لم تعد سياسات الدول تعتمد على “قوة التسلح” فقط، بل باتت تعتمد على مدى تحلي الدول بالقوة الناعمة التي تشمل الإعلام، الاستثمارات الاقتصادية، الاستثمارات التعليمية والثقافية، الترابط الثقافي التاريخي، وغيرها.
كذلك، لم يعد الاقتصاد يعتمد على عناصر أو أصول تقليدية (رأس المال، الأرض، العمال) فقط، بل تحول تحولًا جذريًا ليصبح من اقتصاد يعتمد على رأس المال إلى اقتصاد يعتمد على المعرفة ونوعية العقول البشرية والمعلومات والبحث والتطوير التكنولوجي، وبات يُطلق على هذا الاقتصاد المتطور اسم “اقتصاد المعرفة”.
تنشأ أصول اقتصاد المعرفة من مراكز التطوير الداعمة للابتكار، والتعليم الرامي إلى رفع الإنتاجية وإنتاج التنافسية الاقتصادية، والبنية التحتية المؤهلة لتوفير تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والأطر السياسية والقانونية الداعمة لحقوق الاختراع وترويجها، وبدا واضحًا أن الدول البارعة في هذا المجال كالولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وغيرها، هي الأكثر مواكبة للتطور ورفع مستوى النمو والتنمية الاقتصاديين.
وفي إطار هذا الطرح الذي يُبين أن الاستثمار في التعليم أحد روافع القوة الناعمة والاقتصاد المعرفي، عند الاطلاع على الاستثمار التركي في مجال التعليم، هل نجد مؤشرات تبرز جهودًا بائنة لتركيا في هذا الإطار؟ وإن وُجدت فما مردود الاستثمار في التعليم على تركيا؟
ثلة من المؤشرات يمكن الاعتماد عليها، لإظهار محاولة تركيا الاستثمار في إيجاد تعليم نوعي، غير أن المؤشرات أدناه الأوفر حظًا في إظهار محاولات تركيا:
ـ منذ عام 2002، وتركيا تتبع سياسة فاعلة في الإنفاق على التعليم، وقد ارتفعت نسبة ما تنفقه تركيا عام 2017، لتصل إلى 20% من الموازنة العامة التي بلغ مجموعها 645 مليار ليرة (184 مليار دولار)، أي تنفق تركيا على التعليم ما يربو على 122 مليار ليرة (34 مليار دولار).
عدد الطلاب الأجانب في تركيا بلغ 795 ألف و962 طالبًا، وهذه ثروة عظيمة لتركيا
ـ بلغت مصروفات تركيا على البحث العلمي لعام 2017، والذي يمثل العنصر الأساسي في خلق الابتكار والتطوير واستقطاب العقول الأجنبية، 3.8 مليار ليرة (1.08 مليار دولار)، وقد حازت تركيا على المرتبة الثانية بعد الصين من حيث حجم نمو إنفاقها على البحوث العلمية.
ـ قُدرت براءات الاختراع التي يعود منشؤها إلى تركيا بـ5 آلاف، وبذلك حازت تركيا خلال عام 2016 على الدرجة الأولى في أوروبا والدرجة الخامسة عشر حول العالم، من حيث عدد براءات الاختراع.
ـ مؤسسات البحث العلمي: تؤدي مؤسسات البحث العلمي دورًا أساسيًا في تخريج المبتكرين والمبدعين، وفي ضوء ذلك، تحتضن تركيا عددًا واسعًا من المؤسسات الفاعلة في هذا المجال:
ـ مؤسسة تركيا للأبحاث التكنولوجية والعلمية “توبيتاك”: تدعم الأبحاث العلمية التكنولوجية التركية والأجنبية، وتتبنى المشاريع الإبداعية وتوجهها.
ـ أكاديمية تركيا للعلوم “توبا”: تدعم الأبحاث العلمية بتوجيه ومتابعة من قبل رئاسة الوزراء.
ـ مختبرات الجامعات الحكومية التي تتلقى دعمًا كبيرًا من الحكومة.
ـ مؤسسة اللغة التركية: تدعم المشاريع الثقافية وتُدير الاستثمار الحكومي في مجال نشر اللغة التركية حول العالم.
ـ وقف الأبحاث البحرية: يدعم الأبحاث العلمية المختصة بتكنولوجيا رعاية الأحياء المائية والأبحاث الخاصة بتسريع اكتشاف مخزونات الطاقة البحرية.
ـ مركز مرمرة للأبحاث: يدعم الأبحاث العلمية بنواحيها كافة.
ـ شركة الصناعات الجوية والفضائية “توساش”: تدعم وترعى الأبحاث العلمية في مجال الصناعات الجوية والفضائية.
ـ افتتاح جامعات جديدة وتطوير نوعية التعليم: افتتحت الحكومة التركية في السنوات الأخيرة، 92 جامعة، ليصبح مجموع الجامعات فيها 168.
ـ استقطاب عدد واسع من الطلاب الأجانب للدراسة في تركيا: أشارت قناة إن تي في ـ المقربة للحكومة ـ أن عدد الطلاب الأجانب في تركيا بلغ 795 ألف و962 طالبًا، وهذه ثروة عظيمة لتركيا التي يمكن لها أن تعتبر كل طالب سفيرٍ لها في بلده.
ترمي الحكومة التركية الحالية إلى إعادة تركيا لموقعها الفاعل في المنطقة والساحة العالمية، والتي كانت عليه إبان الدولة العثمانية، وفي ضوء تحقيق ذلك، سخرت طاقتها في استثمار أساليب القوة الناعمة
ـ المهرجانات الثقافية: تُصنف المهرجانات الثقافية التي تقوي أواصر العلاقات الاجتماعية بين شعوب الدول، أحد أهم ركائز الاستثمار التعليمي، وتُذكر أهم المهرجانات الثقافية التي تُنظم في تركيا على النحو التالي:
ـ مهرجان أنقرة العالمي للموسيقى.
ـ مهرجان أنقرة العالمي للسينما.
ـ مهرجان إسطنبول العالمي للسينما.
ـ مهرجان إزمير العالمي للسينما.
ـ مهرجان أفلام الشرق الأقصى العالمي.
ـ مهرجان إزمير العالمي للتاريخ والسينما.
مردود الاستثمار في التعليم
تتنوع فوائد الاستثمار التعليمي على الصعيدين الداخلي والخارجي، غير أن أهم هذه الفوائد الملموسة
ـ على صعيد داخلي:
أولًا:منح عجلة التنمية المستدامة دفعة قوية: التعليم ذو النوعية الجيدة المشجعة على الابتكار بات أحد أقوى أدوات تنمية المعرفة التي ترفع من الإنتاجية المحاكية لمعايير المنافسة العالمية، وبالتالي النمو الاقتصادي، ومن ثم التنمية المستدامة التي تحد من الفقر وترفع أجور الحد الأدني وتقلص عدم المساواة، فكما يوفر التعليم النوعي “رأس المال البشري” الكفء في المجالات كافة، يرفع مستوى الإنتاج التكنولوجي الذي يعني تحويل المعرفة والمعلومة إلى صناعات ملموسة متطورة.
ثانيًا: ترسيخ فكرة الإيمان بالديمقراطية: الواعي والمثقف هو الذي يعي جيدًا حجم المكتسبات التي تعود عليه من نعيم الديمقراطية، ولعل خروج الشعب التركي بالآلاف بغية صد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 من تموز/يوليو، وانعدام هذا الموقف في مصر التي شهدت انقلاب 3 من تموز/يوليو، خير دليل على هذه النقطة.
ما زالت تركيا تُصنف على أنها إحدى الدول النامية التي تسعى للانضمام إلى ثلة الدول المتطورة، لذلك هي بحاجة إلى الاهتمام بشكل أكبر وأوسع بمجال الاستثمار التعليمي
ثالثًا: التقليل من الجنوح للعنف: فجميع الدراسات تُثبت أن المجتمع الواعي يفضل التعامل بالقانون والإجراءات الحقوقية على العنف.
ـ على صعيد خارجي
أولًا: بناء القوة الناعمة: ترمي الحكومة التركية الحالية إلى إعادة تركيا لموقعها الفاعل في المنطقة والساحة العالمية، والتي كانت عليه إبان الدولة العثمانية.
وفي ضوء تحقيق ذلك، سخرت طاقتها في استثمار أساليب القوة الناعمة المختلفة التي شملت الإعلام والثقافة والدعم التمويلي والنشاط الدبلوماسي، وغيرها.
وكان الاستثمار التعليمي والثقافي أحد أهم الأدوات التي اعتمدت عليها تركيا، لتأكيد أواصر الترابط بينها وبين شعوب الدول التي ترمي إلى التقارب معها، ولجذبهم سياحيًا واقتصاديًا وعلميًا لتركيا، ودفعهم للهتاف باسمها، ودعوتها للقدوم لبلادهم لعقد اتفاقيات سياسية واقتصادية تخدم، في نهاية المطاف، تركيا ومصالحها وطموحها.
ثانيًا: استقطاب العقول النابغة: بينما يأتي هذا السياق في إطار رفع مستوى القوة الناعمة، يصب في صالح التطور الاقتصادي والاجتماعي والفكري النوعي والكمي لتركيا، فكثير من الباحثين الفاعلين في المجالات كافة عندما يتم استقدامهم إلى تركيا، يعودون عليها بالرصيد الهائل من المعرفة.
في المحصلة، ما زالت تركيا تُصنف على أنها إحدى الدول النامية التي تسعى للانضمام إلى ثلة الدول المتطورة، لذلك هي بحاجة للاهتمام بشكل أكبر وأوسع بمجال الاستثمار التعليمي، لا سيما في مجال تعليم الطلاب الأتراك اللغة الأجنبية، وجوانب الانفتاح الثقافي على الآخرين، حتى تستطيع الظفر بالنتيجة الإيجابية التي ترنو إليها في مجال الاستثمار التعليمي.