تسارعت وتيرة مغادرة آلاف المقيمين في السعودية من السودانيين والأردنيين واليمنيين وغيرهم، مع بدء فرض الرياض لسلسة من الضرائب والرسوم مطلع الشهر الماضي، ولقرب انتهاء المهلة الممنوحة للمخالفين لتصحيح أوضاعهم في سجلاتت الإقامة.
منذ مطلع الشهر الماضي سرى قرار مرافقي العمالة الأجنبية في القطاع الخاص، وبات الوافد يدفع 100 ريال سعودي (26.6 دولارًا) شهريًا عن كل مرافق بحيث يكون ذلك مقدمًا وبشكل سنوي اعتبارًا من الأول من شهر يوليو/تموز الماضي. ويرتفع الرسم الشهري عن كل مرافق إلى 200 ريال (53.3 دولارًا) من يوليو/تموز 2018، و 300 ريال (80 دولارًا) في العام التالي، ثم 400 ريال (106.6 دولارات) في 2020. والجدير بالذكر هنا، أن هذه الخطة تندرج تحت رؤية المملكة 2030 التي تستهدف التخلص من إدمان البلاد على النفط وزيادة الإيرادات الحكومية غير النفطية إلى ترليون ريال بحلول العام 2030 من 163 مليار ريال حاليًا.
ترافقت هذه الأخبار مع بيانات جديدة صدرت عن الهيئة العامة للإحصاء حول السوق السعودي في الربع الأول من العام الجاري 2017، بما يخص معدلات البطالة لإجمالي سكان السعودية من المواطنين.
وكذا التقارير التي أشارت إلى أعداد العمال الذين يغادرون السعودية تباعًا نحو 165 ألف عامل سنويًا وهذا الرقم يفرض بحد ذاته تحد من نوع جديد على المملكة، وقد يفتح عليها باب آخر بعيدًا عن مشاكلها المتعلقة بالنفط والاعتماد على إيراداته بشكل كبير، ففي حال لم يكن هناك عمالة محلية قادرة أن تحل محل العمالة الوافدة، سيتدهور الاقتصاد ويواجه الكثير من القطاعات أخطار محتلفة.
العمالة الوافدة في الخليج
تعد دول الخليج من الدول الأكثر حضانة للعمالة في الوطن العربي والعالم، إذ يعمل فيها حوالي 17 مليون أجنبي ويرتفع العدد إلى 23 مليون أو أكثر بعد إضافة عائلاتهم أي قرابة نصف سكان الخليج البالغ عددهم 48.8 ميلونًا حسبما أوردت وكالة الأناضول. وفي السعودية يبلغ عدد الأجانب نحو 11.7 مليونًا يعمل منهم 7.4 ملايين بينما يمثل المرافقون 4.3 ملايين يشكلون 1.1 مليون أسرة، ويأتي الوافدون من مختلف دول العالم وخصوصًا الهند وباكستان ومصر.
وفضلا أن العمالة الوافدة في دول الخليج تمثل أغلبية القوى العاملة في جميع دول مجلس التعاون الخليجي، تعد الأغلبية السكانية في دول المجلس باستثناء السعودية وعُمان. ويُشار أن العدد الكلي البالغ 23 مليونًا أو أكثر يعني أنهم يشكلون قرابة نصف السكان في دول مجلس التعاون الخليجي، وهذا يعد أمرًا لافتًا بالمقاييس الدولية السائدة.
خروج أرقام كبيرة من الوافدين من عمال وأسر من السعودي بشكل مفاجئ له انعكاسات سلبية على الاقتصاد والمواطن السعودي بالمحصلة
وتجدر الإشارة هنا، أن العمالة الوافدة تتميز باستعداداه للعمل لساعات طويلة الأمر الذي يخدم تطلعات القطاع التجاري، كما يسهم العمال الوافدون الذين يديرون المحلات التجارية الصغيرة للبي ع بالتجزئة في تعزيز نوعية المعيشة في المناطق المختلفة عبر فتح محلاتهم على مدار الساعة. وغنى عن التعريف أن العمالة الوافدة ناهيك أنها تخدم العمال أنفسهم وأفراد أسرهم فهي تخدم اقتصادات بلدانهم عبر التحويلات المالية، كما تخدم الخطط التنموية في دول مجلس التعاون الخليجي في مختلف الأنشطة بما في ذلك القطاعات غير الجذابة للعمالة المحلية الخليجية كالبناء والتشييد والقطاعات الخدمية.
ومن أهم الميزات التي جذبت العمالة الأجنبية إلى دول مجلس التعاون، أن دول الخليج لا تفرض قيودًا على الأول المغادرة لكون ذلك حقًا مكتسبًا ويكاد يكون جوهريًا وراء قدوم العمال الوافدين إلى الخليج. على الرغم من أنه من مصلحة اقتصادات دول مجلس التعاون بقاء جانب من أموال العمالة الوافدة داخل الاقتصادات المحلية عبر أدوات استثمارية مثل العقار وأسواق المال. وفي خال ذهاب هذه المزية المهمة فإن هذا سيؤثر بشكل قطعي على بقاء الوافدين في دول المجلس.
وبحسب بحث منشور في مركز الجزيرة للدراسات، يُعتقد أن كل من السعودية والإمارات ضمن قائمة أفضل خمس دول بالنسبة إلى التحويلات المالية؛ حيث تأتي السعودية في مقدمة الدول من حيث نسبة التحويلات إلى الناتج المحلي الإجمالي، وتشكِّل أرقام التحويلات المالية المغادرة ما بين 4.5% إلى 6% من الناتج المحلي الإجمالي للسعودية. وقد بلغت نسبة البطالة لإجمالي المواطنين في السعودية 15 سنة فأكثر نسبة 12.7% بواقع 7.2% للذكور و 33.0% للإناث، في أحدث بيانات الهيئة العامة للإحصاء حول سوق العمل السعودي.
تشير توقعات بأن يشهد الاقتصاد السعودي أكبر تباطؤ في النمو منذ الأزمة المالية العالمية 2008، ومن المتوقع أن ينمو الاقتصاد بنسبة 1.5% فقط خلال العام الجاري
إلى ذلك توقع مختصون في الموارد البشرية أن تسهم الرسوم الجديدة المفروضة على المقيمين ومرافقيهم في خفض معدلات البطالة وسط المواطنين من 12 إلى 9% بحلول 2020. وأن هذه الرسوم على المرافقين سترفع تكلفة العمالة الوافدة وستقلص نسبة استقدامها وتقصر الاستقدام في حالات خاصة وملحة لأهمية اتخاذ حزمة من الإجراءات الجريئة لإجبار أصحاب العمل لتفضيل العمالة الوطنية على الوافدة. في حين يشكك خبراء بهذا الكلام نظرًا للظروف المتوفرة في السعودية.
أثر مغادرة العمالة للسعودية
فرض الرسوم على الوافدين وتقنين أوضاعهم ورفع الدعم على الوقود وفرض سلسلة من الضرائب جعلت من دول الخليج والسعودية أقل جاذبية مما سبق بالنسبة للعمالة الوافدة، وهو ما دفع بالعمالة في السعودية على وجه التحديد بالعودة إلى بلادهم، أو على الأقل إعادة أسرهم إليها للتخفيف من تكاليف المعيشة.
وحول هذا الموضوع يرى اقتصاديون أن التطورات الأخيرة ستدفع بعض العمالة الوافدة إلى المغادرة لعدم القدرة على الاستمرار في العمل أو إعادة عائلاتهم لتجنب الرسوم الجديدة، ومن جانب آخر أثار البعض نقطة حساسة وهي أن انسحاب تلك العمالة بصورة مفاجئة قد يؤدي إلى تعطل حركة الاقتصاد، نظرًا للأرقام الكبيرة التي ستغادر البلاد وسط غياب واضح للبديل.
إذ قدرت تقارير عدد العمالة الأجنبية التي ستغادر السعودية مع بدء تطبيق رسوم المرافقين بنحو 670 ألفًا حتى العام 2020. ووفقًا، لتقارير سابقة للبنك السعودي الفرنسي فإن معدل مغادرة العمالة الأجنبية سيكون في حدود 165 ألف عامل سنويًا حسبما أفادت به صحيفة مكة السعودية. وأشار التقرير أن رسوم المرافقين ستوفر نحو 20 مليار ريال في السنوات الثلاث المقبلة.
بينما تسعى الحكومة لتطبيق برنامج تسميه “المقابل المالي” للعمالة الوافدة الذي من المتوقع أن يصل إجمالي ما ستحصله السلطات السعودية من العمالة الوافدة خلال 2018 نحو 24 مليار ريال. وسبق لوزير المالية السعودية محمد الجدعان أن أعلن أن البلاد ماضية في قرار فرض الضرائب والرسوم على المقيمين الأجانب والزائرين، وأن الحكومة ملتزمة بهدفها في تحقيق التوازن بين الإيرادات والمصروفات في الميزانية بحلول العام 2020.
ولكن تحديات عديدة ستظهر في هذا الجانب ليس في إطار صعوبة تطبيق هذا البرنامج وحسب، ولكن على الانعكاسات المحتملة على الاقتصاد السعودي في حال لم تنجح الحكومة في إقناع المواطن بالعمل في أعمال الوافدين المغادرين.
طبعًا لن يتضرر المواطن السعودية من تلك السياسات، بل على العكس تم العمل على هذه السياسية لتخفيض نسب البطالة، واعتماد المواطن على نفسه أكثر والدخول في قطاعات الإنتاج والعمل في بعض المجالات التي لا يعمل بها السعوديون، وهذا يندرج تحت مخطط لسعودة الوظائف أي إسناد معظم الوظائف في الدولة لسعوديين كبديل عن العمال الأجانب.
أما من جانب الحكومة فإن هذه الخطوات تعد خطوة تمثل علاجًا للعجز في الميزانية، عبر استحداث عوائد غير نفطية، في ظل تراجع إيرادات النفط مع الانخفاضات التي يشهدها سعر الخام منذ العام 2014.
في حين أن المتضرر الوحيد هم العمال الوافدون، والذين يعملون لإعالة أسرهم سواء كانت مرافقة لهم في البلاد، أو تتلقى الدعم المالي منهم في بلدانهم الأصلية عبر تحويلات مالية. ومع زيادة هذه الضرائب بشكل تصاعدي فإن كثيرين منهم ربما يرون أن بقاءهم هناك أصبح غير مجد.
فرض الرسوم على الوافدين وتقنين أوضاعهم ورفع الدعم على الوقود وفرض سلسلة من الضرائب جعلت من دول الخليج والسعودية أقل جاذبية مما سبق
يعتمد خروج الاقتصاد من هذا الوضع، على البرامج التي ستعتمدمها الحكومة في هذا الصدد، فلا يكفي اعتماد سياسات تؤدي في نهاية المطاف إلى تهجير العمالة الأجنبية، هذا الأمر لا يحمي الاقتصاد ولا يحل مشكلة البطالة في البلاد. فالمعلومة المهمة في هذا النطاق أن معظم العمالة في الخليج ليست عمالة فائقة المهارة وبالأخص الواردة من آسيا، ولكنها في نفس الوقت تستحود على قطاعات بارزة ومحركة للاقتصاد قد يؤدي مغادرتها إلى فراغ في العديد من الأعمال.
فقوة العمل غير السعودية، تتركز في قطاع الإنتاج والتشييد بنسبة 41.07%، ثم قطاع الخدمات، وتأتي المهن الإدارية في الحد الأدنى بنسبة 1.14%. في حين أن قوة العمل للسعوديين بصفة رئيسية في ثلاثة قطاعات مهنية وهي الخدمات، والتي تعتبر الأعلى بنسبة 28.69%، ثم المهن الفنية والعلمية بنسبة 27.98%، وأخيرًا المهن الإدارية، وهي الأدنى بنسبة 3.56%. فهل يمكن أن يحدث اجتذاب للعمالة السعودية من القطاعات المتواجدين بها إلى قطاع البناء والتشييد مثلا أو قطاعات التجزئة والجملة.
يبدو هذا الأمر محض خيال! فبالاعتماد على نتائج بحوث سابقة في السعودية، فإن نسبة التعلم بين السكان السعوديين داخل قوة العمل بلغت 96.5%، وسجلت نسبة التعلم بين الذكور 96.1%، وللإناث بلغت 98.5%.
فالمواطن لا يتخيل نفسه وهو يعمل عامل نظافة أو عامل بناء ولا حتى عامل توصيل طلبات الطعام للمنازل أو مثلا بائع في محال التجزئة وما شابه وأعمال كثيرة أخرى يشغلها العمال الأجانب، فالمواطن يتجنب الدخول في هكذا أعمال لأنها لا تليق به بالدرجة الأولى كما يرى مراقبون، بسبب الثقافة والرفاه الاجتماعي الذي عاشه المواطن طيللة العقود الماضية، ولأن معاشات تلك الأعمال متدنية مقارنة مع أعمال أخرى قد يعمل بها. وهذا ما سيفرض تحدي على الحكومة قد يعرضها للمزيد من المشاكل.
سيناريوهات الاقتصاد بعد مغادرة الوافدين
قد يدخل الاقتصاد السعودي في عدة سيناريوهات لو خرج العمال الأجانب من السعودية، إحدى تلك السيناريوهات، هو أن تفتح تلك السياسات الباب أمام تجار الأزمة وتؤدي لخلق سوق سوداء للعمالة الوافدة، وفي هذه الحالة عوض أن تكون تكلفة العمالة في البلاد التي تقدر بـ1.17 دولار للساعة فقد ترتفع إلى أرقام أعلى بسبب ظروف العمل غير القانونية، لتتساوى مثلا مع المكسيك البالغة تكلفة الساعة هناك 2.63 دولار. وهذا له أثر على ارتفاع تكاليف العمل التشغيلية وبالتالي على المخرج النهائي من المنتجات والخدمات وهو ما قد يدفع إلى ارتفاع المعدل العام للأسعار.
لا يكفي اعتماد سياسات تؤدي في نهاية المطاف إلى تهجير العمالة الأجنبية، هذا الأمر لا يحمي الاقتصاد ولا يحل مشكلة البطالة في البلاد.
سيناريو آخر، قد يحدث في حال تم تشديد الرقابة على القطاعات ولم تستطع توظيف عمالة أجنبية بشكل قانوني أو غير قانوني، إذ ستضطر لرفع تكلفة الساعة للمواطن للقدوم والعمل، وهذا سيؤثر على تكاليف التشغيل ويخفض من ربحية العمل نفسه لدرجة قد تدفع ببعض الأعمال للإغلاق لعدم تحمل التكاليف التشغيلية.
ثم إن القطاع الخاص غير معني برسوم الوافدين وإصلاح العجز في الميزانية العامة لدى الدولة، ويرى باحثون أن هناك نتائج عكسية ستطال تطبيق الرسوم، والضرائب ورفع الدعم على المجتمع، وأهم تلك النتائج تحمل المواطن وبشكل غير مباشر للرسوم الجديدة، لذا سيعمل القطاع الخاص على ترحيل تلك التكاليف إلى المستهلك وبالتالي سيرتفع المستوى العام للأسعار ليتأثر بهذا المواطن والوافد.
وفيما يخص معالجة ارتفاع معدلات البطالة، تشير توقعات بأن يشهد الاقتصاد السعودي أكبر تباطؤ في النمو منذ الأزمة المالية العالمية 2008، ومن المتوقع أن ينمو الاقتصاد بنسبة 1.5% فقط خلال العام الجاري، وهذا يهدد الخطط الحكومية لتنويع مصادر الدخل وسعودة الوظائف ويضعها على المحك.
لمواطن لا يتخيل نفسه وهو يعمل عامل نظافة أو عامل بناء ولا حتى عامل توصيل طلبات الطعام للمنازل أو مثلا بائع في محال التجزئة وما شابه وأعمال كثيرة أخرى يشغلها العمال الأجانب
كما يمكن أن يؤثر على قطاعات مهمة مثل الطب والهندسة واختصاصات علمية أخرى، فبالنظر إلى قطاع الطلب مثلا سنجد أن نسبة الأطباء السعوديين على الوافدين تبلغ 23.5% في العام 2014 فالعدد الإجمالي للأطباء السعوديين والوافدين يصل لنحو 81500 ألف طبيب يعملون في كافة القطاعات الصحية سواء التابعة للوزارة أو القطاع الخاص والأجهزة الأخرى، ويبلغ عدد السعوديين من هذا الرقم 19500 طبيب فقط والباقي كلهم أجانب.
فإذا أدت سياسة الحكومة إلى آثار سلبية في هذا القطاع فإنه سيواجه عجز هائل قد يؤثر على الحالة الطبية في البلاد بالعموم. وقد كانت وزارة العمل السعودية، أوقفت في مايو/ أيار الماضي، استقدام أطباء أسنان أجانب من الخارج، لإتاحة فرص العمل للأطباء السعوديين والسعوديات، مع العلم أنه لا تتوفر أرقام رسمية لعدد أطباء الأسنان المواطنين في السعودية، أو نسبة البطالة بين صفوفهم.
أخيرًا فإنه بالنظر إلى التقارير الواردة التي تفيد بخروج أرقام كبيرة من الوافدين من عمال وأسر له انعكاسات سلبية على الاقتصاد بالمحصلة، وإنه كان الأجدى بالحكومة أن تطبق هذه السياسة عبر آلية طويلة الأمد لتجنب أي خسائر أو صدمات تطال الاقتصاد والمواطن والوافد على حد سواء. بحيث تبدأ بتغيير الثقافة السائدة في المجتمع عبر تغيير المناهج وتوجيه الطلاب نحو قطاعات العمل التي تفتقر للعمالة الوطنية وتكثر فيها العمالة الأجنبية بحيث يتم التوقف عن استقبال العمال الجدد لتطبيق السعودة بشكل تدريجي.