سجّل عام 2023 أكثر من 11 ألف حالة اعتقال نفّذتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة عام 1948، بقيَ منهم أكثر من 8 آلاف و800 رجل وامرأة وطفل ومرضى وجرحى معتقلين في السجون الإسرائيلية حتى مطلع عام 2024.
أما قطاع غزة فقد اُستبعد من معادلات الاعتقال بعد عام 2005، لانسحاب الاحتلال منه بفعل ضربات المقاومة وتحرير القطاع بالكامل، وذلك حتى عام 2023، تحديدًا خلال العدوان الإسرائيلي على القطاع، الذي حمل معه عودة الاعتقالات بأرقام لم تستطع الجهات الحقوقية ومؤسسات الأَسرى أن ترصدها بسبب تكتُّم الاحتلال عليها، لكنها رصدت وحشية وتنكيلًا وصلا حدّ إعدام عدد من الأسرى بشكل ميداني من قطاع غزة، في معسكر “سديه تيمان” في النقب المحتل.
تشكّل قضية الأسرى في سجون الاحتلال أحد أهم الثوابت الأساسية التي سعت حركات المقاومة الفلسطينية للعمل عليها، لما تشكّله من سلب لحقّ الحرية من جهة، ولما يواجهه الأسير الفلسطيني من حملات تنكيل واعتداء وقتل، أسفرت عن استشهاد 7 أسرى فلسطينيين منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وبذلك يحتجز الاحتلال 18 جثمانًا من شهداء الحركة، أقدمهم الأسير أنيس دولة منذ عام 1980.
ووسط ما تعايشه الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال، وجدت فصائل المقاومة الفلسطينية نفسها أمام خيارات شحيحة لتحريرهم، انحسرت في مبدأ خطف وأسر الإسرائيليين ودفع الاحتلال إلى عقد صفقات تبادل، ونشطت هذه الصفقات بشكل كبير على أيدي فصائل منظمة التحرير الفلسطينية قبل توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، واعتراف المنظمة بـ”دولة إسرائيل”، وترحيلها التفاوض على قضايا العودة والقدس والأسرى إلى مفاوضات “الحل النهائي” التي توقفت دون أن ترى النور.
الجبهة الشعبية: “تمّ خطف الطائرة”
نفذت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أحد فصائل منظمة التحرير، سلسلة عمليات وطنية، أبرزها اختطاف الطائرات الإسرائيلية في ستينيات القرن الماضي، أسفر بعضها عن صفقات تبادل بين الاحتلال والمنظمة، وأُفرج خلالها عن عدد من الأسرى الفلسطينيين.
في يوليو/ تموز 1968، اختطف مقاتلان من الجبهة الشعبية، هما يوسف الرضيع وليلى خالد، طائرة تابعة لشركة “العال” الإسرائيلية التي كانت متوجّهة من روما إلى تل أبيب المحتلة، وأرغماها على النزول في الجزائر وبداخلها أكثر من 100 راكب، ونجحت الجبهة في التفاوض مع الاحتلال لإطلاق سراح 37 أسيرًا فلسطينيًّا من ذوي الأحكام العالية.
عادت ليلى خالد مرة أخرى، نهاية عام 1969، لتختطف مع مجموعة من المقاومين طائرة إسرائيلية أخرى، وحطّت بها في بريطانيا، لكن العملية لم تنجح فقُتل المقاوم باتريك أورغويلو واُعتقلت ليلى خالد، لكن سرعان ما اختطفت مجموعة أخرى من التنظيم نفسه طائرة بريطانية، وجرى إطلاق سراح ليلى خالد.
عقب هذه الحادثة بـ 10 أعوام تقريبًا، جرت عملية تبادل “النورس” بين الاحتلال ومنظمة التحرير الفلسطينية، أطلقت بموجبها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة الجندي الإسرائيلي أبراهام عمرام، الذي أسرته في 5 أبريل/ نيسان 1978 خلال عملية الليطاني، وأفرجت “إسرائيل” في المقابل عن 76 أسيرًا فلسطينيًّا من ضمنهم 12 فتاة.
في 20 مايو/ أيار 1985، جرت عملية تبادل بين الاحتلال والجبهة الشعبية – القيادة العامة سُمّيت “عملية الجليل”، أطلق الاحتلال بموجبها 1155 أسيرًا كانوا محتجزين في سجونها، وفي مقابل ذلك جرى إطلاق سراح ثلاثة من جنود الاحتلال، هم يوسف غروف ونسيم سالم وهيزي شاي، الذين أسرتهم المقاومة خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وكان من بين أبرز الأسرى الذين أُطلق سراحهم في هذه العملية الشيخ أحمد ياسين، الذي سيتولى تأسيس حركة المقاومة الإسلامية “حماس” في غزة عام 1989.
عملية “عنتيبي”: جرح نتنياهو الذي عاد في الطوفان
في 27 يونيو/ حزيران 1976، اختطف فلسطينيان من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وصديقان لهما من جنسية ألمانية، طائرة فرنسية من طراز إيرباص A300 أقلعت من مطار بن غوريون في تل أبيب باتجاه باريس، وعند هبوطها في أثينا وعلى متنها 248 مسافرًا بينهم 103 إسرائيليين وطاقم مكوّن من 12 شخصًا اختطفتها المجموعة وانطلقت بها نحو مطار عنتيبي في أوغندا.
بعد تنفيذ العملية، أوهم الاحتلال الرأي العام أنه يتفاوض مع المختطفين وأنه على وشك الاستجابة لمطالبهم، المتمثلة في إطلاق 53 معتقلًا داخل السجون الإسرائيلية وفي 4 دول أخرى، لكن يوم 4 يوليو/ تموز 1976 انقلب الوضع رأسًا على عقب، حيث انطلقت قوات كوماندوز إسرائيلية على متن 3 طائرات، واحدة نقلت الكوماندوز، والثانية خُصّصت للأسرى، والثالثة لتأمين الاتصالات عبر الأقمار الصناعية.
وعندما بدأت الاشتباكات، انتهت العملية بمقتل المختطفين و3 أسرى إلى جانب جنود أوغنديين، والضابط يوناتان شقيق رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، ويوناتان هو قائد وحدة “سييرت ميتكال”، وهي نخبة رئاسة الأركان الإسرائيلية، والذي ستعود كتائب الشهيد عز الدين القسام عام 2024 لتذكّر الداخل الإسرائيلي فيه.
في 5 يناير/ كانون الثاني 2024، بثت كتائب القسام رسالة لعائلات الجنود الأسرى لديها قالت فيها: “نتنياهو لا يهتم بموت كل الجنود الأسرى.. لا تثقوا به.. لأن أخاه يوناتان قُتل أثناء عملية تحرير أسرى، ويقول لكم بشكل واضح ذوقوا ما ذقت بموت أخي”.
فتح قبل أوسلو ليست كما بعدها
قبل أن توقّع منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية أوسلو عام 1993، وتعود فتح على هيئة السلطة الفلسطينية عام 1994 بموجب الاتفاق، كان للحركة تاريخ من عمليات أسر جنود الاحتلال والدخول في صفقات تبادل أفضت عن نيل عدد من الأسرى الفلسطينيين حريتهم.
ففي أواخر عام 1969، أسر مقاتلون من حركة فتح الجندي الإسرائيلي شيموئيل روزلفاستر، في عملية كانت سابقة في نوعها بتاريخ الحركة، وهو ما مكّنها من التفاوض مع الاحتلال لإطلاق الأسير محمود بكر حجازي، الذي كان قد أُسر عام 1965 وحُكم عليه بالإعدام.
وفي شباط/ فبراير 1980، أطلقت حكومة الاحتلال الإسرائيلي الأسيرَين القياديَّين مهدي بسيسو “أبو علي” ووليام نصار، في مقابل إطلاق أشهر جاسوسة موساد عربية هي أمينة داود المفتي، التي كانت محتجزة لدى حركة التحرير الوطني الفلسطيني “فتح”، وقد تمّت عملية التبادل في قبرص بإشراف اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
والعملية الأكبر كانت في نوفمبر/ تشرين الثاني 1983، عندما أطلق بموجبها الاحتلال جميع معتقلي معتقل أنصار في الجنوب اللبناني، وعددهم 4 آلاف و700 فلسطيني ولبناني، بالإضافة إلى نحو 100 أسير من السجون الإسرائيلية، في مقابل إطلاق 6 جنود إسرائيليين من قوات “الناحال” الخاصة، الذين أسرتهم حركة فتح في منطقة بحمدون في لبنان عام 1982.
إضافة إلى ذلك، سلّمت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، عام 1991، جثة الجندي الدرزي سمير أسعد من بيت جن التي كانت تحتجزها منذ عام 1983، وذلك مقابل سماح الاحتلال بعودة أحد مبعدي الجبهة، وهو النقابي علي عبد الله أبو هلال من أبو ديس الذي أبعده الاحتلال الإسرائيلي خارج فلسطين.
كما سلّم “حزب الله” اللبناني رفات 3 جنود إسرائيليين والأسير إلحنان نتنباوم، بينما أفرج الإسرائيليون عن 400 أسير فلسطيني و23 لبنانيًّا و5 سوريين و3 مغاربة و3 سودانيين وليبي واحد والمواطن الألماني ستيفان مارك المتهم بعلاقته بـ”حزب الله”، كما أعادت تل أبيب جثث 59 لبنانيًّا عام 2004.
حماس من سنوات الانطلاقة الأولى إلى الطوفان
بعد أقل من عامَين على انطلاقتها، خططت حماس لإنشاء خلية جديدة عُرفت باسم “الخلية 101″ بقيادة محمد الشراتحة، وبدأت الخلية نشاطها بالهجوم على إسرائيلي يريد أن يحفر بئرًا في حي الشيخ رضوان في قطاع غزة، كما هاجمت مستوطِنة بالقطاع بإطلاق النار عليها، وكانت العمليتان الأخريان أهم عمليتَين في الفترة الأولى من انتفاضة الحجارة، حيث خُطف الجندي آفي سسبورتس في أبريل/ نيسان 1989 وتم قتله ودفنه، والجندي إيلان سعدون في مايو/ أيار من العام نفسه وتم قتله ودفنه.
وفي عام 1992 أسرت حماس الرقيب أول نسيم توليدانو، وطالبت بإطلاق الشيخ أحمد ياسين مقابل إطلاق سراح توليدانو، وعندما رفض الإسرائيليون إطلاقه قامت حماس بقتله، وقد تلا ذلك حملة اعتقالات إسرائيلية شملت 1300 من أعضاء حماس وأنصارها، وتم إبعاد 415 شخصًا معظمهم من حماس إلى جنوب لبنان في ما يُعرف بـ”إبعاد مرج الزهور”.
في الأشهر الأخيرة من عمر الانتفاضة الأولى عام 1993، احتجزت حماس حافلة إسرائيلية في القدس تقلّ 40 راكبًا، وطالبت مقابل ذلك بالإفراج عن الشيخ أحمد ياسين وعن 50 من كتائب القسام و50 آخرين من الفصائل الفلسطينية الأخرى (فتح والجهاد والشعبية والديمقراطية والقيادة العامة)، وعن عبد الكريم عبيد من “حزب الله”.
بعد اتفاقية أوسلو وقدوم السلطة الفلسطينية عام 1994، أعلنت حماس أسر الجندي نحشون فاكسمان، وطالبت بالإفراج عن مئات المعتقلين على رأسهم الشيخ أحمد ياسين، حينها ضغط الاحتلال الإسرائيلي على السلطة الفلسطينية التي قامت بدورها بحملة اعتقالات واسعة شملت أكثر من 400 من كوادر حماس.
نجحت فصائل المقاومة الفلسطينية في تنفيذ 25 صفقة تبادل أسرى مع قوات الاحتلال، بعد أن رأت المقاومة في عملية أسر الجنود الطريقة الأنجع لتحرير الأسرى من سجون الاحتلال
وأدت تحقيقات السلطة الفلسطينية إلى الوصول لطرف الخيط الذي قاد القوات الإسرائيلية لمعرفة مكان احتجاز فاكسمان، حيث اقتحمت المكان ما أدّى إلى مقتل الجندي وقائد الوحدة المقتحمة وجرح 12 جنديًّا إسرائيليًّا واستشهاد ثلاثة من عناصر القسام واعتقال رابع، تبعها بعامَين قتل خلية صوريف القسامية في مدينة الخليل الجندي شارون أدري وأخفت جثته.
هدأت المحاولات قليلًا مع اغتيال الاحتلال الإسرائيلي لعدد من قادة حماس السياسيين والعسكريين، منهم يحيى عياش وعماد عقل والشيخ المؤسس أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي، وقد تركّز جهد الحركة وجناحها العسكري في تلك الفترة على عمليات الثأر المقدس من اغتيال قادتها.
كما ترافق معها إعلان الاحتلال تدريب تسعة من كتائبه تضمّ 1800 جندي على مواجهة السيناريوهات المحتملة لقيام حماس بعمليات اختطاف لجنوده، إثر تصريحات الشيخ أحمد ياسين قبل شهر من اغتياله، بأن حماس ستقوم باختطاف جنود إسرائيليين لإجبار الاحتلال على إطلاق سراح الأسرى.
منذ ستينيات القرن الماضي وحتى عام 2024، نجحت فصائل المقاومة الفلسطينية في تنفيذ 25 صفقة تبادل أسرى مع قوات الاحتلال، والوهم الذي صنعه الاحتلال باغتيال القادة تبدد في يونيو/ حزيران 2006، حيث نفّذت حماس على حدود قطاع غزة عملية “الوهم المتبدد” الذي أسرت فيه الجندي جلعاد شاليط من قلب دبابته، واستمرت في أسره حتى عام 2011 مع تنفيذها صفقة “وفاء الأحرار”، وأطلق الاحتلال بموجبها عن 1027 أسيرًا فلسطينيًّا مقابل الإفراج عن شاليط.
أما عام 2014، وجّهت كتائب القسام ضربة كبيرة للاحتلال، بعد أن خطفت خليةٌ تابعة لها 3 مستوطنين قرب الخليل قبل أن يُقتلوا، حينها أعلن الشيخ صالح العاروري في أحد المؤتمرات في تركيا المسؤولية عن العملية، وكانت هي العملية الأولى من نوعها بعد فترة طويلة من محاولات تحييد الاحتلال الإسرائيلي عبر التنسيق الأمني لجبهة الضفة الغربية، وكانت من إحدى مسبّبات انطلاقة عدوان 2014 على قطاع غزة.
بعد 9 سنوات على “العصف المأكول”، وفي مرحلة كادت أن تصل فيه القضية الفلسطينية إلى مراحل أفقها المسدود وتسويتها، وبدء تنفيذ صفقة القرن بتهجير الفلسطينيين من الضفة إلى الأردن ومن قطاع غزة إلى سيناء، جاءت “ضربة القرن” كما وصفها أبو عبيدة، ونفذت كتائب القسام “طوفان الأقصى” وأسرت خلالها نحو 250 أسيرًا من مستوطنات غلاف غزة، منهم جنود وضباط رفيعو المستوى، فضلًا عن عدد من الأسرى لدى فصائل المقاومة الأخرى.
وخلال معركة “طوفان الأقصى” المندلعة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، جرت صفقة تبادل محدودة خلال هدنة لمدة 7 أيام، أطلقت المقاومة فيها عن 80 أسيرًا إسرائيليًّا لديها مقابل 240 أسيرًا فلسطينيًّا، كذلك أُطلق سراح أجانب معظمهم تايلانديين يعملون في الأراضي المحتلة.
منذ ستينيات القرن الماضي وحتى عام 2024، نجحت فصائل المقاومة الفلسطينية في تنفيذ 25 صفقة تبادل أسرى مع قوات الاحتلال، وقد رأت المقاومة في عملية أسر الجنود الطريقة الأنجع لتحرير الأسرى من سجون الاحتلال من جهة، وخلق توترات في الجبهة الداخلية للاحتلال من جهة أخرى.