“إن الوصول إلى قطاع غزة عبر معبر رفح تسيطر عليه مصر، وليس على إسرائيل أي التزام في ذلك بموجب القانون الدولي”.. وضعت تلك الكلمات التي قالها عضو الفريق القانوني لدولة الاحتلال، كريستوفر ستاكر، خلال مرافعته أمام محكمة العدل الدولية ضد الدعوى التي تقدمت بها دولة جنوب إفريقيا، التي تتهم فيها تل أبيب بارتكاب جرائم إبادة في قطاع غزة، القاهرة في موقف حرج سياسيًا وأخلاقيًا أمام الشعوب العربية والإسلامية على حد سواء.
الكلمات تحمل في مضمونها اتهامًا مباشرًا لمصر بمنع دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى قطاع غزة ومشاركتها بصفة رئيسية في الحصار المفروض على أكثر من مليوني فلسطيني يواجهون كارثة إنسانية غير مسبوقة تهدد حياتهم، هذا بخلاف ما تحمله من تكذيب للمبررات التي ساقتها القاهرة منذ بداية الحرب بأن دولة الاحتلال هي السبب في عدم إدخال المساعدات للمنكوبين بالقطاع.
اتهامات – إذا ثبتت – قد تضع القاهرة تحت طائلة القانون بصفتها شريكًا أساسيًا في حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال ضد سكان غزة، وتضع في الوقت ذاته سمعة الدولة المصرية على المحك، الأمر الذي أثار حفيظة الجانب المصري الذي سارع بالرد، نافيًا تلك الاتهامات التي وصفها على لسان رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصرية (حكومية) بـ”الأكاذيب” .
لا يخفى على أحد تورط مصر في تشديد الحصار على قطاع غزة منذ عام 2019 وحتى اليوم في ضوء أكثر من مؤشر، لكن حين يأتي الاتهام بشكل مباشر من الحليف الإسرائيلي الذي يتمتع بعلاقات قوية مع النظام الحاكم في مصر، فالمشهد هنا يأخذ وضعية مغايرة، ويضع القاهرة في مأزق حقيقي.. فكيف يكون الرد؟
محامي إسرائيل في #محكمة_العدل_الدولية يحمل الحكومة في #مصر مسؤولية عدم دخول المساعدات ويقول أن الحدود بين مصر وغزة تقع تحت سيطرة مصر!!!
هذا اتهام خطير يضع مصر في خانة الاتهام أنها المسؤولة عن تجويع وتعطيش #غزة، وسيكون عاراً يطاردنا في التاريخ.
أتمنى أن تكذب الحكومة المصرية وعن… pic.twitter.com/kBfErmy8ZP— Mourad Aly د. مراد علي (@mouradaly) January 12, 2024
تل أبيب تُحرج القاهرة
لم تكن التصريحات الخاصة بمسؤولية السلطات المصرية عن معبر رفح وإدخال المساعدات لفلسطينيي القطاع هي الوحيدة التي أشار فيها الفريق القانوني لدولة الاحتلال لمصر خلال مرافعته أمام المحكمة الدولية، حيث ذكرها في مسألتين أخريين لا تقل حساسية عن تلك التي كشف عنها.
الأولى حين أشار إلى وجود غرفة عمليات مشتركة تضم دولة الاحتلال والولايات المتحدة ومعهما مصر وتجتمع بشكل دائم منذ بداية الحرب لاتخاذ القرارات بشأن المعبر ودراسة ما يجب إدخاله وما لا يجب وكيفية الدخول وتفاصيله، ثانيها أن مصر حصلت على موافقة الكيان المحتل قبل تشغيل خط المياه الواصل من الأراضي المصرية لغزة والذي دخل حيز التنفيذ قبل أسابيع قليلة.
الرابط بين تلك المسائل الثلاثة أنها جميعها تحمّل مصر المسؤولية، وتحولها إلى شريك محوري في فرض الحصار على القطاع وطرف أساسي في الكارثة الإنسانية التي يتعرض لها الغزيون طيلة 100 يوم، وهو ما يؤكد الشكوك التي انتابت البعض سابقًا بشأن تواطؤ مصري إزاء ما يحدث في غزة.
القاهرة تنفي
بعد تصريحه المقتضب الذي نفى فيه ما أسماه “كذب” الاحتلال في تلك المعلومات الواردة بالمرافعة، نشر رئيس الهيئة العامة للاستعلامات المصرية، على موقع الهيئة على منصات التواصل الاجتماعي، بيانًا تفصيليًا، استعرض فيه حيثيات إلقاء تل أبيب الكرة في الملعب المصري.
البيان أشار إلى أن “دولة الاحتلال عندما وجدت نفسها أمام محكمة العدل الدولية متهمة بأدلة موثقة بجرائم ضد الإنسانية، لجأت إلى إلقاء الاتهامات على مصر في محاولة للهروب من إدانتها المرجحة من جانب المحكمة”، منوهًا أن سيادة مصر تنحصر في الجانب المصري من معبر رفح فيما يخضع الجانب الآخر لسلطة قطاع غزة، والواقع عمليًا تحت سلطة الاحتلال، مستشهدًا على ذلك بـ”آلية دخول المساعدات من الجانب المصري إلى معبر كرم أبو سالم الذي يربط القطاع بالأراضي الإسرائيلية، حيث يتم تفتيشها من جانب الجيش الإسرائيلي، قبل السماح لها بدخول أراضي القطاع”.
ولفت رشوان (رئيس الهيئة ونقيب الصحفيين السابق) إلى أن القاهرة أعلنت أكثر من مرة بأن المعبر مفتوح من الجانب المصري دون انقطاع، وأن التعطيل يأتي من الجانب الإسرائيلي، موضحًا أن “العديد من كبار مسؤولي العالم وفي مقدمتهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش قد زاروا معبر رفح من الجانب المصري، ولم يتمكنوا من عبوره لقطاع غزة، نظرًا لمنع الجيش الإسرائيلي لهم، أو تخوفهم على حياتهم بسبب القصف المستمر على القطاع”.
وذكر رئيس الهيئة في بيانه أن الرئيس الأمريكي جو بايدن كان قد طالب سلطة الاحتلال بفتح معبر كرم أبو سالم لتسهيل دخول المساعدات، وهو ما أعلنه مستشاره للأمن القومي جيك سوليفان في 13 ديسمبر/كانون الأول الماضي، ما يؤكد سيطرة الاحتلال على معبر رفح من الجانب الفلسطيني والتحكم في عملية إدخال المساعدات.
وانتهى البيان إلى أن هناك 6 معابر تربط قطاع غزة بدولة الاحتلال غير معبر رفح، وكان يمكن استخدامها في إدخال المساعدات إذا كان لدى الكيان المحتل أي نية حقيقية في تخفيف الحصار المفروض، أو على الأقل فتحها للتجارة مع فلسطينيي غزة والتي أنعشت خزينة الاحتلال خلال عام 2022 بأكثر من 4.7 مليار دولار.
الاحتلال يغسل سمعته على حساب مصر
شهدت العلاقات بين القاهرة وتل أبيب في عهد النظامين الحاكمين حاليًا في كلا البلدين تطورات لم تعرفها على مدار تاريخها، حيث بلغت مستويات من التناغم والانسجام وتوافق الرؤى تجاوزت تلك التي كانت عليها عند إبرام اتفاق السلام عام 1979.
وانعكست تلك التفاهمات على العديد من القرارات والممارسات الأمنية والاقتصادية والسياسية كان لها تبعاتها السلبية بطبيعة الحال على القضية الفلسطينية بوجه عام، وقطاع غزة على وجه الخصوص، لا سيما ما حدث في 2019 حين سمح الجانب المصري للطيران الإسرائيلي بدخول سيناء بزعم معاونته في استهداف الجماعات المسلحة هناك، حيث عبّد المصريون الطريق أمام الاحتلال لإغراق الأنفاق مع القطاع وإبادتها بشكل كامل بعد إخراج سكان رفح من منازلهم لتهيئة المجال نحو إنفاذ المهمة على أكمل وجه.
بعد الاتهامات الإسرائيلية لمصر بأنها هي من يغلق معبر رفح ، أصبح فتحُ المعبر وبشكل فوري أداةَ الدفاع الوحيدة لدى النظام المصري لحماية نفسه من الملاحقة، كي لا يجد نفسه في محكمة العدل الدولية شريكا لإسرائيل في جرائم الإبادة.. #افتحوا_المعبر pic.twitter.com/hg4LE8veW1
— خديجة بن قنة khadija Benganna (@Benguennak) January 13, 2024
كما تعهد رأس النظام الحاليّ بنفسه خلال حوار متلفز له بعدم السماح للأراضي المصرية بأن تشكل تهديدًا لأمن الإسرائيليين في إشارة إلى مسألة الأنفاق التي كانت المتنفس الوحيد للمقاومة وسكان القطاع بصفة عامة، الأمر الذي تعزز ببناء جدار خرساني بين القطاع والحدود المصرية.
ورغم كل تلك الخدمات التي قدمتها القاهرة لدولة الاحتلال التي كانت تنظر للنظام المصري بصفته الحليف الأكثر موثوقية، فإن ذلك لم يشفع له، حيث تعرض لطعنة كبيرة أمام محكمة العدل الدولية، حين أراد الاحتلال غسل سمعته وتبرئة ساحته على حساب الجانب المصري وأشار إلى أنه المسؤول عن حصار الغزيين وتجويعهم وليست العراقيل التي وضعها الجيش المحتل كما كان يروج الخطاب المصري الرسمي.
خيارات القاهرة.. تبرئة السمعة أو تأكيد شكوك التواطؤ
بعيدًا عن المساعدات التي قدمها النظام المصري لدولة الاحتلال على مدار السنوات الماضية في تقليم أظافر المقاومة عبر تشديد الحصار على القطاع في ضوء التفاهمات الأمنية والسياسية بين البلدين، فإن تعريض الكيان الإسرائيلي لسمعة مصر للاستهداف على الملأ أمام المجتمع الدولي، فضلًا عن الشارع العربي والإسلامي، مسألة تحتاج إلى رد صارم وسريع، عبر عدة وسائل أبرزها:
– تصريحات بهذا الحرج تمس السيادة المصرية في المقام الأول لا يمكن أن يكون الرد عليها من خلال بيان لرئيس الهيئة العامة للاستعلامات الذي تنحصر مهامه في الرد على وسائل الإعلام الأجنبية وتصحيح ما يرد بها من معلومات مغلوطة بشأن الدولة المصرية، كما ذهب الإعلامي المصري حافظ المرازي الذي أشار في تغريدة له على منصة “إكس” إلى ضرورة أن يكون الرد رسميًا عبر الحكومة المصرية في حديث واضح للشعب المصري الذي من حقه معرفة موقف بلاده من غزة أو “إسرائيل”، لافتًا إلى أن “النفي يجب أن يأتي واضحًا على لسان وزيري الدفاع والخارجية بعد رئيس الجمهورية، ولا أقل من ذلك!”.
دور الهيئة العامة للاستعلامات المصرية منذ إنشائها عام 1954 مع تولي عبد الناصر رئاسة الجمهورية هو الرد على الإعلام الأجنبي والتعامل مع مراسليه. لكن اتهام إسرائيل لمصر في محكمة العدل الدولية بمسئوليتها عن عدم توصيل المساعدات لغزة عبر معبر رفح، يجب أن ترد عليه الحكومة المصرية في… pic.twitter.com/rKj33OI3uQ
— حافظ المرازي (@HafezMirazi) January 12, 2024
– يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، حسن نافعة، أن “إسرائيل” بتلك التصريحات ألقت الكرة في الملعب المصري، مشددًا على ضرورة أن ترد القاهرة الصاع صاعين، وذلك من خلال “أن تفتح معبر رفح بشكلٍ دائم لدخول كل قوافل المساعدات المتراكمة أمامه، وإلا ستكون مصر متواطئة وشريكة في جريمة الإبادة الجماعية”.
– فيما تحفظ المحلل السياسي الفلسطيني ياسر الزعاترة، على ما أسماه “التبرير التقليدي” المصري بشأن الخوف من قصف شاحنات المساعدات إذا لم يوافق عليها الكيان المحتل، لافتًا إلى أن هذا التبرير قد يكون مقبولًا من دولة صغيرة وليس دولة بحجم مصر، أكبر دولة عربية، ولا يجب أن تنصاع هكذا للعراقيل الإسرائيلية.
وأضاف الزعاترة في تغريدة له على حسابه على منصة “إكس”: إذا صحّت المخاوف المصرية السابقة.. لماذا لا تستغل السلطات هذا الكلام من مندوب “الكيان”، فتبدأ في إدخال المساعدات دون إخضاعها للتفتيش من أجهزته، الأمر الذي يؤخّرها ويعيق وصولها، ثم يُخضعها لمزاجه؟!
جدل "معبر رفح" إذ يتردّد في "محكمة العدل الدولية".
مندوب "الكيان" قال بالنص إن "الوصول إلى غزة من مصر يخضع لسيطرة مصر".
رئيس الهيئة العامة للاستعلامات في مصر (ضياء رشوان) قال إن "تهافت وكذب الادعاءات الإسرائيلية يتضح في أن كل المسؤولين الإسرائيليين، وفي مقدمتهم رئيس الوزراء…
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) January 12, 2024
– وضعت تصريحات الاحتلال القاهرة في اختبار صعب، إما أن تثبت للعالم كذب تلك الادعاءات كما جاء في بيان رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، وذلك من خلال فتح المعبر وإدخال المساعدات المتكدسة في سيناء ومدينة رفح لكل مناطق القطاع دون قيد أو شرط، وأن يتم ذلك عبر بث مباشر بالصوت والصورة وعلى مرأى ومسمع من العالم، وإما التأكيد على ما جاء في تلك الاتهامات وهنا تكون متورطة في جرائم الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة.
تغطية صحفية| مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان تطالب السلطات بالرد على مزاعم الاحـ تلال الإسرائيلي حول مصر، بفتح معبر رفح بالكامل وإدخال كافة المساعدات المكدسة في الجانب المصري
برأيك هل تنفذ الحكومة تلك المطالب؟ pic.twitter.com/I5uQTGey6b
— شبكة رصد (@RassdNewsN) January 13, 2024
– يمكن لمصر إذا أرادت أن تنفض يديها من غبار المؤامرة وتنضم لدعوى جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية في اتهام الاحتلال بارتكاب جريمة إبادة جماعية بحق سكان غزة، وهو الانضمام الذي يعطي للدعوى ثقلًا كبيرًا، بصفة أن مصر دولة موقعة على اتفاقية الإبادة الجماعية، بما يمكنها رفع دعوى جديدة أو الانضمام إلى أخرى لاحقًا بعد بدء إجراءاتها الأولية وفق نظام محكمة العدل الدولية مثلها مثل أي دولة عضو في الأمم المتحدة، كما أشار الخبير الحقوقي المصري ناصر أمين.
ومما يعزز دوافع القاهرة للانضمام إلى تلك الدعوى تضررها الكبير من جرائم جيش الاحتلال، “فهي الهدف الرئيسي لدولة الاحتلال الإسرائيلي بأنها تسعى إلى تهجير سكان غزة إلى سيناء، وبالتالي فإنها متضررة من الحرب، لأن معبر رفح تم قصفه 4 مرات، وبالتالي فإن مصر متضررة بشكل مباشر من الإبادة الجماعية” وفق ما ذهب أستاذ ورئيس قسم القانون العام وأستاذ القانون الدستوري بجامعة القاهرة، رأفت فودة.
في الأخير.. هي فرصة تاريخية دون شك للجانب المصري لتبرئة ساحته من دماء الأطفال والنساء وكبار السن في فلسطين من جانب، وتصحيح الصورة المشوهة بشأن تماهي القاهرة مع السردية الإسرائيلية فيما يتعلق بحصار القطاع والعمل على تصفية المقاومة من جانب آخر.. فهل تستغل القاهرة تلك الفرصة التي قدمها الاحتلال على طبق من ذهب أم تُحول شكوك المؤامرة والتواطؤ إلى يقين لا يقبل التأويل؟