لم يكن ممكناً لمن راقب المؤتمر الصحافي لوزراء خارجية دول حصار قطر الأربع، الأحد، 30 تموز/يوليو، أن يكتشف المنطق الذي تستند إليه أزمة الخليج. الحقيقة أن الأزمة، التي اندلعت في الأسبوع الأخير من أيار/مايو الماضي، تبدو اليوم أكثر غموضاً وعبثية مما بدت عليه في أي وقت مضى. تحدث بيان وزراء الخارجية الأربعة عن استعداد دولهم للحوار مع قطر، ولكن بشروط.
وهذه الشروط هي ذاتها الثلاثة عشر، التي سبق أن اعتبرها الوزراء أنفسهم لاغية، في لقائهم التنسيقي الأول بالقاهرة في 5 تموز/يوليو. الوزير المصري، الذي يرجح أن مساعديه كانوا من صاغ بيان القاهرة، أنكر كلية في إجابته على تساؤلات الصحفيين بالمنامة أن الشروط الثلاثة عشر قد سحبت. وعندما شعر وزير خارجية آخر بأن كلمات الاستعداد للحوار، التي وردت في البيان الرباعي، أثارت شعوراً بالتفاؤل لدى الصحافيين الخليجيين في القاعة، أعاد من جديد التذكير بأزمة 2013 ـ 2014، والإشارة إلى أن التفاوض لم يعد له من فائدة ترجى. المعيار، قال الوزير، هو إعلان قطر القاطع التزامها تنفيذ الشروط، وعندها، عندها فقط، يمكن أن يبدأ الحوار.
ليس هناك من جيد، إذن. وكما كان بيان القاهرة أثار غضب أبو ظبي، الذي اعتبرته متساهلاً، وأصرت على إصدار بيان ثان، أشد لهجة، في ساعة متأخرة من مساء اجتماع الوزراء الأربعة السابق، حرص الوزراء هذه المرة على أن لا يظهروا أي تراجع ممكن عن حصار قطر ومقاطعتها. قطر، من جهتها، لا ترى ما يبرر أو يسوغ الانقلاب المفاجئ في موقف دول الخليج الثلاث (على أساس أن مصر غير ذات اعتبار في حسابات الدوحة)، ولا في إجراءات القطيعة والحصار التي تبنتها.
عملت قطر سريعاً، بمساندة من أصدقائها في الإقليم، على تلافي الأضرار الاقتصادية، التي كان يمكن لإجراءات القطيعة والحصار أن توقعها. أما العواقب الاجتماعية، التي أصابت علاقات شعوب وأسر وقبائل الخليج، الممتدة عبر حدود الدول وسياداتها المحدثة، فكان لابد من تحملها. ولكن القطريين يشعرون، على أية حال، أنهم لم يكن من تسبب في قطع الأرحام والوشائج، وأن أغلبية الرأي العام الخليجي تقف إلى جانبهم وتحمل الأطراف الأخرى مسؤولية الآلام التي تسببوا بها.
استند قرار الأزمة إلى قدر هائل من الغرور والثقة المبالغ فيها بالنفس والاستهتار بموازين القوى ووقائع الإقليم
كانت ثمة مخاوف في أيام الأزمة الأولى من أن تتفاقم الأمور إلى مواجهة عسكرية، والأرجح أن من اتخذوا قرار المواجهة مع قطر خططوا أيضاً لتدخل عسكري ما، بل ووجدوا شخصية هامشية من آل ثاني للتعاون معهم في حال نجحت محاولة قلب نظام الحكم في الدوحة. ولكن نافذة التدخل العسكري أغلقت كلية بعد 7 حزيران/يونيو وتحرك الحكومة التركية للتصديق على اتفاقية التعاون الدفاعي مع قطر. لم تغلق نافذة التدخل لأن حجم القوات التركية في قطر كان كافياً بالضرورة حينها لخوض مواجهة عسكرية كبيرة، ولكن لأن قرار التصديق السريع والعلني استبطن استعداداً تركيا للدفاع عن الحليف القطري مهما كان حجم التهديد والأعباء.
بيد أن فشل دول القطيعة والحصار الأبرز تجلى في المجال السياسي ـ الدبلوماسي، وليس في الإقليم وحسب، بل وعلى المستوى الدولي، أيضاً. وربما هنا، في المجال السياسي ـ الدبلوماسي، تتكشف عبثية الأزمة أكثر منها في أي جوانبها الأخرى. فمنذ أيامها الأولى، حاول مراقبو الشأن الخليجي والمهتمون من كافة الخلفيات فهم الأسباب والدوافع الحقيقية خلف الانقلاب المفاجئ في علاقات دول الخليج الثلاث مع الشقيق القطري، والتعرف على نهج قادة الدول الثلاث في إدارة الأزمة.
وقد أشير إلى خلافات قطر مع الدول الثلاث، سيما الإمارات، في اليمن وليبيا، وموقف قطر من النظام الانقلابي في مصر، باعتبارها أبرز الأسباب التي أدت إلى اندلاع الأزمة. ولكن، ومهما كان حجم الخلاف حول هذه القضايا، فمن الصعب أن تقدم تفسيراً مقنعاً لأزمة عصفت بالفعل بمجلس التعاون الخليجي، آخر المنظومات العربية الإقليمية الفعالة، سيما أن الخلافات بين دول الخليج حول هذه القضية أو تلك ليست جديدة أو نادرة. خلافات عمان مع السعودية حول إيران واليمن، وخلافاتها الأعمق والأكثر تعقيداً مع الإمارات، لم ينجم عنها لا قطيعة ولا حصاراً.
التفسير الوحيد الممكن للأزمة أن هناك في الرياض وأبو ظبي من ظن أن ثمة فرصة سانحة لتوكيد قيادة الدولتين للخليج، وربما للمجال العربي المشرقي برمته. ولأن قطر بدت لهؤلاء عقبة في طريق هذا المشروع، كان لابد من إخضاعها. المشكلة أن حتى هذا التفسير لا يوفر إجابات كافية على كل الأسئلة التي تطرحها الأزمة. كيف، مثلاً، ولد هذا المشروع الطموح في تصور الرياض وأبو ظبي للأمور؟ هل تملك الدولتان من المقدرات والمواريث التاريخية ما يؤهلها لقيادة الإقليم، في لحظة بالغة الانقسام والتشتت وتفاقم الأزمات؟
وهل حققت الدولتان نجاحات ملموسة في القضايا التي تصدت لها منذ هبت رياح الثورة العربية في 2011؟ هل تحقق الانتصار في اليمن، مثلاً، أو وضعت نهاية لسياسات التوسع الإيراني؟
ما لم يضعه صناع الأزمة في الحسبان أن قطر ستقاوم الضغوط، ولن تفرط في استقلال قرارها
هل أن وضع مصر الانقلابية أفضل مما كان عليه قبل الانقلاب الذي دفعت إليه ودعمته الرياض وأبو ظبي، وهل أن ليبيا الآن أفضل حالاً مما كانت عليه قبل تبني أبو ظبي لمغامرة حفتر العسكرية؟
استند قرار الأزمة إلى قدر هائل من الغرور والثقة المبالغ فيها بالنفس والاستهتار بموازين القوى ووقائع الإقليم. وربما كانت لحظة التوافق السريعة، وغير المفكر فيها، مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، أثناء زيارته للرياض، أحد أهم أسباب هذا الغرور.
بخلاف سلفه، باراك أوباما، أعطى ترامب الضوء الأخضر للتغيير في تراتبية ولاية العهد السعودية، التي كان لابد أن لا تحدث بدون مباركة أمريكية. والأرجح أن الرئيس الأمريكي لم يعترض على اللغة العدائية، السعودية ـ الإماراتية، تجاه قطر، ولا حتى على عزم الرياض وأبو ظبي تفجير أزمة ما مع الدوحة، ربما لأن قطر وضعت في إطار سهل على رئيس لا يتمتع بخبرة تذكر تقبله؛ أو لأنه تصور أنها ستكون مجرد أزمة قصيرة، سرعان ما تأتي أكلها.
ما لم يضعه صناع الأزمة في الحسبان أن قطر ستقاوم الضغوط، ولن تفرط في استقلال قرارها، وأن الأزمة ستطول، وأن الرئيس الأمريكي، مهما بلغ من قوة، لا يستطيع بالضرورة أن يدفع الدولة التي يقودها إلى تبني سياسات يصعب تبريرها وتضر بالمصالح الحيوية الأمريكية. وهكذا، وخلال أسابيع قليلة، اتضح أن دول الحصار لا يمكنها حشد كافة دول الخليج، وقوى الإقليم الرئيسية، خلفها؛ ولم تستطع إقناع أغلب الدول الأوروبية، ولا روسيا والصين، برجاحة موقفها. وفوق ذلك كله، وبالرغم من الثمن الذي دفع، عجز الرئيس الأميركي، الذي وضعت كل الأوراق في سلته، عن ضمان تأييد مؤسسات الدولة الأمريكية لموقفه.
السؤال الآن هو إن كان هذا هو مصير الأزمة، فلماذا الإصرار على سياسات القطيعة والحصار، وغياب أية مؤشرات على اقتراب الحل؟
يتعلق التفسير المنطقي لهذا الانسداد بالتكلفة الإقليمية الكبيرة لاعتراف صناع الأزمة بالفشل، وانعكاسات التراجع المحتملة على وضع ودور دول الحصار الإقليمي. ولكن، وكما الأسباب التي تقرأ أحياناً باعتبارها المولد للأزمة ونهج إدارتها، لا يوفر هذا التفسير إجابات مقنعة لكافة الأسئلة التي يطرحها استمرار الأزمة. ثمة قدر صارخ من العبثية هنا، أيضاً.