نهاية بأنهم شركاء في الإبادة، نحاول في هذا التقرير شرح ما يجري في لاهاي.
ماذا تعني الإبادة الجماعية؟
استخدم مصطلح الإبادة الجماعية (genocide) لأول مرة من قبل المحامي البولندي رافائيل ليمكين عام 1946 واعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1946 بمصطلح “الإبادة الجماعية” كجريمة بموجب القانون الدولي، كما يقول مكتب منع الإبادة الجماعية والمسؤولية عن الحماية، وهو هيئة تابعة للأمم المتحدة، وقد أدرج هذا المصطلح في اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها عام 1948، التي صدقت عليها 149 دولة، ودخلت حيز التنفيذ عام 1951.
وتعني الإبادة الجماعية أيًا من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لمجموعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، وتشمل: قتل أعضاء المجموعة، والإضرار الجسيم بالسلامة الجسدية والعقلية لأعضاء المجموعة، وإخضاع المجموعة عمدا لظروف معيشية يقصد بها تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا، والتدابير الرامية إلى منع الولادات داخل المجموعة، والنقل القسري للأطفال من مجموعة إلى مجموعة أخرى، وفي حالة قطاع غزة، تظهر جميع المعطيات في 97 يومًا من الحرب الإسرائيلية على غزة حتى يوم انعقاد جلسة الاستماع الأولى في لاهاي، ارتكاب الاحتلال هذه الممارسات مجتمعة.
ولا تخضع جريمة الإبادة الجماعية كمًّا للتقادم، ولا يستفيد مرتكبوها من الحصانة، إذ تتم ملاحقة كل شخص ارتكبها أو أمَر بارتكابها دون النظر إلى منصبه سواء كانوا حكامًا أو موظفين عامين أو أفرادًا غير مسؤولين وفق المادتين الثالثة والرابعة من اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية.
بماذا تشتكي جنوب أفريقيا؟
رفعت جنوب أفريقيا دعوى المؤلفة من 84 صفحة، وأشارت فيها إلى أن الاحتلال فشل في تقديم الأغذية الأساسية والمياه والأدوية والوقود وتوفير الملاجئ والمساعدات الإنسانية الأخرى لسكان القطاع، واستمر في حملة قصف دمرت مئات الآلاف من المنازل واضطرت نحو 1.9 مليون فلسطيني إلى النزوح، بما يشكل 85% من السكان، وأسفرت عن استشهاد 23 ألف شخص.
وتشير الدعوى أيضًا إلى أن سلوك الاحتلال “من خلال أجهزة الدولة ووكلاء الدولة وغيرهم من الأشخاص والكيانات التي تعمل بناء على تعليماتها أو تحت توجيهها أو سيطرتها أو نفوذها”، يشكل انتهاكًا لالتزاماتها تجاه الفلسطينيين في غزة بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية.
وتنص الدعوى على أن “إسرائيل” فشلت في منع الإبادة الجماعية وفشلت في مقاضاة التحريض المباشر والعلني على الإبادة الجماعية، وأن أفعالها في حرب غزة تشير إلى نية ارتكاب إبادة، وأن مئات من العائلات في غزة قتلت بالكامل ولم يبق منها أي فرد على قيد الحياة.
وهو ما أكد عليه الفريق القانوني لجنوب أفريقيا، الذي قال في جلسة الاستماع الأولى أن الاحتلال تعمد خلق ظروف تحرم الفلسطينيين من المأوى والمياه النظيفة، وفرض عن عمدٍ ظروفًا في غزة لعدم السماح بالعيش والتدمير الجسدي للفلسطينيين.
قضاة محكمة العدل: من هم؟
تتألف محكمة العدل الدولية من 15 قاضيُا يتم تعيينهم لمدة تسع سنوات من خلال انتخابات منفصلة ومتزامنة في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ويمكن لأي دولة أن تقترح مرشحين ولكن لا يجب أن يأتي قاضيان من دولة واحدة، وفي الوقت الحالي، تضم هيئة القضاة الحالية قضاةً من الولايات المتحدة، وفرنسا، وسلوفاكيا، والصومال، والهند، وأستراليا، والصين، واليابان، وجمايكا، وألمانيا، والبرازيل، وأوغندا، والمغرب، ولبنان، وسيستبدل 4 من قضاتها في فبراير\شباط 2024، لانتهاء ولايتهم.
وإضافة إلى القضاة الخمسة عشر، يسمح لـ “إسرائيل” وجنوب أفريقيا بتعيين قاضٍ خاص يضاف إلى هيئة المحكمة حيث لا يوجد تمثيل لأي منهما، بناء على ذلك اختارت حكومة الاحتلال رئيس المحكمة العليا السابق و”الناجي من الهولوكوست” أهارون باراك، وهو متهم بـ “إضفاء الشرعية” على الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين خلال فترة عمله في المحكمة العليا، بينما عينت جنوب أفريقيا ديكجانج موسينيكي، النائب السابق لرئيس المحكمة العليا، وأمضى خلال فترة شبابه 10 أعوام في جزيرة روبن التي التقى فيها الرئيس السابق لجنوب أفريقيا نيلسون مانديلا.
ويستمع القضاة إلى مرافعات مدتها 3 ساعات لكل طرف، ويتوجب عليهم أن يكونوا محايدين وألا يتصرفوا كامتداد لبلدانهم. لكن الأبحاث تشير حول تحيزات المحكمة إلى أن القضاة يصوتون لبلدانهم الأصلية في حوالي 90 بالمائة من الحالات، عندما لا تكون بلدانهم الأصلية معنية، يصوت القضاة لصالح بلدان مشابهة لبلدانهم الأصلية على أساس أبعاد الثروة والثقافة والنظام السياسي.
وقررت المحكمة.. ماذا بعد؟
في جلسة الاستماع الأولى، تركز المحكمة على طلب عاجل من جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية بإصدار أمر لجيش الاحتلال بالخروج فورًا من قطاع غزة ووقف القصف العشوائي للمدنيين هناك، ويعتبر هذا الطلب استثنائيًا بالنظر إلى أن قواعد عمل محكمة العدل الدولية تتيح للدول المطالبة باتخاذ تدابير مؤقتة قبل بدء النظر بالقضية إذا اعتقد أحد الأطراف أن الانتهاكات التي شكلت أساس النظر في القضية ما زالت قائمة كما هو الحال في غزة.
في حال الموافقة على الطلب، يمكن لمحكمة العدل الدولية أن تصدر أمرًا في غضون أسابيع، وتعتبر أحكام محكمة العدل الدولية ملزمة قانونًا ولا يمكن استئنافها. لكن المشكلة أنه ليس لدى المحكمة سلطة تنفيذ، فمثلًا في الحرب الأوكرانية الروسية، استجابت محكمة العدل الدولية لطلبات كييف بإصدار أمر طارئ ضد غزو موسكو في أقل من ثلاثة أسابيع. وأمرت المحكمة، في 16 مارس/آذار 2022، روسيا بـ”التعليق الفوري للعمليات العسكرية”.
ولو أصدرت المحكمة حكمها بوقف الإبادة الجماعية في قطاع غزة، فإنها لا تمتلك القوة العسكرية لإلزام الاحتلال تنفيذ القرار، وفي هذه الحالة، يشير مدير منظمة القانون من أجل فلسطين إحسان عادل إلى أن جنوب إفريقيا طلبت من المحكمة أن تأمر الاحتلال بتقديم تقارير دورية عن مدى التزامها بالتنفيذ وماذا فعلت، في حال لم يلتزم الاحتلال، يمكن لجنوب أفريقيا التوجه لمجلس الأمن، وطلب إلزام “إسرائيل”، وهذا يخضع لاحتمال الفيتو بالطبع.
والتوجه لمجلس الأمن لتنفيذ القرار يمكّن واشنطن من حماية الاحتلال من العقاب، كما فعلت عدة مرات في هذه الحرب، علمًا بأن الولايات المتحدة استخدمت هذا الحق لنقض 34 من أصل 36 مشروع قرار اقترحها مجلس الأمن بخصوص الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
ويستدرك عادل، في حديثه لـ “نون بوست” بأن تحدي قرار المحكمة -وهي أهم وأعلى محكمةٍ ولها احترام عالٍ جدًا- من قبل الاحتلال أو من خلال الفيتو الأمريكي لن يكون سهلًا أبدًا، وأيضًا القرار سيكون ملزمًا لكل دول العالم، بالتالي يمكن لأي دولة أن تأخذ إجراءات أو تفرض عقوبات بشكل فردي دون الحاجة لقرار من مجلس الأمن.
ويعتقد أن الاحتلال -حال صدر قرار إيجابي لصالح الفلسطينيين من المحكمة- سوف يعمل على التنفيذ الجزئي له، بحيث لا يظهر بمظهر المتحدي القرار، بل إنها تلتزم به، ولكن دون أن يؤثر على أمور جوهرية ضمن أهدافها العسكرية.
أين دول العالم “الديموقراطي” من القضية؟
في قضية أوكرانيا ضد روسيا، تدخلت 32 دولة، بما في ذلك كل دول الاتحاد الأوروبي باستثناء المجر، لدعم أوكرانيا، أما في حال جنوب أفريقيا، فلم تقم أي دولة بالتدخل القانوي حتى اللحظة، مع الاكتفاء بالوقوف إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي.
وأعربت أغلب الدول الأوروبية عن دعمها لـ “إسرائيل” أثناء هجومها على غزة، في حين أعلنت فرنسا مؤخرًا أنها سوف تلتزم بقرارات المحكمة، ونفت الولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا أن إسرائيل مذنبة بارتكاب جرائم إبادة جماعية، ووصفت طلب جنوب أفريقيا بأنه “لا يستحق” و”يؤدي إلى نتائج عكسية”.
وبالمثل، أشار وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون إلى القضية باعتبارها “غير مفيدة”، وأكد مجددًا أن لـ إسرائيل “الحق في الدفاع عن نفسها”. وأعلنت أيرلندا، الداعمة لحقوق الفلسطينيين منذ فترة طويلة، أنها لن تنضم إلى جنوب أفريقيا في الدعوى القضائية، حيث قال تاويستيتش ليو فارادكار إن الدول “بحاجة إلى توخي الحذر” في استخدام مصطلح “الإبادة الجماعية”، وعارضت غواتيمالا هذه القضية، وذهب وزير الخارجية المجري إلى حد وصفها بأنها “هجوم قانوني ضد إسرائيل”.
لكن من جهة أخرى، فمن شأن تعدد الدعاوى والتدخلات القانونية من الدول، أن تؤدي إلى إبطاء القضية حيث يتعين على المحكمة النظر فيها جميعًا، فإذا رغبت دولة ما بالانضمام إلى جنوب أفريقيا في رفع الدعوى، فسيظل هذا الطلب في إطار عملية واحدة، وليست دعاوى منفصلة.
العالم العربي والإسلامي وجنوب أفريقيا
لم يختلف الواقع خلال 97 يومًا من الإبادة الجماعية مع الجلسة الأولى للاستماع في لاهاي، والعالم العربي والإسلامي -الذي اقتصر في فعالياته خلال الحرب على الاجتماع مع الاحتلال تارة في مؤتمر المناخ بدبي، ومناقشة فكرة ما بعد غزة متجاوزين الإبادة الحاصلة، وعدم اتخاذ أي إجراءات عملية لكسر الحصار عن غزة وفتح معبر رفح المصري الفلسطيني- جاء رده على دعوى جنوب أفريقيًا خجولًا كما طوال الإبادة، دون دعمٍ واضح وقوي.
ومع ذلك، أعربت العديد من الدول والمنظمات عن دعمها القوي للتحرك القانوني لجنوب أفريقيا، وجاءت إحدى ردود الفعل المبكرة على هذه القضية من منظمة التعاون الإسلامي، التي أعربت عن دعمها للقضية، أما ماليزيا، فكانت الدولة الأولى التي تؤيد علانية جنوب أفريقيا، فقالت وزارة خارجيتها في بيان إنها “ترحب بالطلب الذي تقدمت به جنوب أفريقيا برفع دعوى ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية” ودعت إسرائيل إلى “إنهاء فظائعها ضد الفلسطينيين”.
وأصدرت وزارة الخارجية التركية بيانًا أعربت فيه عن دعمها للدعوى القضائية في جنوب إفريقيا، بعدما كانت تركيا والاحتلال يعملان على إصلاح العلاقات بعد سنوات من التوترات قبل 7 أكتوبر\تشرين الأول، وكذلك الأردن، التي قالت إنها تدعم الدعوى القضائية التي رفعتها جنوب أفريقيا.
ووصفت بوليفيا خطوة جنوب أفريقيا بأنها “خطوة تاريخية في الدفاع عن الشعب الفلسطيني” وأيدت بقوة قضية الإبادة الجماعية. وقدمت بوليفيا، إلى جانب جنوب أفريقيا وبنغلاديش وجزر القمر وجيبوتي “طلبًا إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في الوضع في دولة فلسطين” في 17 تشرين الثاني/نوفمبر. وقطعت البلاد علاقاتها مع الاحتلال في 31 أكتوبر واستدعت سفيرها.
أما السلطة الفلسطينية، وهي التي تعرّف نفسها دومًا على أنها الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني – وإن رفض الفلسطينيون هذه السلطة- فما زالت على موقفها قبل الحرب، فبينما يبحث رئيسها رفقة الأردن ومصر في القاهرة على بعد كليومترات من قطاع غزة حيث يُباد شعبه مرحلة ما بعد حماس في غزة، لم تصدر السلطة ولا حركة فتح أي موقفٍ داعمٍ لجنوب أفريقيا، بل والتزمت الصمت، وكانت قبل قد جعجعت كثيرًا في كل خطاباتها المكررة بأنها ستقود الاحتلال لمحكمة العدل الدولية لمحاكمته، وحين جاءت الفرصة اختبأت وصمتت.