منذ عامين وأشهر قليلة كنت في زيارة لبيت عمي بصحبة عماتي، زيارة مفاجئة بدون أدنى ترتيب، لنرى عمي الضعيف، الذي أكل جسمه المرض.كفّه الكبير الذي طالما أعطى أضحى صغيرًا، وجسمه القوي أصبح هزيلاً وملامح وجهه بدأت تختفي وراء مرضه.
علامات تؤذن بقدوم ضيف ثقيل غير مرحب به .. ألا وهو “الكانسر”، أصيب عمي بمرض السرطان الذي لا يرحم صغيرًا ولا كبيرًا ليقضي على جسد وملامح عمي الوحيد.
أتذكر وقتها كعادتي الجريئة، تحدثت معه بصوت عال وقولت له: ” إنت عامل كده ليه! شكلك اتغير أوي! “، لتقوم عمتي بغمزي كي أصمت، فأكمل كلامي بعدها: ” بس اتغير للأحسن بقيت زي العسل .. ” مصحوبًا بضحكة ساذجة كي أغطي على هذا الحديث، حتى لا يشعر عمي أن ملامحه بالفعل تغيرت فتزداد صحته سوءًا، كانت هذه أقصر زيارة لبيت عمي فلم تتعدى سوى نصف ساعة أو أقل على عكس زيارتنا له، لكن عمتي الصغيرة التي يكبرها عمي مباشرة لم تستطيع تكملة غمزها لي وأصرت أن نمشي بحجة أنها تريد فعل بعض الأشياء بالخارج وما إن خرجنا حتى رغرغت عينها بدموع حارقة وأجهشت بالبكاء..
كانت هذه البداية .. أيام مع المرض تمر كالبرق ما بين المستشفيات والعلاج والسفر، ثلاثة أشهر من العلاج ولا نتيجة تذكر تحسن، دخل عمي في غيبوبة لمدة 4 أيام ، أتذكر وقتها قمت بزيارته داخل المشفى وعندما رأني قال لي ” أراكي كقمر تسعة عشر” .. يقصد “قمر أربعة عشر ” تعالت ضحكاتنا في العناية المركزة، وقلت له: هل تراني؟! .. هل تسمعني؟ا لكنه لم يجيبني..
لم أقم بزيارته سوى تلك المرة فلم أستطيع أن أراه في تلك الحالة مرة أخرى، وفي صباح اليوم الخامس استيقظت على مكالمة نصها: أن “عمي قد مات”، كنت على يقين أن هذه كذبة ولم أرى نفسي سوى أني مرتدية فستان مطرزًا بالورود، في أقل من خمسة عشر دقيقة كنت بداخل المشفي، لأراه بعيني يتحرك وما زالت أنفاسه دافئة، جلست بجواره وأمسكت يده البارده وبدأت في قراءة أيات من القرآن، أتلوها وأبكي، وعمتي تهمس في أذني قائلة: إنه في لحظاته الأخيرة.
جاءت كل العائلة، بناتها وشبابها ليكونوا بجانب عمي في هذه اللحظات الأخيرة، وأنا بجواره لا أستطيع ترك يده، أصوات الدعاء تهز الغرفة، والطبيب يقول: لا أمل.
الروح تستأنس بنا، هذا ما قالته إحداهن عند زيارتها للمشفي، فيجب أن نتركه وحيدًا لدقائق كي تخرج الروح بسلام، أقول في نفسي “هذه خرافات، لا حقيقة لهذا الكلام، فعمي ما زال على قيد الحياة ولن يموت الآن”، قررت عماتي أن نذهب جميعًا للبيت لأن الغرفة كانت مزدحمة بعائلتنا، وما إن خرجنا ووصلنا للبيت بعد أقل من عشر دقائق .. لتأتيني مكالمة نصها ” مها خدي معاكي جلابية بيضة نضيفة من عندك وتعالي المستشفي بسرعة عمك مات ” هذه المرة أشعر انها حقيقة ارتديت عباءة سوداء وأخذت عباءة بيضاء لعمي وذهبت للمشفي، وعندما وصلت رأيت وجه عمي مغطى لا أرى منه أي شيء فقد فاضت روحه، قبلت وجهه، كانت هذه المرة الأولى التي أرى فيها جثة وما تمنيت أن تكون هذه جثة عمي أبدًا، يبدو أن تلك السيدة التي قالت لنا أن الروح تستأنس بأهلها كانت صادقة، فروح عمي الطاهرة كانت تستأنس بنا!
صوت إسعاف بالخارج ورجال يأتون بنقالة ويأخذون الجثة وأنا ورائهم، ركبت مع عمي الإسعاف الذي لم أركبه في حياتي سوى تلك المرة، وذهبنا به إلى بيته، في غرفته وعلى سريره، عائلتنا كلها تجتمع اليوم ببيت عمي الذي لم نجتمع فيه منذ زمن ولكن على ما يدبو أن هذه المرة ستكون الأخيرة التي سنجتمع فيها وعمي بيننا، كلهم بالخارج وأنا بجانبه أبكي وأتحدث معه، فقد سمعت أحدهم يقول ذات مرة أن الميت يسمع من حوله..
صارحته بكل مرة كان يتصل بي ولم أكن أجيبه .. قولت له كنت أرى اتصالك ولكني لم أعطي له إهتمام، أنا أسفة يا عمي ولكن بعد ماذا..!
لم أكن نائمة كما كنت أخبرك، أعرف أنك كنت تحبني كثيرًا فدائمًا كنت تخبرني بهذا الحب، أتذكر عندما كنت بالخامسة من عمري ونيمتني بين أحضانك كي أكف عن البكاء، وأتذكر عندما كنت تروي لنا حكايات كفاحك، أعلم أنك قاسيت في حياتك وعشت أيامًا صعبة جدًا، وأتذكر أيضًا عندما كنت تشتري لي دائمًا عصير التفاح الذي أحبه والمانجا التي أعشقها، أتذكر كل عيد جملتك الشهيرة أن عيد الفطر هو عيد الكحك وعيد الأضحى هو عيد اللحمة، وبالتالي لا توجد عيدية في الحالتين، كي تهرب من دفع عيدية لأطفال عائلتنا الكبيرة، أتذكر ضحكاتنا العالية في تجميعة تكون أنت سيدها فقصصك التي ترويها تضحكنا وجلوسك بيننا كان مسليًا ومميزًا، أتذكر عندما كنت أتحدث معك عن دخولي الجامعة الخاصة فكنت تمزح وتقول لي أن أعطيك هذا المال الذي سأدفعه بالجامعة وأدخل جامعة حكومية وتشتري لي به سيارة وتضحك في نهاية حديثك وتقول: “أنني مجنونة”، أحب جنوني الذي كان بجانبك، كنت أشعر أنني طفلة تحبها وتخاف عليها وتضحكها، لكن اليوم أنت تُبكي تلك الطفلة، ضحكتك كانت مميزة وصوتك كان مميزًا ووجودك دائمًا مميزًا، لكنه ليس بعد الآن! لا تتركنا يا عمي يا حبيبي أرجوك.
همست بكل هذا له وتمننيت وأنا أمسك يديه أن يحرك أصابعه وأن يكون كل ما حدث مجرد حلم، لكن أصابعة باتت ساكنة وأنا لم أنم تلك الليلة كانت ليلة عصيبة أتذكر كل تفاصيلها.
ومنذ أن خرج عمي من غرفته ليُغسّل لم أدخل غرفته أبدًا ولم أنم علي سريره، أذهب لزيارة بيته بعد وفاته فأشعر وكأنني أراه في كل مكان أتذكر جلسته وحديثه وتفاصيل وجوده تحضرني ولا أشعر يومًا أنه مات كما يقولون، بل أقنع نفسي أنه مسافر وسيأتي يومًا ما، كما كان يفعل دائمًا.
في البيوت أسرار ومن أسرارها العظيمة “الموت”، وبكل بيت حتمًا حالة من الموت تختلف عن الأخرى
تمر السنين .. وما إن تأتي سيرته وسط حديثنا إلا ونضحك، فقد كان مرِحٌ يحب الضحك ولا نذكر له سواه، وأستعجب عندما ننهي حديثنا بكلمة .. ” الله يرحمه “، فأنا حتي هذه اللحظة لأ أستطيع أن أصدق ما حدث.
في البيوت أسرار ومن أسرارها العظيمة “الموت”، وبكل بيت حتمًا حالة من الموت تختلف عن الأخرى، كل يودع بطريقة مختلفة لا وداع يشبه الأخر أبدًا.
وعمي هو أول من يُودع عائلتنا الجميلة وأول من يودع قلبي الصغير ليأخذ معه أخر دموع أبكيها على ميت ولتكن دموعي الأخيرة من حظه، فلم أستطيع أن أبكي على ميت بعده، تمر السنين بسرعة البرق ويموت أناس ويأتي أخرون، فهذه الدنيا رحلة قصيرة، نقابل فيها أهلنا وأزواجنا وأصدقائنا وأبنائنا، وما إن تأت ساعة أحدهم إلا يذهب تاركًا لنا وجعًا لا نستطيع نسيانه .. وعمي ترك لي وجعًا لن أنساه أبدًا ..