شهدت مدينة العوامية التابعة لمحافظة القطيف في المنطقة الشرقية السعودية عددًا من الاشتباكات بين قوات الأمن وبعض العناصر المسلحة خلال الأيام الأخيرة لتضاف حلقة جديدة إلى مسلسل التوتر الذي خيم على تلك المنطقة منذ سنوات طويلة مضت.
المواجهات هذه المرة أخذت طابعًا غير تقليدي، فالمسألة لم تعد تظاهرات يعقبها فض بالقوة وبعض الإصابات على أقصى تقدير، لكنها تجاوزت ذلك بمراحل إلى مواجهات مسلحة، أشبه بحرب شوارع، أفضت إلى سقوط 7 قتلى، فضلاً عن اضطرار مئات المدنيين إلى النزوح عن المدينة هربًا بأرواحهم وممتلكاتهم.
التطورات المتلاحقة في المنطقة الشرقية ذات الكثافة الشيعية بالتزامن مع تصاعد وتيرة التوتر بين الرياض وطهران على خلفية تباين وجهات النظر حيال بعض الملفات الإقليمية يثير العديد من التساؤلات عما يمكن أن تصل إليه هذه المواجهات خاصة بعد تجاوزها لما هو مألوف طيلة الفترات الماضية.
اتهامات بالانتقام
على مدار يومين كاملين، السبت والأحد الماضيين، نشبت العديد من الاشتباكات بين قوات الأمن السعودية وبعض مواطني منطقة العوامية من بينهم مسلحين، مما أسفر بحسب وكالة “رويترز” عن سقوط سبعة قتلى، خمسة من المواطنين، ثلاثة من السكان الأصليين واثنين من المغتربين، إضافة إلى اثنين من رجال الشرطة.
وقد حدد النشطاء أسماء المحليين الثلاث الذين قتلوا في تلك الاشتباكات وهم محسن العوجمي ومحمد الفرج وحسين أبو عبد الله لكنهم لم يذكروا تفاصيلاً عن المغتربين.
ومما يجسد حدة تلك الاشتباكات شهادة أحد أفراد عائلة محسن العوجمي البالغ من العمر 42 عامًا والذي قتل في تلك المواجهات حين كان عائدًا من عمله إلى منزله عندما أطلقت قوات الأمن النار عليه، حيث قال: “عندما ترجل من سيارته أصابه وابل من الرصاص من قوات الأمن، أصيب في منطقة البطن، ظل في الخارج لساعتين ونصف الساعة قبل أن يتمكن الناس من سحبه للداخل وتقله سيارة إسعاف”.
الرواية الرسمية تقول إن الاشتباكات تعود إلى محاولة الحكومة السعودية المدعومة بقوات من الأمن إزالة حي الماسورة القديمة التابع للعوامية من أجل تنفيذ مخطط تطويري للعمران في المنطقة، وهو ما رفضه المواطنون بصورة كاملة، وبين تصميم الشرطة على تنفيذ الإزالة وعناد أهالي المنطقة وقعت الاشتباكات بين الجانبين.
إمارة المنطقة الشرقية طلبت من سكان ومزارعي المدينة مساعدتهم للخروج بعيدًا عن مناطق الاشتباكات
بينما بعض السكان أرجعوا مساعي السلطات السعودية لإزالة هذا الحي بأنها محاولة “انتقامية” من المنطقة كونها مسقط رأس الزعيم الشيعي الشيخ نمر النمر، الذي نفذت فيه السلطات السعودية حكم الإعدام منذ عام تقريبًا، فضلاً عن احتضانها لبعض العناصر المعارضة للنظام السعودي من الشيعة.
اتهامات أهالي العوامية للحكومة بـ”الانتقام”من المنطقة عززتها شهادات بعض السكان المحليين حسبما نشرت الوكالة البريطانية بقوله: “الحياة في البلدة باتت لا تحتمل بسبب الانقطاع المتكرر للمياه والكهرباء في ظل درجات حرارة تزيد على 40 درجة مئوية”، في إشارة منهم إلى تعمد السلطات السعودية إفساد الحياة على أهالي المنطقة سواء كان هذا انتقامًا أو تمهيدًا لمخطط آخر.
نزوح المدنيين
الوضع المأساوي الذي تشهده المدينة من قطع للكهرباء وتراجع في مستوى الخدمات حسبما أفاد سكان وشهود عيان فضلاً عن تصاعد الاشتباكات بين قوات الأمن والعناصر المسلحة كان محركًا أساسيًا لدفع المئات من المدنيين إلى النزوح خارج المدينة والبحث عن مأوى آخر لحين عودة الهدوء للمنطقة.
وعلى الفور نقل التليفزيون الرسمي السعودي دعوة السلطات للنازحين من العوامية للتوجه إلى مقر المحافظة لطلب مساكن مؤقتة أو الحصول على تعويض عن المنازل التي اضطروا لتركها، وكما نقل موقع “سبق” عن أمير المنطقة الشرقية سعد بن نايف، مطالبته بإرسال العائلات النازحة إلى محافظة القطيف التابعة للمنطقة الشرقية وتقديم المساعدة لهم.
أما فلاح الخالدي، محافظ القطيف المكلف، فأكد أن نزوح المدنيين من العوامية خارج ديارهم مسألة مؤقتة لحين “إزالة أوكار الخارجين على القانون داخل حي الماسورة القديمة”، مشيرًا إلى أن إمارة المنطقة الشرقية طلبت من سكان ومزارعي المدينة مساعدتهم للخروج بعيدًا عن مناطق الاشتباكات.
بعض السكان أرجعوا مساعي السلطات السعودية لإزالة هذا الحي بأنها محاولة “انتقامية” من المنطقة كونها مسقط رأس الزعيم الشيعي الشيخ نمر النمر
المنطقة الشرقية.. لماذا؟
ليست هذه المرة الأولى التي تواجه فيها المنطقة الشرقية اشتباكات ومواجهات مسلحة بين قوات الأمن وأهالي المنطقة، فالطبيعة المذهبية والجيوسياسية لها ألقت بظلالها على المشهد الأمني والسياسي السعودي بصورة كبيرة، فباتت تلك المنطقة وكأنها شوكة بخاصرة المملكة.
يشكل الشيعة في المنطقة الشرقية نسبة كبيرة من السكان، ينتمون في أغلبهم إلى الإمامية (الجعفرية)، ورغم العوامل الثقافية والسياسية والدينية التي تضفي أهمية كبيرة على هذا الوجود، فإن أحد أبرز العوامل المهمة في هذه المسألة كون المنطقة الشرقية تحتوي على أكبر مخزون نفطي في العالم (25% من إجمالي الاحتياط العالمي) إلى جانب وجود كميات هائلة من الغاز.
تتباين الإحصائيات الخاصة بعدد الشيعة في تلك المنطقة، إلا أن شبكة “سي إن إن” الأمريكية في تقرير سابق لها تحت عنوان “المسألة الشيعية في المملكة العربية السعودية”، الصادر عن المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات (ICG) في بروكسل 2005، أوضحت أن عددهم يقدر بمليوني نسمة تقريبًا، يمثلون نسبة 10-15% من إجمالي السكان.
قبل نحو عام تقريبًا أثار تنفيذ السلطات السعودية حكم الإعدام بحق المعارض السعودي الشيعي الشيخ نمر باقر النمر و46 آخرين موجة استنكار واضطرابات في منطقة القطيف السعودية مسقط رأس الشيخ
وفي المقابل أشار المفكر الشيعي أحمد راسب النفيس، في تصريحات له، أن نسبة الشيعة في المنطقة الشرقية وحدها يبلغ 5 ملايين شيعي، مرجعًا وجودهم في تلك المنطقة إلى ما قبل 5000 عامًا تقريبًا، حيث كانت تسمى “البحرين” ولها حدود مشتركة مع دولة الكويت في الشمال ودولتي قطر والبحرين في الشرق ودولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان في الجنوب.
أما على الصعيد الجيوسياسي، فإن شيعة المنطقة الشرقية تربطهم علاقات قوية ووثيقة ومترابطة مع المناطق ذات الكثافة الشيعية في الدول المجاورة كالعراق وإيران والكويت والبحرين وغيرها، وهو ما يعطي زخمًا لأي تحركات شيعية ضد السلطات السعودية في تلك المنطقة، مما جعلها دومًا صداعًا في رأس نظام آل سعود.
الربيع العربي وتصاعد التوتر
منذ انطلاق قطار الربيع العربي في 2011، حاول الكثير من سكان المنطقة الشرقية، الشيعة على وجه الخصوص اللحاق بهذا القطار على أمل إحداث تغيير في النظام الحاكم بالمملكة، شجعهم على ذلك الدعم الإيراني المتواصل بصورة غير مباشرة، عبر المناطق الشيعية المجاورة والتي كانت تمثل البعد الأمني الحاضن لشيعة الشرقية.
وخلال هذه الفترة نشبت عشرات الاشتباكات والمواجهات بين قوات الأمن السعودية والمعارضين لنظام آل سعود أسفرت عن سقوط عشرات القتلى ومئات المصابين، رافقها تفجيرات استهدفت بعض المساجد والأسواق أعلن تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” مسؤوليته عنها فيما بعد.
وقبل نحو عام تقريبًا أثار تنفيذ السلطات السعودية حكم الإعدام بحق المعارض السعودي الشيعي، الشيخ نمر باقر النمر و46 آخرين موجة استنكار واضطرابات في منطقة القطيف السعودية مسقط رأس الشيخ، مما أسفر عن موجة من الاضطرابات بين الأمن وأنصار النمر من الشيعة والمعارضين، تسببت في حملة من الاعتقالات بين صفوف المتظاهرين والمحتجين.
شبكة “سي إن إن” الأمريكية في تقرير سابق لها أوضحت أن عدد شيعة المنطقة الشرقية يقدر بمليوني نسمة تقريبًا، يمثلون نسبة 10-15% من إجمالي السكان
خلال تشييع جنازة بعض قتلى المواجهات في العوامية
الشرقية على خطى سيناء المصرية
هناك تشابه كبير بين إجراءات السلطات السعودية حيال ما يحدث في المنطقة الشرقية وخاصة منطقة العوامية وبما يحدث في سيناء، وهو ما دفع البعض للإعراب عن قلقهم خشية أن تتحول العوامية إلى سيناء سعودية.
ففي أكتوبر 2011 اتهمت السلطات السعودية دولاً خارجية بدعم ما وصفتهم بـ”مثيري الشعب” في منطقة العوامة، وأنهم يسعون إلى إحداث الفوضى وعدم الاستقرار في تلك المنطقة من خلال استخدام قنابل المولوتوف وحرق المقرات الحكومية، لتقديم صورة سلبية تجاه المملكة خارجيًا، وأن الوضع خارج عن السيطرة.
مصدر بوزارة الداخلية أشار تعقيبًا على هذا الاتهام أن ما يمارس في العوامة يعد “تدخلاً سافرًا في السيادة الوطنية، فانساق وراءهم ضعاف النفوس ظنًا منهم أن أعمالهم ستمر من دون موقف حازم تجاه من أسلم إرادته لتعليمات وأوامر الجهات الأجنبية التي تسعى لمد نفوذها خارج دائرتها الضيقة، وعلى هؤلاء أن يحددوا بشكل واضح إما ولاؤهم لله ثم لوطنهم، أو ولاؤهم لتلك الدولة ومرجعيتها”.
وبعد مرور ستة أعوام على هذا التصريح ها هي السلطات السعودية تسير في إطار تهجير المنطقة من سكانها الأصليين، حتى ولو لفترات مؤقتة حسبما أشار محافظ القطيف، بزعم تهيئة المناخ أمام قوات الأمن لمحاصرة العناصر المسلحة والمتطرفة والقضاء عليهم بصورة كاملة.
المشهد يشبه إلى حد كبير ما يحدث في سيناء، حيث اتهام بعض الدول الأجنبية بالضلوع وراء انتشار العمليات المسلحة ضد قوات الجيش والشرطة والمدنيين هناك، مما دفع السلطات المصرية إلى تهجير سكان مناطق الشيخ زويد ورفح، وقيل حينها إنه لفترة ثلاثة أشهر فقط، لكنها تجاوزت الأعوام الثلاث دون عودة الأهالي إلى منازلهم.
إلا أنه في المقابل هناك من يقلل من تأثير الإجراءات الأخيرة التي تتخذها السلطات السعودية على مستقبل سكان العوامية، فمن الصعب إقامة منطقة عازلة في هذه البقعة، إذ إن الالتصاق والتواصل الجيوسياسي بين شيعة الشرقية ونظرائهم في البحرين والكويت وإيران مسألة لا يمكن المساس بها، وفق ما أشار البعض.
ومن ثم ستظل المنطقة الشرقية “الصداع الأكبر” للسلطات السعودية هذا فيما يتعلق بالعلاقة مع الشيعة بها، إلا أنها في المقابل ستكون ترمومترًا للعلاقة بين الرياض وطهران، تشتعل حين يتصاعد التوتر وتندمل حين تهدأ الأمور.