بعد انسداد طويل في مسار العلاقات العراقية السعودية، تبدو اليوم هذه العلاقات في أبهى صورها خلال أكثر من 27 سنة ماضية، ولعل أهم أسباب الانفراج وجود تحولات داخلية في البلدين على مستوى الأنظمة السياسية عام 2014 في العراق وعام 2015 في السعودية وعام 2017 على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية (وصول الرئيس ترامب) وتحول أولويات الأطراف الثلاث فضلًا عن اتساق التوجهات السعودية بشكل كبير مع ذلك الجزء الحكومي العراقي المنضوي في المشروع الأمريكي الجديد والذي يعمل على احتواء إيران وخلق نوع من التوازن النسبي المرضي للجميع.
عقلنة السياسة الخارجية للبلدين
تبدو اليوم العقلنة السياسية على مستوى الفعل السياسي الخارجي للسعودية والعراق بشكل واضح وكبير كدرب من دروب التوصل إلى تسويات لخلافات عميقة بين البلدين، تمثلت هذه العقلانية على وجه التحديد في ذلك الجزء الرسمي من حكومة العبادي الراغبة بخلق توازن برغماتي ذرائعي على مستوى الأداء السياسي الخارجي بدلًا من الاعتماد على دعم ورعاية دولة واحدة بشكل خاص كما كانت تعمل حكومة المالكي طول ثماني سنوات سبقت حكم العبادي.
هذا التصور الحر للبيئة الإقليمية الذي يحاول العبادي صياغته جاءت محصلته تتويج العلاقات العراقية السعودية اليوم بالوصول إلى حواف التطبيع على مستويات مختلفة منها ما هو أمني واقتصادي ومنها ما يتعلق بتنسيقات مشتركة على المستوى السياسي والدبلوماسي.
هناك إعادة مراجعة حقيقية لمكانة الولايات المتحدة في العراق تمثل ذلك عبر تفعيل الدور السعودي بشكل كبير من خلال لقاءات مشتركة متبادلة حدثت بين الجانب العراقي والسعودي
في الجهة الأخرى تبدو العقلانية واضحة للغاية في شخص ولي العهد الحالي منذ عام 2015 “عراب إصلاح العلاقات مع العراق” والحاكم الفعلي للسعودية برعاية أمريكية، كون هناك رؤية سعودية مغايرة عن السابق لمشروع إقليمي بأدوات جديدة، جاء العراق ونتيجة للاستحقاقات العسكرية التي حققها بالانتصار على داعش وتقديم نفسه كقوة إقليمية قادرة على أن تكون رقمًا صعبًا في معادلات التوازن في ظل أزمة تعصف بمجلس التعاون الخليجي اليوم والتي تطلبت من السعودية أن ترصد الحلفاء لغرض هذه المواجهة.
الوقت الضائع والوقت المتبقي
أدركت المملكة “متأخرًا” أنها أضاعت الكثير من الوقت في صراعات لم تحقق لها إلا هزائم على مستوى المشاريع الخارجية في مختلف مناطق الشرق الأوسط، فاختارت استراتيجية احتواء العراق بكامل متناقضاته والقفز على استاتيكية العقيدة “الدينية” المعتمدة داخل النظام السعودي والتعامل مع أطراف يعتنقون أضداد هذه العقيدة (وهم شيعة العراق)، وهذه الفكرة بالأساس هي التي أوصلت إيران إلى ما أوصلته من نجاحات وانتشار حيوإقليمي واسع عبر القفز على التفسير الحرفي لولاية الفقيه التي تكفر كل الشيعة الذين لا يؤمنون بها، وعدم اعتبارها معيارًا أساسيًا للتعامل.
ولعل العلاقات مع أضداد ولاية الفقيه في اليمن “الزيدية” و”العلوية” في سوريا والشيعة العراقيين الذين يقلدون السيد السيستاني دليلًا على قابلية الفكر الاستراتيجي الإيراني على الاحتواء وعدم الوقوف أمام مطبات تعيق المشروع الإيراني في المنطقة العربية.
نعم هناك مشروع أمريكي جديد
منذ حملته الانتخابية عام 2016 حتى فوزه بالانتخابات وتنصيبه كرئيس للولايات المتحدة وفي كل حديث عن العراق وما وصل إليه، ركز دونالد ترامب أن هناك خطأ استراتيجي فادح ارتكبته إدارة أوباما في العراق وهو تركها للإيرانيين وفتح الباب أمام بناء نفوذ ربما لن يتم إنهاؤه بسنوات طويلة.
ومنذ الأيام الأولى التي وصل فيها ترامب إلى الحكم في شهر كانون الثاني من عام 2017 وعلى مستوى السياسة الخارجية الأمريكية، بدا واضحًا أن هناك إعادة مراجعة حقيقية لمكانة الولايات المتحدة في العراق، تمثل ذلك عبر تفعيل الدور السعودي بشكل كبير من خلال لقاءات مشتركة متبادلة حدثت بين الجانب العراقي والسعودي في بغداد والرياض وواشنطن وعمان على مستوى قادة الصف الأول.
تمتلك إيران رصيدًا استراتيجيًا عريضًا بالثقل العقائدي والبشري داخل العراق فضلاً عن ذلك الثقل السياسي والعسكري في مناطق الوسط والجنوب
هدف هذا التفعيل الأمريكي للخط السعودي هو بداية لاحتواء الجانب الإيراني في العراق وعملية إعادة إيران تدريجيًا إلى الخلف ليس عبر طردها، فليس للسعودية إبعاد إيران من العراق بين ليلة وضحاها ولا حتى على المستوى البعيد بسبب الارتباطات الحضارية والثقافية فضلًا عن الجغرافية مع العراق بل من أجل خلق تنافس داخل العراق يزاحم الفعل الإيراني.
ماذا عن إيران؟
بعد أكثر من عشرة أعوام من العمل الإيراني المستمر داخل العراق ودعم قوى سياسية وجماعات مسلحة وحزبية، تبدو اليوم إيران في أبهى نفوذها سياسيًا وعسكريًا في بغداد والمحافظات، ولعل من الصعب بسهولة أن يتم إبعاد إيران اليوم أو حتى تحجيمها من العراق بخطوة واحدة أو بمجموعة خطوات سريعة، لذلك يدرك الجانب الأمريكي ومن خلفه السعودي وحتى ذلك الجانب العراقي الذي يعمل مع هذا المحور اليوم أن أولوية جل المشروع الأمريكي إقامة توازن تنافسي مع الجانب الإيراني داخل العراق وليس إبعادها.
إذ تمتلك إيران رصيدًا استراتيجيًا عريضًا بالثقل العقائدي والبشري داخل العراق فضلاً عن ذلك الثقل السياسي والعسكري في مناطق الوسط والجنوب، لهذا يدرك الجانب العراقي الذي يحاول خلق هذا التوازن ومن خلفه الجانب الأمريكي والسعودي أن بإمكان إيران خلط الأوراق على بغداد بساعات قليلة وعرقلة المشروع الأمريكي داخل العراق إذا ما تم استفزازها بشكل مباشر وصريح واستفزاز مصالحها.
عن احتواء الحشد الشعبي سعوديًا
لعل تلك العقلانية التي يمكن تلمسها اليوم في التوجه السعودي الخارجي الجديد إحدى أهم طبيقاتها أتت على مستوى احتواء موضوع الحشد الشعبي كقوة مساندة للمؤسسة الأمنية العراقية، إذ أدرك الجميع بما فيهم الجانب الأمريكي أنه ليس من الصحيح ولا من المنطق الدخول في مواجهة إعلامية تصريحاتية أو حتى ميدانية مع الحشد وتشديد الموقف حياله لأن ذلك لن يؤدي إلا لتصعيد الخلافات بين البلدين وسيقلب الرأي العام العراقي على موضوع تطبيع العلاقات.
هناك فرصة سانحة للسعودية لتعويض ما فاتها في العراق من فرص كان يمكن توظيفها في السابق، تبدو هذه الفرص كالدخول إلى العراق عبر بوابة مضاعفة التبادل الاقتصادي المشترك بين البلدين
غير أن الجانب السعودي يبدو من الواضح أنه يتبع استراتيجية الاحتواء لموضوع الحشد عبر غض النظر عن ذلك البعد الأيديولوجي الموجود في فكر هذه المؤسسة والذي يهدد السعودية وفي مواجهة مباشرة مع ما تعتنقه المملكة من أفكار عقائدية دينية، هذا الاحتواء جاء عبر تكتيك دعم أطراف يتم تصنيفها اليوم على أنها معتدلة ضد التوجهات الإيرانية في العراق وضد الأطراف المرتبطة بإيران داخل الحشد ولعل زيارة السيد مقتدى الصدر الذي يملك رصيدًا كبيرًا داخل الحشد الشعبي جاءت مصداقًا لذلك، فضلاً عن دعم الأطراف السياسية العراقية كجناح العبادي في حزب الدعوة وبعض القوى السنية التي لديها مواقف وتوجسات من ذلك الجزء المرتبط عقائديًا بإيران داخل الحشد والذي يمتلك مساحة واسعة داخل هذه المؤسسة.
دبلوماسية ذات مسارين
تبدو السعودية اليوم وبعد نجاحها بكسر جدار الجليد الذي كان يعيق أي تواصل مع الجانب العراقي فضلاً عن الإيجابية العراقية الواضحة، راغبة بتفعيل كل ما يمكن تفعيله من آليات لتعضيد العلاقة مع الجانب العراقي لغرض بناء نفوذ داخل بغداد ومزاحمة النفوذ الإيراني تدريجيًا.
فبعد أشواط دبلوماسية رسمية على مستوى السياسة الخارجية بين البلدين والتي تمثلت بلقاءات متميزة على مستوى وزراء خارجية البلدين في بغداد مطلع العام الحالي ولقاء آخر في الولايات المتحدة على مستوى وزراء الدفاع والخارجية، ولقاء آخر في عمان بين الملك سلمان وحيدر العبادي على هامش القمة العربية من ثم لقاء الملك سلمان بالعبادي في الرياض وبعدها لقاء وزير الداخلية العراقي بوزير الداخلية السعودي في الرياض.
تبدأ السعودية اليوم شوطًا جديدًا من أشواط الدبلوماسية الشعبية عبر توجيه الدعوة الرسمية من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للقاء السيد مقتدى الصدر كونه قائدًا جماهيريًا ذا نفوذ واسع داخل العراق.
ولعل قادم الأيام قد تأتي بلقاءات أخرى على نفس المستوى، فربما نشاهد السيد عمار الحكيم في الرياض أو شخصيات حزبية أخرى كإياد علاوي أو غيرهم ممن تحاول السعودية اليوم دعمهم لمجابهة النفوذ الإيراني داخل بغداد.
خلاصة القول أن هناك فرصة سانحة للسعودية لتعويض ما فاتها في العراق من فرص كان يمكن توظيفها في السابق، تبدو هذه الفرص كالدخول إلى العراق عبر بوابة مضاعفة التبادل الاقتصادي المشترك بين البلدين وتعزيز المجلس الاقتصادي للشؤون الاستراتيجية ودعمه وزيادة التنسيق الأمني والعسكري على مستوى الحدود وتقديم الدعم السعودي للعراق فيما يخص المناطق المحررة وإعادة إعمارها كبادرة حسن نية لفتح صفحة جديدة ولتدعيم عملية خلق التوازن الداخلي ضد إيران ومزاحمتها.