لازمت الموسيقى الحروب والمعارك على مرّ التاريخ، وكانت الأغنية ولا تزال نضالًا وسلاحًا ولسان حال الثورات وتاريخ الشعوب المليء بالآلام والحافل بالانتصارات، فقد لعبت دورًا مهمًا في تشكيل هوية الفرد والمجتمع، وكانت المحرك والحافز لاسترداد الأرض والدعوة للمقاومة واستعادة الحرية، كما هو مستمر في فلسطين اليوم، حتى أصبحت الأغاني إحدى اللغات أو الأدوات التي يعبر بها المجتمع.
المقاومة بالكلمات
قد يعتقد البعض أن الموسيقى اُستخدمت لأول مرة خلال الحروب العالمية، إلا أنها اُستخدمت خلال الحروب التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين، وقد تكون الآلات والأدوات تغيّرت بالفعل، إلا أن رسالة الموسيقى خلال الحروب نفسها ظلت كما هي.
رغم أن التكنولوجيا ساعدت في لعب دور رئيسي في كيفية انتشار الموسيقى، إلا أن استخدامها يعود إلى العصور القديمة، تتحدث المراجع التاريخية عن كيفية استخدام الجنود للموسيقى كوسيلة لمساعدتهم على التأقلم والتعامل مع الصدمات والتوتر والقضايا الناجمة عن الحرب، وقيل أيضًا إن اليونانيين كان يقودهم عازفوا الأغاني من أجل رفع معنويات الجيش.
أظهر لنا التاريخ أن الموسيقى اُستخدمت في أوقات الحرب، لغرس حبّ الوطن والشجاعة من خلال المسيرات والأناشيد، وتهدف بعض الأغاني المكتوبة والمنتجة خلال زمن الحرب إلى توحيد الأمة وتعزيز قيم التوافق، على سبيل المثال تمّت كتابة سيمفونية “الانتصار (Triumphlied)” للملحن الألماني يوهانس برامس لتصوير الانتصار الألماني في الحرب الفرنسية البروسية عام 1871.
ومنذ أربعينيات القرن الماضي اعتبر الإيطاليون الأغنية حافزًا لهم للثورة ومواجهة الاستبداد والظلم، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية انتشرت الأغنية الإيطالية “بيلا تشاو” (وداعًا أيتها الجميلة) بين مقاومي نظام موسوليني الفاشي، وتحديدًا لدى الأحزاب الشيوعية، والتي تعتبر من أشد أعداء موسوليني، ومارس الكثير من القمع والضغوط ضدها لتتحول الأغنية إلى فلكلور إيطالي.
انتشرت الأغنية من حقول الأرزّ في إيطاليا حيث كانت المزارعات يتغنين بها للتعبير عن الاعتراض على استغلالهن في العمل، كما تغنى بها المقاومون على جبهات الحرب، واختاروا لها كلمات تناسب القتال، وغيّر البعض الآخر كلماتها وفقًا لحالته، لتكون بذلك رمزًا للحرية والثورة في إيطاليا، وسرعان ما جابت العالم بالكامل، وتحولت إلى رمز حقيقي للمقاومة التي تشكّلت ضد النازية، صدرت منها نسخ متعددة، واستخدمها العرب أيضًا للتعبير عن المقاومة والثورة مثل سوريا وفلسطين والعراق.
تمكّنت الموسيقى والأغاني من نقل تاريخ السكان الأصليين في جميع أنحاء العالم وما حصل لهم من إبادات واستعمار.
إبّان الحرب العالمية الثانية، تغير استخدام الموسيقى بشكل كبير عن الحروب السابقة، هذه المرة استخدمتها الجيوش النظامية كأداة للدعاية، كما أصبحت السيمفونية الخامسة لبيتهوفن تُعرف باسم “شعار النصر” خلال الحرب العالمية الثانية، واستخدمها الحلفاء رمزًا للمقاومة ضد الألمان.
بالنسبة إلى الشعوب، اُستخدمت موسيقى حينها في التعبير عن آثار الحرب المدمرة التي أودت بحياة الملايين، وكان أشهرها وأكثرها انتشارًا أغنية “كاتيوشا“، وتتلخص قصتها في انتظار فتاة لحبيبها الجندي الذي يخدم في الجيش خلال الحرب، وتحولت لاحقًا لشرارة فجّرت حماسة الثائرين ضد الاحتلال والأنظمة الاستبدادية في أماكن مختلفة من العالم، وأُطلق اسمها على نوع من قاذفات الصواريخ السوفيتية التي استخدمها الجيش الأحمر خلال الحرب.
ظهرت أيَضًا أغنية “نشيد الخيالة” لفكتور جوسيف، وكانت تشجّع مقاتلي الجيش الأحمر السوفيتي وتسرد أهوال الحرب، صارت تُعزف بكثرة من قبل فرقة موسيقى الجيش الأحمر لإثارة حماس المقاتلين، وأُطلق عليها اسم “فرسان مارس الأحمر” لتشتهر الأغنية بسرعة كبيرة في العالم أجمع، كما أُعيد نشرها عدة مرات بنسخ مختلفة، وتحولت إلى موسيقى الروك والبوب، حتى اقتبس لحنها الأخوان رحباني وأضافاها إلى إحدى أغاني المغنية اللبنانية فيروز.
ومن الحرب العالمية الثانية إلى حرب فيتنام (1955-1975)، حان وقت موسيقى الروك آند رول وموسيقى الاحتجاج، التي استخدمها الفنانون المعارضون للحرب كوسيلة لإيصال رسالتهم إلى العالم، واُستخدمت أيضًا لتشجيع للجنود لخوض المعارك، وتحولت أغنية فرقة “ذي أنيملز (The Animals)” التي حملت عنوان “علينا أن نفرَّ من هذا المكان” عام 1965، إلى واحدة من أكثر الأغاني التي يرددها الجنود على الجبهة ضد القوات الأمريكية في غضون سنوات قليلة.
في ساحة المعركة أيضًا، كانت الأغنية أخت السلاح، فخلال النزاع المسلح الذي دام أكثر من 50 عامًا بين السلطات الكولومبية وحركة القوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك)، احتجزت الأخيرة عسكريين من الجيش الكولومبي في معسكرات سرّية بأعماق الغابات الكولومبية في ظروف سيئّة، وكانت مهام إنقاذهم محفوفة بالمخاطر، وزادت التضاريس الجبلية من صعوبتها، ما جعلهم يفقدون الأمل في فرصة نجاتهم.
من أجل طمأنتهم وبثّ الأمل في نفوسهم، عمدت السلطات الكولومبية تأليف أغنية “أيام أفضل (Better Days)”، وبثها عبر موجات الراديو التي كانت الوسيلة الوحيدة للتواصل مع الأسرى، وأُدخلت في الأغنية شفرة مورس التي يتقنها الجنود المحتجزون، في رسالة واحدة بسيطة ومتكررة تقول: “تم إنقاذ 19 شخصًا، أنت التالي، لا تقلق”.
بخلاف ما ارتبطت به الموسيقى من قيم الخير والجمال، وهو رأي يجسّده قول الكاتب الإنجليزي وليام كونغريف: “الموسيقى لها سحرها في تهدئة الصدور”، كان لها أيضًا وجه آخر وعلاقة وثيقة بالقتل الجماعي والعنف، فقد ارتبطت بأعمال التعذيب داخل معسكرات الاعتقال النازية، والإبادة الجماعية في رواندا التي قال أحد مرتكبيها أنها كانت بمثابة “مهرجان”، واُستخدمت زمن الحرب العالمية الثانية وحرب العراق.
الأغاني الثورية.. سلاح المجاهدين
نظرًا إلى وجود ظلم اجتماعي واقتصادي وقمع سياسي وانتهاكات عسكرية دائمًا في العالم، كان هناك دائمًا أشخاص يحتجّون على العديد من هذه التجاوزات، وفي كثير من الحالات يعبّر الناس عن اضطهادهم من خلال الهتافات والأغاني.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك أغنية بيتهوفن “أنشودة الفرح” التي دعمت الأخوّة العالمية، وكانت معارضة للعبودية الموجودة في أجزاء كثيرة من العالم، وفي عام 1795 احتجّ المواطنون على حقوق المرأة من خلال غناء لحن احتجاجي نسوي بعنوان “حقوق المرأة”، والذي كان عبارة عن إعادة صياغة للنشيد الوطني الإنجليزي “فليحفظ الله الملكة”.
اجتماعيًّا أيضًا، تمكّنت الموسيقى والأغاني من نقل تاريخ السكان الأصليين في جميع أنحاء العالم، وما حصل لهم من إبادات واستعمار، حتى إذا خانتهم كتب التاريخ في التدوين، ظلت الموسيقى لسان حالهم، تحكي قصصهم لمن بعدهم، وتثبت وجودهم وتاريخهم.
كانت الأغنية جزءًا من الواقع العربي، واُستخدمت عبر الزمن للتعبير عن الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات.
كذلك لعبت الأغنية الثورية التي عاصرت استعمارًا عاشته الكثير من الدول دورًا بارزًا في نقل الأخبار وإعلام المقاتلين بتحركات العدو، وتحذّرهم من أي طارئ أو حصار عبر رسائل مشفّرة تعددت صيغها، وإيماءات تغيب عن دهاء المستعمر ومخبريه، فكانت همزة وصل بين الثورة والشعب.
وكان للدول العربية على مدى تاريخها النصيب الأكبر من هذه الأغاني التي تراوحت تسميتها بين الفن البديل والأغنية السياسية، التي كانت بوصلتها الأولى مشاغل الناس ومواجهة الاستعمار وترسّباته، والتحريض على مواجهة الاحتلال والكشف عن مآزقه وتصدّعاته، وكان لها دور لا يُنسى في مقاومة السلطة ونقد الواقع السياسي، ومواجهة الأزمات الداخلية والوقوف في وجه الحكّام الجائرين، وتحرير الشعوب وارتفاع منسوب الحرية.
في أواخر القرن التاسع عشر، ظهر في المغرب أحد أبرز البواكير الغنائية التي ثارت على الاستعمار والحاكمين بأمره داخل البلاد، عُرف هذا الفن الغنائي الشعبي باسم “العيطة”، واعتمدت في ثورتها على المستعمر على لغة شعبية مشفّرة تحمل خصائص خفية لا يفهمها إلا أصحاب الأرض، وتعبّر عن واقع المجتمع، ما جعلها مستقرة في وجدان المقاومين الذين تناقلوها سماعًا على مرّ السنين.
تعد الفنانة الشعبية المغربية حادة الزيدية التي لُقبت بـ”خربوشة“، واحدة من رموز الصمود التي زلزلت عرش الاحتلال وقادته داخل الوطن، وتسلحت بقوة الكلمة، وكان لها دور كبير في نصرة قبيلتها، وتأجيج روح الثورة فيهم ضد ظلم القائد عيسى بن عمر، وجاءت أغنيتها على شكل قصيدة هجائية تستصغر اسمه وشخصيته وقوته لتكون النتيجة سجنها وتعذيبها.
لم تخلُ الأغاني أيضًا من كونها وسيلة للتحايل والمراوغة السياسية، فعندما ثار المصريين مطالبين بالاستقلال في وجه الاحتلال البريطاني بعد الحرب العالمية الأولى، قرر المستعمرون منع ذكر اسم المحرك السياسي والقائد الأبرز للثورة سعد زغلول ونفوه خارج البلاد، وهنا ثار الفن المصري ضد القرار بأغنية شعبية حملت اسم “يا بلح زغلول” التي غنتها نعيمة المصرية، وما زالت تحيا في وجدان المصريين حتى اليوم.
وتلاعب الفن المصري بالقرار العسكري للمستعمر بالتقاطه مقطعًا فلكلوريًا من باعة البلح الأحمر الشهير، مع ذكر اسم سعد مرتين واسم زغلول (نوع من البلح) نحو 20 مرة في أغنية عن الفاكهة الشعبية الأولى، دون الوقوع تحت طائلة القانون الذي يمنع ذكر اسمه في المظاهرات أو أي مناسبات أخرى، ويعاقب المخالفون بـ 20 جلدة والسجن 6 أشهر مع الأشغال الشاقة، ومع ذلك ردد الثوار الأغنية حتى عاد سعد زغلول من منفاه وانتصرت الثورة.
https://youtu.be/GdUv8d_rI0k?si=JvzzI4YIwafe5HvX
بعد 100 عام، عادت الأغنية كوسيلة للاحتجاج ومناكفة السلطة وقضّ مضجعها، فقد منعت السلطات المصرية أداء هذه الأغنية في عرض مسرحي حمل اسم ملحّنها الموسيقار الكبير سيد درويش، الذي أضحت مسيرته الفنية صوتًا للشارع الباحث عن طرق للنضال، ومعبّرة عن آمال البسطاء الذين منحوه لقبه الأشهر “فنان الشعب”، والسبب هو ربط السلطات بين كلمات الأغنية ولقب “بلحة” الذي تندّر به مصريون على الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي.
كذلك اُستخدمت هذه النوعية من الأغاني المشفّرة في ثورة التحرير الجزائرية لتبادل الرسائل بين المجاهدين وأهالي القرية، وكانت سلاحًا آخر بيد المجاهدين مثلما جاء في أغنية المجاهد المعروف الحاج الأخضر، واسمه أعبيدي محمد الطاهر،، إذ تقول الأغنية: “يا صاحب العمامة الصفراء لا تمر من منطقة المِعذَر في ولاية باتنة، فالعساكر يغلقون المكان”.
كانت الأغنية الثورية ناقلة لواقع الحال بمآسيه وجراحه، ولخّصت كذلك حجم المعاناة في ظل الاستعمار من تهجير وقتل ودمار، وهو ما جسّدته أغنية “جئنا من عين مليلية”، والتي ودّع فيها مجاهدًا أهله قبل استشهاده، وتقدّم باعتذاره لوالدته، واستمر هذا التأثير لعقود بعد الاستقلال، فكان لها التأثير نفسه في وجدان الجزائريين.
وكانت الأغنية جزءًا من الواقع العربي، واُستخدمت عبر الزمن للتعبير عن الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات، في مصر مثلًا، وفي فترة الستينيات، بدأ فصل جديد في الأغنية العربية من تمجيد أبطال العسكر بعد هزيمة حرب عام 1967 إلى انتقاد الوضع الاقتصادي.
وهو ما عبّرت عنه أغنية “شيد قصورك” للشاعر أحمد فؤاد نجم والملحّن الشيخ إمام، اللذين ابتكرا فن “موسيقى السجون” الذي وُلد من جحيم المعتقلات العربية، فقد قُبض عليهما وحُكم عليهما بالسجن المؤبد، حتى أُفرج عنهما بعد اغتيال الرئيس محمد أنور السادات، لكن ذلك لم يمنعهما من نقد خلفه حسني مبارك بأغانٍ أشد حدّة وأكثر جرأة، منتقدين اتساع الفجوة بين الأثرياء وطبقة الفقراء في تلك الحقبة.
وفي ثورات الربيع العربي، روى غناء الأثير العربي العابر للمكان بين تونس ومصر وليبيا واليمن قصة الحرية، واستحال كل هتاف صدحت به حناجر الثوار إلى أغنية ترفع مطالبهم وتردّ على ما يواجهونه، واستعادت الأغاني الشعبية حضورها في الميادين بعد أن كادت تغيب خلال سنوات حكم أنظمة ظنت أنها لن تسقط.
وبعد سنوات انتعاشة عاشتها الأغنية السياسية في العالم العربي، عادت إلى مربعها الأول، وشهدت انتكاسات متتالية نتيجة القمع والتضييق والاستبداد السياسي، وفرضت عليها حالة من الحصار في الوقت الذي سطع فيه نجم الأغنية الاستهلاكية، وباتت المنتج المتاح للجماهير العربية التي عملت الأنظمة الحاكمة على إلهائهم بالترفيه.
الأغاني الفلسطينية.. رسائل مشفّرة
مثّلت الأغنية الفلسطينية إحدى أغنى التجارب التي وثّقت علاقة الفن بالمقاومة، وكانت سجلًّا خالدًا وحافلًا بكل معاني النضال والصبر والكرامة ورفض الضيم والاحتلال وميثولوجياته منذ عقود، بحيث يمكنك أن تروي تاريخ فلسطين بمجموعة من الأغنيات الشعبية، التي تحولت عباراتها إلى جزء من القضية تتناقل عبر الأجيال، وتخبر عن دور نساء فلسطين وذكائهن في مقاومة الاحتلال.
بدت كلمات بعض الأغاني الشعبية والثورية طلاسم للمستمع العادي، لكن هذا هو مراد مَن يغنيها، إخفاء معاني الكلمات ليصعب على “الخواجات” فهمها، فهي أسلوب غنائي من قوالب الغناء التراثي الفلسطيني، نسجته أشواق النساء الفلسطينيات، وتحمل في مضمونه معاني مختلفة من الحزن والشوق والحب.
عندما عمد الانتداب البريطاني إلى قطع كل أساليب التواصل بين الثوار والقرى ومحيطها، ابتكرت النساء طريقة لإيصال الأخبار إلى الأسرى بقرب أجل تحريرهم، ويسمّى “مولالاة”، ويكون بقلب أحرف الجملة أو قلب الحرف الأخير من كل كلمة وإضافة حرف اللام في نهايتها، لتعسير فهمها على غير أصحاب الأرض.
في هذا النوع من الغناء البطيء المحكوم بإيقاع معيّن، كانت الفلسطينيات يتغنين بالحبيب والشوق إليه دون الإفصاح عن ذلك صراحة، يغنين الكلمات في جلساتهن أو أثناء العمل أو في الأعراس على مهل، بلا آلات موسيقية مرافقة أو تصفيق أو زغاريد، وحده الصوت النسائي ينساب رويدًا رويدًا ليخلق الأغنية مكتملة كأنها مناجاة، ولعل هذا سرّ تسمية هذا اللون الغنائي “ترويدة”.
وظهرت الترويدة الفلسطينية مطلع الثورة الفلسطينية الكبرى التي انطلقت عام 1936، كانت النساء عندما يمرّ شاب من الثوار يبدأن بالغناء بتلك الطريقة المشفّرة لإعطائه الأخبار وإيصال الرسائل، وهي رسائل تتضمن أسرار الحب والشوق وأسرار الحرب للمقاومين، ورسائل أخرى تحذيرية للأسرى في المعتقلات من هجوم محتمل على السجون.
كان هذا يحدث دون أن تفقد الترويدة جمالها، فتحفظ مضمون الرسالة وتُبقي على إيقاع الكلام، ومن أشهر هذه التراويد “شمالي” و”يا طالعين الجبل”، إن كانت الأولى عن الحب، فالثانية عن الثورة والمقاومة، وتخبر النسوة من خلالها الأسرى بأن “الغزال”، ويقصدن الفدائيين، آتٍ في الليل لتحريرهم، وأن إشارة بدء العملية هي رؤية النار موقدة حتى يفهمها الأسرى.
وبشكل مماثل، طوّع الفلسطينيون كلمات بعض الأغنيات بحيث تحمل الخطاب الثوري، مثلًا أغنية “ظريف الطول” التي جسّدت أكثر القصص الشعبية شهرة في فلسطين، وظهرت أواخر الثلاثينيات، وقيلت في مدح جمال الشاب وقوامه الممشوق، وتغنّى بها الناس في الأعراس، لكنها تحولت لأغنية تحكي قصة المقاومة والقضية والتراث.
ويُقال إن ظريف الطول ذهب ليشتري من ماله الخاص سلاحًا يدافع به عن القرية ضد العصابات اليهودية، وقاتلهم بشراسة، وقتل أكثر من 20 شخصًا لكنه لم يظهر بعد المعركة، ومع تعدد الروايات يتفق الجميع على أنها حكاية شعبية تحولت إلى أغنية تراثية حاضرة في جميع المناسبات، وصار لها عدة نسخ على الوزن الشعري نفسه تحمل معاني مختلفة.
وأصبح ظريف الطول رمزًا للبطل الفلسطيني الثائر المقاوم، وكل يد قابضة على السلاح وسبّابتها على الزناد، ولتكون أغنية “ظريف الطول” هي قصة الشاب القوي الطموح البطل الذي دافع عن أراضي الـ 48، وساهم في الدفاع عن فلسطين في نكسة 1967، وهي قصة كل فلسطيني أصيل يحب وطنه ويدافع عنه.
هذه التراويد كنز تراثي فلسطيني، و”الولالاة” من جواهره النادرة، وندرتها بسبب صعوبة حفظها، لكنها نجت من النكبة والنكسة وكل ألوان الاحتلال الإسرائيلي، الذي فرض حصارًا ثقافيًّا على فلسطين وحرص على إسكات أصوات الشعراء الشعبيين، وبعد انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة وحتى الآن يتحدثها الكثير من أهالي المخيمات بطلاقة، حتى لا يفهم كلامهم الغريب عنهم، ويخبر أجهزة الأمن بتحركات المقاومة.
وصل تأثير بعض الأغاني إلى العالمية لما كان لها من قوة كبيرة وقدرة على توحيد الهدف لدى الجماهير، ففي غزة، ومع تصاعد وتيرة العدوان الإسرائيلي، أصبحت الأغنية السويدية التي أشعلت قلوب الناس “تحيا فلسطين” أيقونة لكل المطالبين بالحرية، بعد أن صدحت بها حناجر المحتجّين في العواصم الأوروبية لتأييد حق الفلسطينيين للحصول على حياة طبيعية آمنة على أراضيهم، التي ينتظرون الموت المحقق عليها في كل لحظة.
في عام 1978، وفي أوضاع أشبه بالحالية، قدمت فرقة “الكوفية” التي أسّسها الشاعر الفلسطيني ابن مدينة الناصرة الذي هاجر إلى السويد عقب نكسة عام 1967، جورج توتاري، الأغنية المعروفة بالسويدية باسم “Leve Palestina” لأول مرة في حفل غنائي في العاصمة السويدية ستوكهولم، وتمكن من أداء أغنيته الأيقونية عام 1988 في حفل بالقدس، بالتزامن مع انتفاضة الحجارة الشهيرة.
وفي كل مرحلة تحقق فيها الأغنية، التي تروي قصة كفاح الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، انتشارًا، كانت تواجه اتهامات بـ”معاداة السامية” بسبب عبارات تتضمّنها مثل عبارة “تسقط الصهيونية”، وفي عام 2019 أشعلت الأغنية جدلًا سياسيًّا في السويد عندما غنّاها متظاهرون من شباب الحزب الاشتراكي السويدي في يوم العمال العالمي، وعقد البرلمان على إثرها جلسة لمناقشة مضمون الأغنية والتأكد من عدم تطرف الحزب وشبابه.
رغم أداء عديد الفرق الأجنبية والعربية للأغنية، فإنها ظلت تُردد بصوت المغنية الرئيسية لفرقة “الكوفية”، وهي السويدية كارينا أولسون، التي كانت تعمل مديرة لإحدى الجامعات في السويد، واشتهرت بهذه الكوفية الفلسطينية ذات الرمزية المدافعة عن الحق الفلسطيني، ليصدح معها الشارع العالمي: “فلسطين كانت جنة تملأ العالم بزيت الزيتون ونبتة الليمون والسلام”.
وبسبب تأثير الموسيقى والأغاني العابر للحدود، دعا الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو فنّاني العالم لإقامة حفل موسيقي في بلاده دعمًا للشعب الفلسطيني في غزة، خاصة بعد أن نجحت ما يشبّهها البعض بـ”لغة الحرب الناعمة” في نقل أحداث القضية وأدق تفاصيلها، محاولةً تذكيرنا بما مضى، وإخبارنا أن النساء حارسات الوطن بأصواتهن جيلًا بعد جيل.