تتجه العلاقة بين العراق والتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة إلى مزيد من التعقيد، إذ تؤكد الحكومة العراقية اعتزامها على إنهاء وجود التحالف الدولي على أراضيها، بينما تنفي واشنطن وجود أي خطط حاليّة للانسحاب من العراق.
غياب التوافق داخل الأحزاب العراقية الحاكمة ضمن الإطار التنسيقي، يثير الشكوك بشأن مدى استقلالية القرار العراقي، وتسعى الحكومة العراقية وسط هذه التطورات، إلى إضفاء شرعية على القرار بأخذ رأي العراقيين عبر روابط إلكترونية جرى إرسالها عن طريق الهواتف المحمولة.
في هذا السياق، أعلن رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني في 5 يناير/كانون الثاني الحاليّ، أن مبررات بقاء قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة في العراق قد انتهت، ولدى بغداد رغبة ثابتة ومبدئية في ترحيلها، وذلك بعد ساعات من تعرض أحد مقرات الحشد الشعبي في العاصمة بغداد لغارة أمريكية، أدت إلى اغتيال قيادي عسكري وعنصر في حركة النجباء المقربة من إيران.
استفتاء إلكتروني
يبدو أن حكومة السوداني دشنت أولى خطواتها باتجاه العمل على إخراج القوات الأمريكية، من خلال محاولة استثمار الزخم الشعبي عن طريق طرح استفتاء إلكتروني بشأن إنهاء مهمة التحالف الدولي في العراق.
أثارت الخطوة الحكومية انتقادات بعض السياسيين، إذ قال وزير الخارجية العراقية الأسبق هوشيار زيباري إن قيام بعض المنصات الحكومية باستفتاء المواطنين عن طريق الهاتف “بدعة”، مشددًا على أنّ هذه القرارات سيادية، حكومية وقانونية، وفيها التزامات دولية ولا يمكن إخضاعها لاستطلاعات شعبوية واسترضائية.
يصف أستاذ السياسات العامة في جامعة بغداد، ورئيس مركز التفكير السياسي الدكتور إحسان الشمري، الاستبيان بأنه جزء من إستراتيجية الحكومة العراقية لتجنب اتخاذ القرار والهروب إلى الأمام.
ويؤكد في حديثه لـ”نون بوست” أن مثل هكذا قرارات حساسة لا ترتبط باستفتاء، بقدر ارتباطها بصلاحيات وضعها الدستور العراقي لتنظيم مثل هكذا علاقات، لذا فهي خطوة غير موفقة. ويعتقد الشمري أن الغرض من هذا الاستطلاع هو استخدامه كورقة تفاوض مع الفصائل أو مع الإدارة الأمريكية، سواء مع أم ضد، حسب طبيعة نتائج هذا الاستفتاء.
وينوه إلى أن هذا الاستبيان تعرض لانتقادات واسعة كونه يعمل على تسطيح العقول العراقية، وسط تساؤلات عن حجم الأموال التي أهدرت لترويجه وما إذا كانت تحوم حوله شبهات فساد.
كما يستبعد الشمري حصول تفاعل شعبي مع الاستبيان الحكومي، بسبب النقمة الشعبية من الطبقة الحاكمة وغياب الثقة بنتيجة الاستفتاء، خاصة بعد الانتخابات الأخيرة وما شابها من شبهات تزوير وحرف مستوى التصويت.
موقف البنتاغون
في موقف يتعارض مع تصريحات الحكومة العراقية بشأن إنهاء الوجود الأمريكي، نفت وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون”، وجود خطط لسحب قواتها من العراق، إذ قال متحدث البنتاغون، الجنرال باتريك رايدر، خلال تصريحات صحفية في 8 يناير/كانون الثاني الحاليّ: “لست على علم بأي إخطار من بغداد لوزارة الدفاع بشأن قرار بسحب القوات الأمريكية”، وتحدث رايدر عن وجود تشاور وثيق مع الحكومة العراقية بشأن بقاء القوات الأمريكية وسلامتها وأمنها، كونها موجودة في العراق بدعوة من الحكومة هناك.
يأتي تصريح البنتاغون ليناقض تصريحات عراقية سابقة بخصوص تشكيل لجنة ثنائية لترتيب إنهاء وجود قوات التحالف الدولي في البلاد، إذ يرى الخبير الأمني فاضل أبو رغيف، أن تصريحات البنتاغون جاءت قبل شروع عمل اللجنة التي أمر السوداني بتشكيلها لغرض التفاوض بشأن ترتيب عمليات انسحاب منظم لهذه القوات.
ويؤكد أبو رغيف في حديثه لموقع “نون بوست”، وجود بند في اتفاقية الإطار الإستراتيجي المبرمة بين واشنطن وبغداد، ينص على أن بإمكان أحد الطرفين طلب فك هذا الاتفاق ويكون هذا الطلب نافذًا للقبول بعد مرور عام من تقديمه.
ويعرب عن اعتقاده بأن التصريحات الأمريكية جاءت من طرف واحد والعراق غير معني بها، والترتيبات ماضية باتجاه وضع لمسات التفاهم والتفاوض بشأن عملية الانسحاب، وتنظيم وجود قوات التحالف الدولي المختزلة بالولايات المتحدة.
يستبعد أيضًا الخبير الأمني استعداد الجانب الأمريكي للتصادم مع الجانب الإيراني، وكذلك فإن طهران لا تريد أن تستخدم أراضيها ساحة للقتال بقدر ما تريد أن تنقل المعارك دائمًا خارجها بدليل ما يحدث في سوريا واليمن ولبنان والعراق.
ويشدد أبو رغيف على أن الحكومة العراقية بذلت ما بوسعها لملاحقة مطلقي الصواريخ وألقت القبض على بعضهم وقدمتهم إلى القضاء، كما تبنت عملية توفير الحماية لكل البعثات الدبلوماسية والهيئات الأجنبية بما ينسجم مع سيادة العراق.
بدروه يستبعد الخبير الإستراتيجي صفاء الأعسم وجود خطط أمريكية للانسحاب من العراق، بل إنها تعمل على الاستمرارية والبقاء سواء عن طريق وجود القوات أم المدربين أم المستشارين، ولديها اتفاقية إستراتيجية للبقاء في العراق.
ويبين الأعسم في حديثه لموقع “نون بوست” أن الحكومة العراقية ترى وجود مبررات لبقاء قوات التحالف الدولي برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة بعد مرور أكثر من 7 سنوات على انتهاء عمليات تحرير البلاد من سيطرة التنظيمات الإرهابية.
ويشير إلى أن كل العمليات العسكرية التي تجري الآن على الأرض العراقية هي بقوات عراقية خالصة، باستثناء الاستطلاعات الجوية، والعراق قادر على حل هذا الأمر بشرط أن تكون هناك جدية أمريكية في تجهيز العراق بالأسلحة والمعدات اللازمة.
ويعتقد الخبير الإستراتيجي أنه ليس من حق البنتاغون رفض الانسحاب من العراق إذا نجح البرلمان في تمرير قانون يطالب بإخراج القوات الأمريكية أو قوات التحالف من البلاد.
وينوه الأعسم إلى أن الحكومة العراقية أكدت رفضها قيام بعض الفصائل باستهداف القوات الأمريكية، وكذلك استنكرت الضربات الأمريكية لمواقع الفصائل داخل العراق، حيث أدت هذه المناوشات إلى إحراج الحكومة لأن ذلك انتهاك صارخ لسيادة البلاد.
مستقبل العلاقة
يرجح مراقبون أن ينعكس الموقف الحكومي والتطورات الأخيرة على الزيارة التي يعتزم السوداني إجراءها إلى واشنطن، تلبية لدعوة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وقد تقوم الإدارة الأمريكية بإيصال رسائل غاضبة عبر إجراءات بروتوكولية قاسية.
من جانبه يعتقد المحلل السياسي نجم القصاب عدم تتطور العلاقات الأمريكية العراقية بما يتمناه البعض ولا تنهار بما يعتقد البعض الآخر، ويوضح القصاب في حديثه لـ”نون بوست” أنه حتى ضربات الفصائل ضد الأهداف الأمريكية لم تكن ضربات موجعة، ولم تُحدث خسائر في المعدات أو الأرواح حتى هذه اللحظة، وفي المقابل لم يستخدم الأمريكان القوة المفرطة ضد هذه الفصائل.
ويرجح القصاب أن السوداني باستطاعته في نهاية المطاف تحقيق التوازن بينهما، ولا يرغب بفقدان ثقة الفصائل التي ما زالت تصر على إخراج الأمريكان، لكنه قرار سياسي سيادي.
ويرى أن معظم القوى السياسية لا ترغب بإخراج قوات التحالف الدولي في هذا الظرف، لأهمية الدعم الذي تقدمه في بعض الأمور العسكرية واللوجستية والمعلومات الاستخباراتية، وبالتالي ستبقى الأمور هكذا، لكن في النهاية قد يصل السوداني إلى حلول وسطية بينهم.