نمت الحركة الإسلامية خلال خمسينيات القرن الماضي في عدد من أقطار العالم العربي، وباتت تشكّل تيارًا فكريًّا وسياسيًّا واضحًا على الساحة العربية، وساعد على بلورة هذا التيار في لبنان لجوء الدكتور مصطفى السباعي (المراقب العام للإخوان المسلمين في سوريا) إلى لبنان عام 1952، خلال فترة حكم العقيد أديب الشيشكلي في سوريا، إذ استطاع تأصيل الفكر الإسلامي الملتزم في الأوساط المسلمة السنّية في كل من بيروت وطرابلس.
على الساحة السياسية وخلال العقد الأخير، كان تيار المستقبل التيار السياسي الذي يستحوذ على الشارع السنّي في لبنان، وتعتبَر شعبيته الأولى بين المسلمين السنّة، ويظهر ذلك من خلال الأصوات التي يحصل عليها نوابه في البرلمان النيابي منذ عهد رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري.
اليوم يختلف المشهد السياسي في لبنان، خاصة مع انسحاب المستقبل من الترشح في الانتخابات النيابية بعد ثورة تشرين 2019، ما أتاح الفرصة أمام حزب الجماعة الإسلامية للنهوض في تلك المجتمعات.
يكثر نشاط الجماعة اليوم مع اشتداد الحرب على غزة، حيث نظمت عدة مظاهرات وتجمعات داعمة للقضية الفلسطينية ولحركة حماس، كونها تتلاقى معها في الفكر السياسي الإسلامي، كما تبنّت إطلاق صواريخ من الجنوب باتجاه الشمال الإسرائيلي، وقدمت شهداء آخرهم سقط في عملية اغتيال القيادي في حماس، صلاح العاروري، في بيروت.. فمن هي الجماعة الإسلامية وكيف تنشط؟
نشاطها السياسي
الجماعة الإسلامية واحدة من القوى السياسية الرئيسية في لبنان، تتمتّع بحضور شعبي وجماهيري في معظم المناطق اللبنانية، وتنتمي إلى مدرسة الإخوان المسلمين الفكرية.
في عام 1964 برزت الجماعة الإسلامية بشكل رسمي وافتتحت مركزها في بيروت، كان أول أمين عام للجماعة حينها الأستاذ فتحي يكن.
ويكن، هو سياسي وداعية إسلامي، وُلد عام 1933 في طرابلس بلبنان لعائلة من أصول تركية، وهو من مؤسّسي الحركة الإسلامية في لبنان، اُنتخب كعضو بالبرلمان اللبناني عام 1992، ويتفرغ للعمل البرلماني حتى عام 1996.
انشق عن الجماعة الإسلامية بسبب خلافات داخلها دفعته إلى الامتناع عن الترشح للانتخابات مرة أخرى، وأسّس في المقابل جبهة العمل الإسلامي، له مؤلفات كثيرة ويوصَف فكره بالمعتدل، استطاع مع زوجته تأسيس جامعة الجنان، والتي تمتلك اليوم عدة أفرع في محافظات لبنان.
وبالعودة إلى تأسيس الجماعة في الستينيات من القرن الماضي، فقد اعتبرت من مبررات قيامها جهل المسلمين بالإسلام بحسب نشراتهم الإعلامية، وبُعدهم عنه وتخليهم عن قيادته.
في ذلك الوقت كانت الجماعة تتابع القضايا السياسية اللبنانية والعالمية، لكنها كانت تكتفي بالموقف السياسي دون الدخول في الممارسة اليومية أو المشاركة في الانتخابات، وفي عام 1972 باشرت الجماعة أول تجربة انتخابية نيابية، من خلال ترشيح المحامي محمد علي ضناوي في مدينة طرابلس.
اليوم لا بدَّ من الاعتراف أن الجماعة منتشرة في كل المناطق اللبنانية السنّية، ولديها كتلة انتخابية ثابتة، لكنها عاجزة عن تأمين حاصل انتخابي وحدها في أي دائرة.
الجماعة مدعومة بوسائل إعلام، مثل إذاعة “الفجر” في بيروت وجريدة “الأمان”، تحاول استمالة الشارع المسلم قدر المستطاع عبر جولات متعددة ومحاضرات رغم إمكاناتها المحدودة.
في عام 1992 كان للجماعة الإسلامية كتلة نيابية من 3 نواب، فتحي يكن في طرابلس، وزهير العبيدي في بيروت، وأسعد هرموش في الضنية، كان هذا انتشارًا كبيرًا بين مناطق سنّية أساسية، بيروت وطرابلس والضنية، وكان هذا بعد انتهاء الحرب الأهلية وقبل بزوغ “عاصفة” الرئيس رفيق الحريري (تيار المستقبل) على الساحة السنّية، من الشمال إلى الجنوب والبقاع مرورًا ببيروت.
تراجعت الجماعة حتى خسرت آخر نوابها في انتخابات 2018 في بيروت، تزامنًا مع تقهقر أسهم الإخوان المسلمين في المنطقة، وقد ينعكس فشل أو تراجُع الحركات الإسلامية في عدد من الدول العربية، سلبًا على موقع ودور الجماعة في لبنان.
اليوم مع الحرب القائمة على التيارات الإسلامية في الدول العربية المجاورة، استطاعت الجماعة في انتخابات 2022 النيابية من انتزاع كرسي في البرلمان عن محافظة بيروت بعد فوز النائب عماد الحوت، وعلى الأرض للجماعة تنسيق وحوار مع أغلب الأحزاب اللبنانية بمختلف طوائفها، لكن صداها السياسي وتأثيرها يوصف حتى الآن بالمتواضع.
قوات الفجر.. الجناح العسكري
شهدت الثمانينيات نهضة في العمل المقاوم بين التيارات الإسلامية في المنطقة، ما شجّع على تشكيل قوات الفجر أيضًا في لبنان، ففي فلسطين تحوّلت الحركة الإسلامية من العمل الدعوي إلى تشكيل حركة المقاومة الإسلامية “حماس” وحركة الجهاد الإسلامي، بعد الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين في تبادل الأسرى عام 1985، ما مهّد لتفجير الانتفاضة الأولى أواخر عام 1987، وهذا ما جعل الحركة الإسلامية على مستوى عالمي.
أما في لبنان بعد الاجتياح الإسرائيلي له في يونيو/ حزيران 1982، واحتلال المناطق اللبنانية انطلاقًا من الجنوب وصولًا إلى بيروت، تشكّلت قوات الفجر، وكانت في البداية عبارة عن فرقة من الشباب المنتمين إلى الجماعة الإسلامية في مدينة صيدا الجنوبية، ثم انتقلت بعدها إلى بيروت وطرابلس.
قاد قوات الفجر في لبنان بعد تأسيسها المسؤول العسكري للجماعة الإسلامية جمال حبال، والذي قُتل خلال الحرب عام 1983، وقد أمنت جماعة الإخوان المسلمين لقوات الفجر المال والسلاح فور تأسيسها.
نفّذت قوات الفجر العديد من العمليات العسكرية، تحديدًا في مدينة صيدا ومنطقتها، أدّت إلى سقوط أعداد من ضباط الاحتلال وجنوده، ولعلّ أبرز العمليات التي قامت بها تلك التي قُتل فيها القائد جمال الحبال مع مجموعة من جنوده، في مواجهة لواء غولاني.
اعترف العدو حينها بمقتل قائد اللواء والعديد من الجنود، وعُرفت تلك المعركة بمعركة “القياعة”، وهي على اسم المنطقة المحاذية لمدينة صيدا، حيث لاحقت الطائرات الإسرائيلية مكان القائد جمال حبال ثم قصفته، وقُتل في تلك المعركة بحسب ما روى سكان مدينة صيدا.
لم تتوقف العمليات هنا، في تلك الفترة قامت قوات الفجر بتنفيذ عمليات جهادية ضد القوات الإسرائيلية وعملائها، وشهدت صيدا المدينة السنّية الأكبر في الجنوب ملاحم ومواجهات في عدة مناطق، استشهد إثرها العديد من الشبان، والبعض منهم كان يتحرك لشنّ هجمات على طريق صيدا-بيروت، وكان هناك تنسيق مع “حزب الله” الذي كان في بداياته البسيطة.
985 يومًا قضاها الاحتلال الإسرائيلي في مدينة صيدا، قبل أن ينسحب نتيجة العمل الجهادي والمقاومة التي صمدت طويلًا، وبعد تحرير صيدا في 16 فبراير/ شباط 1985 حافظت الجماعة الإسلامية على قوة رمزية لها في عداد المقاومة في الجنوب، تعمل وفق قرار قيادتها.
قوات الفجر وعد الاجتياح الإسرائيلي في الثمانينات انقسمت وانشقت عن الجماعة، وراح فصيل منها أصبح تابعًا لـ”حزب الله” يتم دعمه ماديًّا من قبله، لكنه بقيَ تحت مسمّى قوات الفجر ومن الطائفة السنّية، واليوم هناك قوات الفجر التابعة للجماعة وفصيل من قوات الفجر يتم دعمه من الحزب.
بعد انسحاب “إسرائيل” من منطقة صيدا، وإنشاء ما سُمّي حينها بالحزام الأمني في جنوب لبنان، نفّذت قوات الفجر العديد من العمليات ضد مواقع إسرائيلية، فضلًا عن العملية البحرية في منطقة الناقورة على الحدود بين لبنان و”إسرائيل”، وعملية أخرى تسلّل خلالها مجاهدو قوات الفجر إلى داخل الأراضي الفلسطينية، واشتبكوا مع جيش الاحتلال، وحقّقوا إصابات كثيرة قبل أن يستشهد ثلاثة من قوات الفجر.
لكن ما لبث أن غاب اسم هذه القوات عمليًّا عن الساحة اللبنانية، خاصة بعد تحرير الجنوب اللبناني عام 2000، إلا ما كان لها من نشاط خجول خلال حرب يوليو/ تموز 2006.
وفي الفترة ما بعد الثمانينيات، وبعد الاجتياح الإسرائيلي، يذكر أهل مدينة صيدا أن قوات الفجر انقسمت وانشقت عن الجماعة الإسلامية، وراح فصيل منها أصبح تابعًا لـ”حزب الله” يتم دعمه ماديًّا من قبله، لكنه بقيَ تحت مسمّى قوات الفجر ومن الطائفة السنّية، واليوم هناك قوات الفجر التابعة للجماعة وفصيل من قوات الفجر يتم دعمه من الحزب.
مشاركتها في حرب غزة وعلاقتها بـ”حزب الله”
عاد اسم قوات الفجر، الجناح المسلح للجماعة الإسلامية، ليبرز من خلال عمليات استهدفت مواقع جيش الاحتلال الإسرائيلي على طول الحدود اللبنانية، فمنذ بدء عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، شهد جنوب لبنان استهدافات يومية للمواقع والمستوطنات الإسرائيلية المحاذية للحدود اللبنانية، وتبنّت قوات الفجر بعض هذه العمليات، وأعلنت القوات توجيه ضربة صاروخية استهدفت مواقع في الأراضي المحتلة، وتحقيقها إصابات مباشرة.
يشير نشاط قوات الفجر مؤخرًا إلى التنسيق الميداني بينها وبين “حزب الله“، وهذا ما صرّح به رئيس المكتب السياسي للجماعة الإسلامية في لبنان علي أبو ياسين، ما يعني أن الحزب سمح وسهّل لقوات الفجر العمل الميداني في الجنوب اللبناني، حيث يسيطر فعليًّا على خطوط التماسّ مع جيش الاحتلال.
ورغم عدم وجود غرفة عمليات مشتركة بين الحزب وقوات الفجر، فضلًا عن الخلافات السياسية التي تفاقمت وصلت حد المقاطعة بين الحزب والجماعة الإسلامية، نتيجة دخول “حزب الله” سوريا والمشاركة العسكرية هناك، إلا أن ما يقوم به “حزب الله” اليوم يشير إلى تبدل سياسته تجاه المكونات الإسلامية السنّية في لبنان، بعد أكثر من 10 سنوات من الانفصال إبّان الثورة السورية.
يفهم الحزب جيدًا حساسية موقفه الداخلي، إذ إن الساحة اللبنانية مهيَّأة للانفجار في أي لحظة تحت عناوين طائفية متعددة، لذا يسعى “حزب الله” إلى إشراك أطراف لبنانية متعددة -خاصة السنّية منها- في العمل المقاوم، ليقطع الطريق على ما يمكن تصويره بأنه حرب على الحزب وحده في أي حرب محتملة، وأنه الوحيد الذي يملك في يده قرار الحرب والسلم في لبنان.
حاليًّا، الأمين العام للجماعة الإسلامية هو الشيخ محمد طقوش الذي تمّ انتخابه عام 2022، تعتبر الصحافة اللبنانية ومصادر مطّلعة أن الأمين العام الحالي تميل دفته نحو إيران وعلى علاقة جيدة جدًّا مع “حزب الله”، على عكس الأمين العام السابق عزام الأيوبي، الذي كان يميل باتجاه تركيا التي يعتبرها البعض الداعم الأساسي للجماعة، حتى أن بعض الأعضاء يحملون الجنسية التركية.
ويشير مصدر مقرّب من الجماعة الإسلامية أن محمد طقوش يعمل موظفًا متفرغًا في أحد أجهزة حركة حماس، وجرى طرحه بمشاورات مشتركة بين “حزب الله” وحركة حماس، أي أن حماس سهّلت للحزب الدخول في صميم تنظيم الجماعة، وهذا ما حصل في الانتخابات، ما يراه البعض خرقًا للحزب داخل الجماعة عن طريق حركة حماس.
وتولى طقوش في المرحلة التنظيمية (2012-2015) مسؤولية رئاسة مكتب بيروت في الجماعة، وشهد عهده استقالات جماعية لمجموعة شبابية، على خلفية عدم اندفاعه للعمل لصالح الثورة السورية لكونه مقرّبًا من خط “حزب الله”، إذ أتى اختيار الأمين العام الفائز بتنسيق كامل بين أجهزة أمن حماس و”حزب الله”.
اليوم عند الجبهة الجنوبية، فتح “حزب الله” الأبواب أمام جميع الفصائل السنّية اللبنانية للقتال، أو حتى الفلسطينية كحماس والجهاد الإسلامي، لكن كله يتم تحت عبائته والتنسيق معه، فهو يسعى إلى استمالة مجموعات قتالية سنّية للتخفيف من حدة النقد وهجوم المعارضة اللبنانية عليه، ويضمن في الوقت ذاته عدم تفوق قوات سنّية على الحزب، فتبقى كل الفرق القتالية تحت قيادته، كما فعل مع أحد فصائل قوات الفجر المنفصل عن الجماعة الإسلامية اليوم.
وانكشف أيضًا التعاون والتنسيق بين حماس والجماعة مع استشهاد محمد بشاشة، أحد كوادر الجماعة، خلال اجتماعه مع القيادي في حماس الشيخ صالح العاروري، والذي اغتالته “إسرائيل” في بيروت.
ونعت الجماعة محمد بشاشة وتم دفنه في مدينة صيدا، وما لبثت أن ردّت على اغتياله بإطلاق صواريخ من الجنوب في 6 يناير/ كانون الثاني 2024 باتجاه مستعمرة كرياتشمونة، بحسب ما أعلنت الجماعة الإسلامية.