يبدو أن صندوق تسريبات السفير الإماراتي في واشنطن، يوسف العتيبة، لم يكتب له أن يغلق بعد، فمنذ العينة الأولى التي نشرتها صحيفة “ذي إنترسبت” الأمريكية في الثالث من يونيو الماضي عقب تعرض البريد الإلكتروني للسفير الإماراتي للقرصنة، والتسريبات تتوالى يومًا تلو الآخر.
الوثائق التي تم الإفصاح عنها كعينة أولية للرسائل المستولى عليها، أشارت إلى كيفية توظيف أبو ظبي للمال والثروة والنفوذ من أجل إعادة رسم خارطة المنطقة بما يتماشى مع أطماعها في الزعامة والريادة، حتى ولو كان ذلك عبر الإطاحة بأنظمة شرعية أو تأييد سياسات فاشية أو إحداث الفوضى وعدم الاستقرار أو حتى التحالف مع الكيان الصهيوني.
وبالأمس تم الإفصاح عن حزمة جديدة من تلك التسريبات، كشفتها صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية وبعض الصحف الأخرى، تفند اتهامات الإمارات لقطر بتمويل ودعم المنظمات الإرهابية، فضلاً عن الكشف عن كيفية ترويج أبناء زايد لنظامهم الحاكم عبر شراء ذمم الأكاديميين والمؤسسات البحثية في مختلف دول العالم خاصة داخل الولايات المتحدة الأمريكية.
فتح مكتب لطالبان في أبو ظبي
“كثيرًا ما اتهمت الإمارات جارتها قطر بدعم وتمويل الجماعات المتطرفة المسلحة كما هو الحال في افتتاح قنصلية لحركة طالبان الأفغانية في الدوحة عام 2013، أما الآن فقد اتضح أن الإماراتيين سعوا لفتح مكتب لنفس الحركة في بلادهم بدلاً من الدوحة”، بهذه الكلمات استهلت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية تقريرها المنشور بالأمس لتفند بشكل واضح المزاعم الإماراتية الأخيرة.
التقرير ووفق تسريبات جديدة للبريد الإلكتروني للعتيبة كشف عن تعرض السفير الإماراتي للتوبيخ واللوم من قبل وزير الخارجية عبد الله بن زايد بسبب افتتاح مكتب الحركة الأفغانية في الدوحة بدلاً من أبو ظبي في ذلك التوقيت، حسبما أشارت رسالة تعود إلى سبتمبر/أيلول 2011 حين وجّه ابن زايد للعتيبة عتابًا بعد أن قررت واشنطن أن تكون سفارة طالبان في الدوحة بعد سعي الإمارات لذلك، وأبلغت به مبعوث الأمم المتحدة إلى أفغانستان.
وقالت الصحيفة: “الإمارات درجت خلال صراعها الحالي مع قطر على اتهامها بإقامة علاقات مع مليشيات إسلامية، مدللة على ذلك بمثال بارز، وهو افتتاح قنصلية لطالبان في الدوحة عام 2013″، لكنها أضافت “والآن يظهر أن الإمارات نفسها حاولت افتتاح قنصلية لطالبان في عاصمتها بدلاً من الدوحة”.
وفي رسالة بتاريخ 28 من يناير/كانون الثاني 2012، أرسل العتيبة إلى مسؤول أمريكي شكوى وزير الخارجية الإماراتي وغضبه من افتتاح قنصلية للحركة في الدوحة، متحدثًا عن القطريين بقوله “إنهم يسعون لأن يكونوا وسط كل هؤلاء الرجال”.
الأميرة فهدة بنت سعود ألمحت إلى أن الإمارات تقود حربًا في الخفاء ضد السعودية
الصحيفة كشفت أن ثلاثة من المسؤولين الأمريكيين أكدوا مساعي أبو ظبي لاستضافة قنصلية لحركة طالبان الأفغانية أو مكتب لهم، وذلك رغم رفض ممثلي السفارة الإماراتية في واشنطن التعليق على هذا الخبر، وهو أيضًا ما فعلته الخارجية الأمريكية.
وعن الهدف من وراء افتتاح قنصلية لطالبان في الدوحة أشار المسؤولون الأمريكيون الثلاث أن هذه الخطوة تأتي كـ”جزء من جهد أكبر لتسيير محادثات السلام في أفغانستان، وليس لدعم الحركة أو دعم أيديولوجيتها”، أما بخصوص حركة المقاومة الإسلامية “حماس” فأشارت الصحيفة إلى أن افتتاح مكتبها بقطر كان بـ”موافقة أمريكية”.
تصريحات الصحيفة الأمريكية بشأن طالبان وحماس وعلاقتهما بقطر جاءت ردًا على ما ذكره العتيبة في حوار له خلال الأسبوع الماضي، مع المذيع تشارلي روز، بتأكيده على وجود رابط بين استضافة الدوحة لقيادة حركة حماس ومكتب لحركة طالبان وأيضًا قيادات الإخوان المسلمين، ملفتًا أنه “ليس من قبيل المصادفة” على حد قوله.
تعرض السفير الإماراتي للتوبيخ واللوم من قبل وزير الخارجية عبدالله بن زايد بسبب افتتاح مكتب الحركة الأفغانية في الدوحة بدلا من أبو ظبي
عتاب ابن زايد للعتيبة بسبب فتح مكتب لطالبان في الدوحة بدلاً من أبو ظبي
تجنيد مؤسسات بحثية
التسريب الآخر الذي تم الكشف عنه من وثائق العتيبة على بريده الإلكتروني نشره “موقع “ذي إنترسبت” الإلكتروني، صاحب السبق في نشر العينة الأولى من تلك الوثائق، حيث أماط اللثام عن قيام السفير الإماراتي في واشنطن بتجنيد عدد من المؤسسات البحثية والأكاديمية فضلاً عن بعض الشخصيات العامة داخل الولايات المتحدة للترويج للإمارات وسياسات حكامها في مقابل تشويه سمعة قطر.
ففي رسالة مؤرخة في مارس الماضي نشرتها “الجزيرة” نقلاً عن الموقع الأمريكي، كشفت عن تجنيد شركة علاقات عامة مقرها واشنطن لحساب الإمارات، حيث أرسلت رسالة إلى بريد العتيبة توضح من خلالها تفاصيل “رحلة لمجموعة واسعة من الباحثين البارزين في مجال الأبحاث والعلاقات الدولية للإمارات مولتها أبو ظبي”.
وفي السياق ذاته كشف معهد شؤون الخليج في أمريكا عن وثيقة – قالت الجزيرة إنها اطلعت عليها – تشير إلى أن الإمارات دفعت “الآلاف من الدولارات لباحثين في مراكز دراسات أمريكية ممن يقدمون شهاداتهم أمام الكونغرس في قضايا السياسة الخارجية، بهدف محاولة تشويه سمعة قطر في الولايات المتحدة”، مستشهدة بما حصل عليه مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الأمن الأمريكي الجديد إيلان غولدنبرغ، الذي شهد أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأربعاء خلال جلسة لتقييم العلاقات الأمريكية القطرية، إذ بلغ حجم المبلغ الذي حصل عليه ما يقارب 250 ألف دولار من سفارة الإمارات في واشنطن.
وليست هذه المرة الأولى التي يتم الكشف عنها بشأن تجنيد أبو ظبي للمؤسسات والشخصيات العامة والسياسية في أمريكا وغيرها لدعم وتأييد توجهات أبناء زايد، ففي تقرير لـ”نون بوست” كشف النقاب عن نجاح الإمارات في اتباع هذه الاستراتيجية “شراء الذمم والضمائر”.
فبحسب ما تم تسريبه من وثائق سابقة من البريد الإلكتروني للعتيبة فقد نجح في شراء عدد من الشخصيات ذات الثقل القادر على قلب الحقائق بصورة كاملة، على رأسهم وزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت غيتس، ورئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير، ناهيك عن مراكز الأبحاث والدراسات فضلاً عن الصحفيين والمؤسسات الإعلامية الكبرى في العالم من أجل تنفيذ توجهات حكامها الساعية إلى مد نفوذهم الإقليمي بأي ثمن.
أشار المسؤولون الأمريكيون الثلاث أن هذه الخطوة تأتي كـ”جزء من جهد أكبر لتسيير محادثات السلام في أفغانستان، وليس لدعم الحركة أو دعم أيديولوجيتها”
المال بات العصا السحرية للإمارات لشراء ميول وتوجهات بعض الشخصيات
الحملة ضد قطر
لا يمكن فصل ما تم تسريبه من وثائق البريد الإلكتروني للعتيبة عما كشفته تصريحاته الرسمية المعلنة مؤخرًا دون قرصنة أو اختراق، إذ إن كلاهما يدور في فلك واحد وهو تشويه سمعة قطر عبر قذفها بتهم الإرهاب ودعم الكيانات المتطرفة.
العتيبة خلال مقابلة له مع قناة “بي بي إس” (PBS) الأمريكية، السبت الماضي، أشار إلى أن الخلاف بين بلاده وقطر يتجاوز الخلاف الدبلوماسي بمراحل، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، مفسرًا رؤيته بأنه “إذا سألت الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين عن أي شرق أوسط يريدون رؤيته في السنوات العشرة المقبلة، فسيكون شرق أوسط مختلفًا بشكل أساسي عما تريده قطر خلال الفترة نفسها، نحن نريد شرق أوسط أكثر علمانية، مستقرًا ومزدهرًا تقوده حكومات قوية”.
مناهضة قطر لتوجهات دول الحصار الأربعة نحو علمنة الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط كانت السبب الحقيقي وراء الهجوم الرباعي ضد الدوحة، وهذا ما يظهر حقيقة الحملة ضد النظام القطري حسبما أشار وزير الدولة لشؤون الدفاع في قطر خالد بن محمد العطية.
العطية خلال حوار له مع “الجزيرة” اعتبر أن تصريحات العتيبة “تكشف عن الطرف الذي يريد التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، ويعبث بعقيدتهم”، مؤكدًا أن “العبث في العقيدة السمحة الوسطية للمنطقة خطير جدًا”.
الإمارات دفعت الآلاف من الدولارات لباحثين في مراكز دراسات أمريكية ممن يقدمون شهاداتهم أمام الكونغرس في قضايا السياسة الخارجيةـ بهدف محاولة تشويه سمعة قطر في الولايات المتحدة
تصريحات العتيبة لم تستفز الجانب القطري فحسب، بل أثارت حفيظة بعض السعوديين أيضًا ممن رأوا فيها نسفًا لمعتقدات المملكة الدينية وثوابتها الراسخة، حيث هاجمت الأميرة فهدة بنت سعود، ابنة الملك سعود بن عبد العزيز، السفير الإماراتي في واشنطن، منتقدة الصمت الإعلامي السعودي الرسمي ضد تلك التصريحات التي وصفتها بأنها “تمس الدين والوطن”.
فهدة في تغريدة لها ألمحت إلى أن الإمارات تقود حربًا بالخفاء ضد السعودية، مضيفة: “المؤامرة ضد وطننا وسيادتنا وديننا كبيرة، وأصبحت واضحة المعالم، ومن يقودها كشر عن أنيابه، ولكن قيادتنا وشعبنا له بالمرصاد”.
#السعودية_دولة_تحكّم_الشريعة,من حقنا ان نتساءل عن الصمت لوزارة الأعلام عن تصريح #سفير_الأمارات #يوسف_العتيبة الذي يمس سيادة وطننا وديننا؟
— فهدة بنت سعود (@fahdabntsaud) July 29, 2017
#الا_عقيدتنا_يالعتيبه، المؤامرة ضدوطننا وسيادتنا وديننا كبيرة وأصبحت واضحة المعالم ،ومن يقودها كشر عن أنيابه.ولكن قيادتناوشعبنا له بالمرصاد.
— فهدة بنت سعود (@fahdabntsaud) July 29, 2017
#بلاد_الحرميين_الشريفيين لايمثلهاالاأهلها، أبناءوأحفادالذين وحدواالبلادتحت رايةالتوحيد التي ستضل مرفرفة ودستورهاالقرآن،شاءمن شاءوأبى من أبى. pic.twitter.com/rbhajNvIHY
— فهدة بنت سعود (@fahdabntsaud) July 29, 2017
وهكذا تتواصل تسريبات العتيبة التي تكشف بعضًا من ملامح التوجهات الإماراتية في ثوبها الجديد، الرامية إلى توسيع نفوذ أبناء زايد الإقليمي، عبر دعم أنظمة والإطاحة بأخرى وشراء توجهات والحصول على دعم مواقف، وهو ما مهد الطريق أمامها لأن تكون أحد أبرز المحركين الجدد لمياه المنطقة بأكملها.