تصاعدت في الآونة الأخيرة العديد من التصريحات السياسية العراقية المطالبة بتحديد سقف زمني لعمل قوات التحالف الدولي ضد “داعش” في العراق، وجاء هذا التصعيد بعد الهجمة التي شنّتها القوات الأمريكية في العراق الخميس الماضي، والتي استهدفت على إثرها آمر لواء 12 في الحشد الشعبي (حركة النجباء)، أبو تقوى السعيدي، وآخرين.
ورغم أن حكومة محمد شياع السوداني عبّرت عن رغبتها في عقد جولة جديدة من الحوارات مع قوات التحالف، لتحديد مستقبل ودور التحالف الدولي في العراق، إلّا أنه لا يبدو أن هناك مؤشرات تدعم هذا التوجُّه حتى الآن.
وفي ردّ على المواقف العراقية، وتحديدًا الصادرة عن قيادات في الإطار التنسيقي، حول ضرورة انسحاب القوات الأجنبية من البلاد، قالت وزارة الدفاع الأمريكية إنها لا تخطط حاليًّا لسحب قواتها من العراق، رغم إعلان بغداد قبل أيام أنها بدأت إجراءات لإنهاء وجود التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”.
وقال المتحدث باسم البنتاغون، باتريك رايد، في إيجاز صحفي مساء الاثنين الماضي، إنه ليس لديهم علم بأي خطط للانسحاب من العراق، مضيفًا أن القوات الأمريكية المشاركة في التحالف تواصل التركيز بشدة على مهمة هزيمة تنظيم “داعش”، وأنه لا يعلم كذلك بأي إخطار من بغداد للبنتاغون بشأن قرار سحب القوات الأمريكية، مشيرًا إلى أن هذه القوات موجودة في العراق بدعوة من حكومة السوداني.
وفي هذا السياق، كان السوداني حتى وقت قريب من أشد الداعمين لفكرة أن العراق بحاجة إلى تواجد قوات التحالف الدولي، خصوصًا على مستوى التدريب والاستشارة، وأنه ليست هناك نوايا لإنهاء مهمة التحالف في العراق رغم تعرضه لضغوط داخلية، وتحديدًا من القوى السياسية والفصائلية المحسوبة على إيران.
إذ تعتبر إيران وحلفاؤها أن استمرار التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة في العراق، يمثل عقدة استراتيجية لدورها في الساحة السورية، خصوصًا أن مهمة هذا التحالف لم تعد تقتصر على مكافحة تهديدات “داعش”، إنما امتدت لتحييد التهديدات التي يمثلها حلفاء إيران أيضًا.
تساؤلات وحاجات ملحّة
إن التساؤل الذي يطرح هنا يتمثل بالمتغير الذي طرأ على موقف السوداني الأخير، والذي دعا إلى وضع نهايات حقيقية للأدوار التي يقوم بها التحالف الدولي في العراق، إذ إنه ورغم الجهود التي مارسها خلال الفترة الماضية، في الحفاظ على التوازن الهشّ بين الفصائل المسلحة والقوات الأمريكية في العراق، وتحديدًا بعد بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، إلّا أن الضربة الأمريكية الأخيرة عقّدت كثيرًا من هذه الجهود.
فمن جهة لم يعد السوداني قادر على الدعوة العلنية لبقاء التحالف الدولي في العراق، ومن جهة أخرى فإنه رغم تصريحه عن الحاجة إلى قوات التحالف الدولي، فإنه حتى اللحظة لم يقدّم إخطارًا علنيًّا لانسحاب القوات الأمريكية من العراق، وهو ما يمثل حجم التحدي الكبير الذي تواجهه حكومة السوداني بالوقت الحاضر.
فمن شأن ترتيب مشهد خروج عدائي للقوات الأمريكية من العراق، أن يتحمل العراق تبعات كبيرة سياسية واقتصادية وأمنية، ويمثل الجانب الأمني التحدي الأبرز في هذا السياق، إذ يحتاج العراق إلى استراتيجية جديدة لبناء قوات عسكرية كبيرة وقوية، بما يكفي لمواجهة التحديات الأمنية من عدم حصر السلاح بيد الدولة، ولتأمين حدوده مع سوريا وتركيا وإيران.
ومن ثم إن استمرار العمل مع التحالف الدولي، يمكن أن يشكّل مدخلًا لإعادة تقييم العلاقات الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، بحيث تؤدي الولايات المتحدة دورًا حاسمًا في إعادة بناء قدراته العسكرية والأمنية التي اُستنزفت خلال الحرب ضد “داعش”، فضلًا عن أن العراق يحتاج إلى إعادة بناء منظومته التسليحية، وإعادة تشغيل وصيانة العديد من القواعد العسكرية.
وإلى جانب ما تقدم أيضًا، لا تزال القوات الجوية العراقية صغيرة ومحدودة جدًّا، ورغم أنها تضم بعض الطائرات الأمريكية من طراز إف-16، إلا أنها بدأت للتوّ في تطوير قدرات قتالية جوية حديثة، ولا يمتلك العراق أسلحة دفاع جوي أو منظومات صواريخ متطورة، أو نظام إنذار ومراقبة جوي، أو قدرات أرضية للدفاع الجوي، وهي قدرات عسكرية مهمة للتعامل مع أي تهديدات عسكرية خارجية.
كما تحتاج المؤسسة العسكرية العراقية إلى تحقيق المزيد من التكامل الوظيفي على مستوى العمل العسكري، فعلى الأرض توجد اليوم 3 قوات عسكرية رئيسية، هي الجيش العراقي والحشد الشعبي والبيشمركة الكردية، وحتى اللحظة لم تُظهر هذه القوات التكامل الوظيفي في العمل الأمني الرسمي.
ولا شكّ أن عملية تطوير القدرات العسكرية العراقية سيصيبها الشلل، فيما لو قررت الولايات المتحدة أو التحالف الدولي الانسحاب في أي وقت من الأوقات، دون أن يكون هناك التزام استراتيجي يربط علاقاتها بالعراق.
فعملية الانسحاب الأمريكي من العراق عام 2011، أدّت إلى تصدعات كبيرة عانى منها الجيش العراقي في مواجهة هجمات تنظيم “داعش” عام 2014، وعندما قررت الولايات المتحدة العودة إلى العراق عام 2016، ساعدت في دحر التنظيم وحقّقت إنجازات أخرى على الأرض، ومن ثم كيف سيكون المشهد الأمني المقبل في العراق، فيما لو تم الانسحاب من دون ضمانات حقيقية بين العراق والولايات المتحدة، أو العراق والتحالف الدولي؟
هل هناك رغبة حقيقية؟
رغم التحركات الجارية على الساحة العراقية في تحديد المسار الذي ينبغي أن يكون عليه شكل التحالف الدولي في العراق، إلّا أنه لا يبدو أن هناك توجّهًا حقيقيًّا لحسم هذا الملف بالنظر إلى الخلاف الحالي.
إذ لا تبدو بعض أطراف الإطار التنسيقي متحمّسة لهذا التوجه، خصوصًا مع التداعيات التي يمكن أن تتمخّض عنه في فرض مزيد من التحديات أمام مستقبل حكومة السوداني، فضلًا عن ذلك لا يبدو إقليم كردستان العراق معنيًّا بتوجهات حكومة السوداني، إذ عبّرت حكومة الإقليم عن رغبتها ببقاء قوات التحالف في العراق، وكذلك بعض الأطراف السنّية.
كما أن إيران ورغم كونها المستفيد الأكبر من خروج الولايات المتحدة من العراق، إلّا أنها راغبة في أن يكون هذا الخروج مرضيًا للولايات المتحدة، دون أن يتحمّل العراق تبعات كبيرة جرّاء هذا الخروج، إذ تعتمد إيران بصورة رئيسية على الساحة العراقية، وتحديدًا في عمليات الاستيراد والتصدير وسوق العملة، فضلًا عن المشاريع الاستثمارية والتجارية، وفرض عقوبات على العراق أو أي تقييد ستفرضه الولايات المتحدة كردّ فعل على خروجها من العراق، سيجعل إيران أكبر الخاسرين من ذلك.
حيث إن انسحاب التحالف الدولي أو القوات الأمريكية، يعني خروج العراق من دائرة الاهتمام الدولي، وتحديدًا على صعيد منظومة الأمن الدولي التي يشكّل العراق حجر الزاوية فيها، على اعتبار أن ضبط الأمن في العراق هو مقدمة لتأمين مصادر التهديد على الصعيد الدولي، وأي تراجع في هذا الاهتمام سينعكس سلبًا على العراق، خصوصًا مع إمكانية أن تلجأ الولايات المتحدة إلى فرض حظر شامل على المنظومة التسليحية العراقية، ومع انسحابها فإنه لا ضمان من بقاء هذه المنظومة بيد القوات العراقية الرسمية، والحديث هنا عن إمكانية استحواذ الفصائل المسلحة عليها، وهذا تحدٍّ كبير.
ورغم أن مستقبل التحالف الدولي في العراق يسير وفق عدة مشاهد، أبرزها الانسحاب والخروج، أو استمرار الوضع الراهن، إلّا أنه لا بدَّ أن يتم تنظيم عمله وفق شراكة واضحة، دون أن يترَك الموضوع لاجتهادات أمريكية أو فصائلية.
ومثلما تمّ تنظيم الوجود العسكري الأمريكي عبر اتفاقات أمنية، فإنه لا بدَّ من تنظيم عمل التحالف الدولي وفق ترتيبات أمنية واضحة، وإلا فإن العراق سيدفع ثمنًا باهظًا على مستوى الاستقرار الأمني، حيث إن استمرار الهجمات المتبادلة بين الطرفَين أصبح يلقي بظلاله على مستقبل المشهد الأمني في البلاد.