نشرت مؤسسة الفرقان، الذراع الإعلامية لتنظيم الدولة، في 4 يناير/ كانون الثاني 2024، كلمة صوتية للمتحدث باسم التنظيم أبو حذيفة الأنصاري بعنوان “واقتلوهم حيث ثقفتموهم”، وهي الرسالة الثانية للأنصاري منذ رسالته الأولى في 3 أغسطس/ آب 2023، والتي أعلن فيها أن أبو حفص القرشي سيكون الخليفة الخامس بعد وفاة سلفه أبو الحسين، الذي قُتل في اشتباكات مع هيئة تحرير الشام بإدلب.
تطرّق الأنصاري في رسالته الصوتية الجديدة إلى الحرب على غزة، وذكر أنه يريد إيصال وصية “الخليفة” إلى المسلمين، قائلًا إن الأخير يحثّهم على الاستنفار وتقديم الدعم لشعب غزة، ومهاجمة اليهود في جميع أنحاء العالم.
ورغم أن الأنصاري لم يذكر حماس بالاسم، لكنه انتقد مواقفها ضمنيًّا، إذ ندّد بـ”تحالفها مع النظام الإيراني”، واعتبره بمثابة “خطيئة تاريخية” مكّنت النظام الإيراني من وضع نفسه كمدافع عن القضية الفلسطينية.
كما حذّر من السياسيين الفلسطينيين، وحطَّ من قدر محمود عباس ومحمد دحلان إذ اعتبرهما “وكلاء لأمريكا”، وأيضًا انتقد خطابات فصائل المقاومة الفلسطينية، والتي بحسبه لم ترتفع عن سقف التراب أو الطين، مضيفًا أن المعركة ضد اليهود يجب أن تكون دينية في ضوء القرآن، وليست معركة في وحل القومية أو الوطنية، إذ يرى أن المعركة تدار حاليًّا وفقًا “للكتب السياسية الجوفاء، والمراجع الوطنية العوجاء، والشرعية الدولية وقوانينها الجاهلية”.
وتأسّف الأنصاري أن تراق دماء المقاتلين تحت راية حماس وغيرها من الفصائل، والذين يُطلق عليهم جنود “المحور الوهمي”، لذا دعا الفصائل الفلسطينية بنبرة عاطفية إلى تصحيح المسار، والالتحاق بصفوف الجهاد الحقيقي.
ثم في معرض حديثه عن موقف الحكّام العرب من الحرب على غزة، اعتبرهم الأنصاري متواطئين مع الغرب و”إسرائيل”، ودعا إلى قتالهم، كما حثَّ المسلمين المقيمين في الولايات المتحدة وأوروبا على تنفيذ هجمات دعمًا لغزة، وشدد على أن المواقع الدينية، مثل الكنائس والمعابد اليهودية بجانب البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية، لها الأولوية القصوى، وفي الواقع قدّم وصفًا للأهداف والتكتيكات المقترحة.
نبرة الأنصاري في كلمته الأخيرة كانت قوية للغاية، فبعد سنوات من الصمت النسبي، جادل بأن التنظيم لا يزال قويًّا وأن طريقه وأهدافه تظل كما هي، كما أشاد بعمليات التنظيم الأخيرة في مناطق مختلفة، مؤكدًا أنه رغم مرور التنظيم بنوازل تنهد لها الجبال، فإن الجماعة لن تتخلى أبدًا عن القتال، وستواصل ولايات الخلافة معركتها في شرق الأرض وغربها.
وفي ختام كلمته، أعطى الأنصاري الضوء الأخضر لـ”جند الخلافة” لانطلاق غزوة “واقتلوهم حيث ثقفتموهم”، داعيًا الله أن ينصرهم ويثبّتهم، والتي كانت بالفعل عنوان هجمات التنظيم في الأيام التالية.
الخروج من نطاق الجغرافيا الثابتة: محاولات الأحياء
بعد الهزيمة التي مُني بها تنظيم الدولة خلال معارك الموصل والرقة فترة 2016-2019، انهارت سيطرته المكانية، وكان سقوط الباغوز آخر معاقله الميدانية في سوريا بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير في سلسلة الهزائم، إذ لم يعد يسيطر على أي منطقة في العراق أو سوريا، وعندها أمل الكثيرون أن يتبدد الكابوس الذي يشكّله التنظيم والأفرع الموالية له.
فقد تعرّض “داعش” بالفعل لانتكاسات وضغوط شديدة، وبالأخص الاستهداف المستمر للقادة الميدانيين واللوجستيين، وفقدان الموارد والسيطرة على الأرض، وانخفاض مصادر الدعم المالي التي كانت تملأ خزائنه في السابق، بجانب عدم قدرته على جذب مقاتلين جدد.
لكنه حاول في السنوات الأربع التي تلت هزيمته إعادة إحياء نفسه، وغيّر هيكل القيادة وعدّل تكتيكاته وتكيّف وفقًا للظروف ومقتضيات الواقع، وفي بعض الأحيان حدّ من هجماته لإعادة تنظيم صفوفه، لكنه ظلَّ يواجه تحديات وعقبات مستمرة، خصوصًا أن لديه مجموعة واسعة من الأعداء في جميع أنحاء المنطقة وخارجها.
لقد حاول تنظيم الدولة 5 مرات تجديد نفسه في سوريا والعراق، وتماهى مع الوضع الجديد واستوعب تأثير استنزاف القيادة، واستمر من وقت إلى آخر في شنّ هجمات كرّ وفرّ محدودة ضد أعدائه في سوريا والعراق، كما حاول تحرير مقاتليه المحتجزين في السجون، واستغلال الفجوات الأمنية.
ومع ذلك، هدأت وتيرة الهجمات عن السابق بكثير، وفشل التنظيم في العودة إلى وضعه الذي كان عليه قبل عام 2019، وكانت عمليات التنظيم كل عام في انخفاض مستمر، ووصلت إلى أدنى مستوياتها عام 2023.
على سبيل المثال، انخفضت هجمات التنظيم في العراق بنسبة 65% مقارنة بعام 2022، وفي سوريا انخفضت بنسبة 60%، أيضًا في عام 2023 انخفضت الهجمات التي تشنّها الفروع المختلفة للتنظيم على مستوى العالم أكثر من النصف، مقارنة بالعام السابق.
تعرّض تنظيم الدولة لضغوط متزايدة لتحقيق مكاسب كبيرة، وتدهورت قدرته على تخطيط وتنفيذ هجمات واسعة، كما اضطر للجوء إلى أسلوبه القديم كحرب العصابات، والاحتفاظ بخلايا نائمة وقيادات سرّية، وأصبح “أقل هرمية وأكثر شبكية ولا مركزية”.
ثم سرعان ما أثبتت الأيام الأولى في عام 2024 أن التنظيم يمتلك خبرة كبيرة، فهو لا يحاول فقط العودة إلى الظهور في هذه الفترة الحرجة، بل لا يزال قادرًا على تنفيذ هجمات واسعة، واستغلال التوتر الإقليمي ونقاط الضعف والثغرات السياسية والأمنية، وقد يقلب الطاولة على أعدائه.
الأيام الحمراء: هجمات التنظيم في الأيام الأولى لعام 2024
على عكس الهدوء النسبي الذي ساد العام الماضي، شهدت الأيام الأولى من العام الجديد تحركات قوية لتنظيم الدولة، وتصدّر مجددًا عناوين الأخبار الدولية.
خلال فترة 1-12 يناير/ كانون الثاني، شنّ تنظيم الدولة 109 عمليات مميتة واشتباكات، وتبنّى مسؤوليته عن كل هذه العمليات، ونشر تقارير وصورًا للعديد من هذه الهجمات، والتي توزّعت كالتالي:
17 عملية في العراق وقعت في مناطق الأنبار وصلاح الدين وديالى وكركوك وشمال بغداد؛ و37 عملية في سوريا وقعت في مناطق دير الزور والرقة وحمص وحلب؛ و49 عملية نفّذتها الفروع الأفريقية الخمسة للتنظيم (نيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وموزامبيق والصومال ومالي)؛ ثم 4 عمليات في أفغانستان وباكستان، وعملية واحدة في الفلبين، وفي إيران عملية واحدة كذلك.
ويلاحَظ أن أكثر فروع التنظيم نشاطًا في بداية هذا العام وحتى اللحظة هو فرع سوريا، ثم الفروع الأفريقية، ومن اللافت أن نشاط تنظيم الدولة توسّع بشكل كبير في أفريقيا، وبالأخصّ في موزمبيق وفي شرق مالي بالقرب من الحدود مع النيجر.
وقد تنوّعت عمليات التنظيم ما بين الاشتباك والاستيلاء على بعض المدن في أفريقيا، أو تنفيذ عمليات كرّ وفرّ وزرع ألغام في مناطق متفرقة مثلما حدث في العراق وسوريا، وبدأ التنظيم أول هجماته هذا العام على “قسد”، ونفّذ ضدها خلال 5 أيام 6 عمليات ضمن مناطق سيطرة الأخيرة، وما زالت الاشتباكات على أشدّها حتى اللحظة، وحسب رواية التنظيم استهدف في 11 يناير/ كانون الثاني نقاطًا عسكرية لـ”قسد” في عدة مناطق، وقتل وأصاب 6 أفراد.
كذلك كثّف التنظيم هجماته المباغتة ضد مواقع ونقاط عسكرية تابعة لقوات النظام والميليشيات الموالية له، حيث نفّذ 12 عملية واشتباكًا اندلعت في بادية دير الزور وبادية حمص وبادية الرقة.
وما زال التنظيم حتى الآن يصعّد من هجماته، إذ أعلن منذ يومَين استهدافه قوات النظام بهجومَين منفصلَين، الأول في بادية تدمر في ريف حمص، والثاني غرب مدينة السخنة شرق مدينة حمص، ما أسفر عن مقتل وإصابة أكثر من 35 عنصرًا من قوات النظام.
وبحسب المرصد السوري، استقدمت قوات النظام تعزيزات عسكرية إلى محاور الاشتباك، وأسفر مجموع هجمات “داعش” عن مقتل وإصابة أكثر من 86 من قوات النظام والمسلحين الموالين له.
وتبنّى التنظيم استهداف دورية للقوات الروسية بعبوة ناسفة بين قريتَي السلحبية وطويحينة غرب مدينة الرقة، ما أسفر عن إعطاب مدرّعة روسية، وردَّ الروس من خلال طائراتهم الحربية، والتي نفّذت عدة غارات جوية قالت إنها استهدفت مخابئ لـ”داعش”.
أما في العراق، فقد دخل التنظيم في عدة اشتباكات مميتة مع الجيش العراقي، وعلى إثرها قتل الأخير 4 من عناصره، وقال إن طائراته قصفت 3 مخابئ لـ”داعش” في محافظة ديالى، وفي أربيل اجتاح التنظيم موقعًا للحشد الشعبي الموالي لإيران، ودخل في مواجهات معه وقتل اثنين من مقاتلي الحشد وأصاب 3 آخرين.
يبدو أيضًا أن تنظيم الدولة يسعى إلى توسيع نطاق الحركة في المواجهة، إذ تحرك التنظيم بشكل لافت على مستوى فروعه الإقليمية، ففي الفلبين نصب التنظيم كمينًا للمخابرات العسكرية وقتل اثنين، واستطاع الجيش الفلبيني إحباط هجوم آخر للتنظيم.
وفي ليبيا، أعلن جهاز الردع إلقاء القبض على مسؤول في “داعش”، وقال في بيان له إن التنظيم عيّن مسؤولًا جديدًا في ليبيا يعرَف بـ”خبيب”، كان يسهِّل دخول المقاتلين إلى ليبيا.
أيضًا أكثر تفجير حظيَ بمتابعة اعلامية كبيرة، هو التفجير الذي تم في مدينة كرمان الإيرانية، والواقع أن التنظيم نجح في إرباك أجهزة الاستخبارات والأمن الإيرانية.
وخلال أسبوع واحد، أعلن التنظيم مسؤوليته عن 3 انفجارات متفرقة في العاصمة الأفغانية، ما أسفر عن مقتل وإصابة ما يزيد عن 40 شخصًا، كما هاجم بعض النقاط على الحدود الباكستانية، وقتل وأصاب نحو 30 فردًا من الشرطة الباكستانية، بجانب قيامه بهجمات متفرقة واستيلائه على بعض القرى في نيجيريا والكاميرون والنيجر والكونغو.
ويبدو أيضًا أن التنظيم حاول تنفيذ هجمات في تركيا، إلا أن مخططاته أُحبطت في الأيام الأخيرة، حيث نفّذت قوات الدرك في ولاية تكيرداغ حملة مداهمات، ألقت خلالها القبض على 3 أعضاء من التنظيم.
ما يلفت الانتباه في هجمات تنظيم الدولة الأخيرة هو ترابط سلسلة هذه العمليات، وآلية التواصل والتنسيق التي يستخدمها، فرغم أن التنظيم يعتمد على نهج الخلايا المستقلة، لكن تُظهر هذه الهجمات أن هذه الخلايا تربطها استراتيجية، ما مكّنها من شنّ هجمات متلاحقة في أقل من أسبوعَين وفي أكثر من مكان، ما يدلّ أيضًا على أن التنظيم دبّر خطة هجوم كبيرة، استهدفت بشكل استراتيجي أماكن مختلفة، وربما يحضّر لعمل كبير.
أيضًا من اللافت في هذه العمليات، خصوصًا في العراق وسوريا، أنها جميعها اعتمدت على المباغتة وقتال الاستنزاف وتجنُّب المواجهات المباشرة، ويظهر أن التنظيم أقام خيوط وجيوب في عمق الصحراء، لذا من الواضح أنه سيعتمد في الفترة القادمة على استراتيجية “الالتجاء والعمق في الصحراء”، بعد أن يأسَ من محاولاته الفاشلة في التمكُّن على الأرض من جديد.
بجانب أنه استطاع من خلال هذه الهجمات تمويل وتسليح نفسه، من خلال الغنائم والاستيلاء على الآليات والذخائر والأسلحة التي حصل عليها عبر مهاجمة الحواجز العسكرية، لذا من المحتمل أن يكرر هذا النمط، وتشير بعض التقارير إلى أن الزعيم الجديد لتنظيم الدولة قائد مخضرم، وكان يعمل في الهيئة العسكرية للتنظيم.
ترسانة المظالم: لماذا صعود تنظيم الدولة نتيجة منطقية؟
الواقع أن هجمات “داعش” لم تأتِ من فراغ، وإذا أخذنا على سبيل المثال التفجير الذي استهدف النصب التذكاري للجنرال قاسم سليماني، فدلالة اختيار الهدف والموقع والتوقيت تنطوي على رمزية كبيرة، حيث برر التنظيم التفجير باتهام سليماني بأنه متورّط في قتل الآلاف في العراق وسوريا.
إن تفجيرات كرمان ليست أول هجوم كبير يشنّه “داعش” ضد إيران، لكنه في الحقيقة يبعث برسالة قوية عن المظالم السياسية والاجتماعية الأخيرة لطهران، وفي الواقع ينسب المسؤولون الإيرانيون الفضل إلى سليماني في لعب دور رئيسي في سوريا والعراق، إذ تدخّل الحرس الثوري في سوريا وعمل لسنوات مع الميليشيات المسلحة التي حاربت الثورة السورية، وتنسب إيران الفضل إلى سليماني في تحالف الجماعات الشيعية في المنطقة، والقضاء على “داعش” في سوريا والعراق.
من المهم الإشارة إلى أن كلمة “إرهاب” تحجّم وتخفي أشياء كثيرة، تنظيم الدولة هو بالأساس انعكاس لفشل الأنظمة العربية التي تعيش على القمع والاستبداد، فالتهميش ودفن العدالة وغضّ الطرف عن الجرائم، وإعادة تأهيل وتصدير نظام بشار والاعتراف به، بجانب البيئة السياسية المتهالكة -خصوصًا في سوريا والعراق-، كل هذه العوامل ما زالت مواتية لصعود التنظيم.
من المؤسف أن المشهد لم يتغير فيه أي شيء، والأسباب الجذرية التي أدّت إلى ظهور تنظيم الدولة ما زالت موجودة حتى اليوم، وفي مقدمتها السياسة الإيرانية التي تركت إرثًا هائلًا من المظالم، وخلقت مستقبلًا لا مكان فيه لشعوب الجوار، كما استخدمت قضايا الطائفية لخلق بيئة قابلة للاشتعال.
مع العلم أن جيلًا بأكمله يعيش في مخيمات بائسة تفتقر إلى مقومات العيش الضروري، وبالتالي كل ذلك قد يؤدّي إلى انفجار اجتماعي يستفيد منه التنظيم ويعيد ترتيب نفسه مجددًا، مثل عام 2013، خصوصًا أن التنظيم لا يزال يحمل إصرارًا وطموحات كبيرة للعودة.