بينما كانت مدينة الموصل ترزح تحت حكم تنظيم الدولة “داعش”، وما تلا ذلك من حصار ثم معركة طويلة شرسة خاضتها القوات العراقية والتحالف الدولي، كانت هناك العديد من الأخبار والقصص المزيفة التي تروج لخطاب الطائفية والتحريض المتبادل وتزييف الوقائع التي تتناقلها الصفحات والحسابات في عملية ترويج للأطراف الفاعلة باستخدام منشورات تغيّب الأحداث الحقيقية أو توجهها نحو دوافع ومآلات غير حقيقة.
ورغم أن الإعلام كان يسلط الضوء على يوميات ومجريات الأحداث في الموصل بشكل يومي، فإن الأخبار الكاذبة ملأت الكثير من وسائل التواصل الاجتماعي، وتحولت حسابات عدد من الصحافيين والمدونين إلى ناقلين أو مستخدمين للأخبار المزيفة شأنهم في ذلك شأن الصحافة الصفراء.
اتهامات باطلة زادت من الاحتراب
كان من الملاحظ في الأيام التي تلت سيطرة “داعش” على الموصل قيام صفحات وحسابات كبيرة، بعضها لشخصيات عامة (إعلاميين، مدنيين، إلخ) بالعمل على تشويه أهل الموصل، وتنميط أفعالهم وإطلاق التهم عليهم من قبيل الخيانة وبيع الأعراض وغير ذلك (مُغيبين حقيقة سقوط المدينة)، ساهمت هذه بتقصد واضح في خدمة الأطراف المتقاتلة وتعزيز الخطاب الطائفي المحرض في المناطق التي تخضع للتنظيم، مما عزز من سيطرته وتحشيد وتشكيله للوعي الجمعي نحو توجهاته، مما دفع الكثير من البسطاء لتقبل الثنائيات التي أطلقتها هذه اللجان الإلكترونية، في تخادم بين الطرفين زاد من شراسة الاحتراب وتعاظم الخسائر.
كما صور آخرون الأحداث، وعلى وجه الخصوص إعلاميون عرب، على أنها بين الحق والباطل، مستعينين بذلك بشواهد تاريخية أو بمقاربات مع أحداث جرت في دول الجوار، أو خطابات طائفية لمختلف الزعامات تزعم أن المعركة بين أتباع الحسين ويزيد وغير ذلك من خطابات القفز على الحقيقة.
وفيما يلي 3 أحداث تم التلاعب بوقائعها وأجزاء من مجرياتها الحقيقية:
إحياء ممارسات طائفية سابقة
في شهر مارس الماضي وبعد استعادة الجانب الأيسر من المدينة أصدر التنظيم تسجيل فيديو يحتوي على ترجمة باللغة الإنجليزية، يظهر فيه أحد أفراد القوات الأمنية وهو يجبر أحد الأطفال ليقوم بالحلف بغير الله، ويرد عليه الطفل باكيًا أن عليًا لا يحلف به.
ورغم أن موقف الطفل يستحق الإشادة، وموقف رجل الأمن يجب أن يحاسب عليه لكون فعله يشكل اعتداءً على حرية المعتقد، فإن الفيديو يعود تاريخه إلى ما قبل عام 2014، حيث تبين عند تحليل الفيديو والمشاهد الظاهرة فيه أن المنطقة التي تم تصوير الفيديو فيها لم تكن مستعادة من التنظيم، وما زالت القوات الأمنية بعيدة عنها.
تلك لم تكن المرة الأولى التي يستخدم فيها التنظيم الإعلام من أجل تغييب وتضليل وإيهام المتلقي، ففي أحد إصداراته أظهر ضابطًا يعمل في حرس الحدود العراقي باسم “عباس الدراجي”، كان قد اختطفه وآخرين من منطقة النخيب في محافظة الأنبار، ولكن الحقيقة أن هذا المنتسب ليس إلا ضابطٌ سني يدعى أبو بكر السامرائي أقام ذووه مجالس العزاء وإعلان اسمه الحقيقي ورتبته أمام وسائل الإعلام.
امرأة موصلية أم مقاتلة داعشية؟
في معارك المدينة القديمة بالجانب الأيمن من الموصل، عثرت القوات العراقية على امرأة لم تكن تتكلم، وسرعان ما انتشرت صورتها وزعم مدونون وصحفيون أنها تتعرض لانتهاكات جسيمة لكونها امرأة موصلية سنية، في حين قال آخرون إنها سبية إيزيدية مختطفة وأظهروا وثائق ومستندات لفتاة تدعى “نضال” تم سبيها من إحدى القرى ذات الديانة الإيزيدية في عام 2014 عند اجتياح التنظيم لأراضي المنطقة، وغيرهم قالوا إنها فتاة روسية معتمدين على ملامحها.
وبعد أيام قليلة أظهرت التحقيقات ومصادر إعلامية ألمانية، من ضمنها صحيفة “بيلد”، أن الظاهرة في الصورة هي الفتاة الألمانية “ليندا ويزل” البالغة من العمر 16 عامًا، فرت من منزل والديها بمدينة دريسدن في عام 2016 لتبدأ رحلتها في سوريا والعراق بعد مرورها بتركيا.
كما أعلنت فيان دخيل النائب في البرلمان العراقي، عبر حسابها الرسمي في تويتر أن “ليندا” قدمت إلى العراق وتزوجت مقاتلًا شيشانيًا ضمن صفوف التنظيم.
مجزرة الموصل الجديدة
في مارس 2017 أفضى قصف جوي شنته طائرات التحالف الدولي على عناصر وعربات للتنظيم في موصل الجديدة إلى مقتل المئات من المدنيين وتدمير بيوت بأكملها على رؤوس ساكنيها، في حينها كانت كثير من المصادر التي تنقل أحداث المعركة تحاول التكتم على الموضوع وتحرص على التحفظ عليه لكيلا يخرج إلى الإعلام.
ورغم فظاعة المجزرة وما انتشر حينها من شهادات ووقائع مصورة، فإن عددًا من الصحفيين وصفحات وحسابات في وسائل التواصل الاجتماعي استخدموا صورًا وفيديوهات مزيفة، تعود لأحداث وقعت في أوقات سابقة في العراق أو في بلدان عربية أخرى كسوريا، ومن بين الفيديوهات التي انتشرت فيديو لعملية إنقاذ أطفال سوريين من تحت الانقاض نشر على اليوتيوب في ديسمبر 2015، لكن أعيد نشره بعد مجزرة الموصل الجديدة ونُسب لضحايا المجزرة.
يغلب على المستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي افتقارهم إلى معرفة الأدوات المناسبة للتمييز بين الصحيح من الأخبار وغيرها، ويشكل زخم المعلومات المتدفق إحدى الوسائل في تشكيل الوعي لدى المتلقي، ويكاد يكون من المستحيل السيطرة على عدد ونوع الكميات الهائلة من المنشورات والتغريدات، والتي تشكل في الوقت الحالي مصدرًا مهمًا للعراقيين في متابعة الأخبار ومعرفة تطورات الأحداث.
ومن الواضح والجلي أن القضايا العادلة تخسر إن استخدم المدافعون عنها وقائع وأحداثًا مزورة، أو روجوا لها باستخدام أدلة مزيفة، وأن ما ينتشر من أخبار وهمية عن أحداث حقيقية واستخدامها في الدفاع عن الحق فيها إنما يضعف القضية لا يقويها.
ولا شك أن الانحياز للمدنيين وحقوقهم والدفاع عنهم عمل نبيل يستحق التأييد والإشادة والدعم، لكن ذلك لا يكون بدفاع باطل يمكن أن يكسر في أي لحظة، مما يجعل القضية العادلة في ضعف وانكسار.