تدخل حرب الإبادة التي شنتها دولة الاحتلال ضد قطاع غزة يومها الـ100 وسط إجرام غير مسبوق يمارسه جيش المحتل مدعومًا من جيوش وأجهزة استخبارات أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا في ظل صمت عالمي فاضح وعربي وإسلامي مخزي.
تلك الحرب التي توهم قادة الاحتلال وجنرالاته أنها لن تستغرق أيامًا معدودات يحققون فيها أهدافهم المعلنة، فإذ بها تتجاوز الحد الزمني المتوقع دون تحقيق أي مما كانوا يطمحون، فلا هم قضوا على حماس ولا حرروا أسراهم ولا ضمنوا ألا يشكل قطاع غزة منطقة تهديد لهم.
وبينما يشتعل الداخل الإسرائيلي، عسكريًا وسياسيًا وشعبيًا، جراء الفشل في تحقيق أهداف الحرب، إذ بالعالم ينتفض دعمًا لغزة والمقاومة، وتنديدًا بجرائم الاحتلال التي وصفتها العديد من المنظمات الحقوقية والإغاثية الدولية بأنها “سُبَة” في جبين الإنسانية.
"سواء في الداخل أو المنفى، كنا ننتظر هذا الأمر".. الباحثة الفلسطينية في قضايا الإبادة الجماعية ،@MahaAbdallah تصف قضية #جنوب_أفريقيا ضد "إسرائيل" بأنها لحظة تاريخية#غزة_الآن #طوفان_القدس #محكمة_العدل_الدولية pic.twitter.com/Kfw46SQGD8
— نون بوست (@NoonPost) January 12, 2024
100 يوم من الصمود
كشفت المقاومة الفلسطينية منذ بداية الحرب أنها قادرة على الصمود والمواجهة، وأن لديها خطة مكتملة وتصورًا كاملًا عن إدارة المعركة إذا طال أمدها، عكس ما كان يردده خصومها بشأن عشوائية عملية “طوفان الأقصى” وأن حماس والجهاد وغيرها من الفصائل لم تراع مختلف السيناريوهات المتوقعة.
مع صباح اليوم المائة على حرب غزة، أعلنت كتائب عز الدين القسام استهداف دبابة من نوع ميركافا بقذيفة “الياسين 105” في خان يونس، لافتة في بيان لها إلى أن مقاتليها “اشتبكوا مع قوة صهيونية خاصة بالرشاشات”، وقبلها بساعات كانت رشقات المقاومة تُمطر سماء عسقلان وأسديروت، فيما أفاد مراسلون أن وحدة الإنقاذ الإسرائيلية (966) تواصل نقل جنود جرحى من معارك وسط قطاع غزة.
عسكريًا، أسقطت المقاومة منذ الحرب 522 ضابطًا ومجندًا إسرائيليًا، منهم 188 منذ بدء العملية البرية، بجانب 13 ألف مصاب، منهم 4 آلاف تعرضوا لإعاقات مستديمة، كما دفعت نحو أكثر من نصف مليون إسرائيلي للنزوح من مناطق غلاف عزة والاحتماء إما في الملاجئ والمخابئ تحت الأرض وإما في الفنادق بتل أبيب.
في اليوم الـ99 من الحرب أطلقت المقاومة حزمة من الرشقات الصاروخية من القاطع الشمالي على مستوطنات غلاف غزة، وهي العملية التي تحمل مضامين سياسية وعسكرية، بحسب ما قاله المحلل العسكري فايز الدويري الذي يعتقد أنها جاءت ردًا على تصريحات قادة الكيان أنه تمت له السيطرة على شمال غزة، لافتًا إلى أن مضمون الرسالة التي أرادت المقاومة إيصالها للاحتلال أنها ما زالت متماسكة ولديها مخزونها من الصواريخ وتدير معركتها الدفاعية بثقة ونجاح وهي التي تقرر طريق إدارة معركتها تحت شعار : متى وكيف وأين؟
عاجل | الجيش الإسرائيلي: إصابة 1106 عسكريين منذ بدء العملية البرية إصابة 240 منهم خطرة pic.twitter.com/QVPMzZOHUV
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) January 14, 2024
اقتصاديًا، تكبد الاحتلال خسائر فادحة بسبب الحرب وصمود المقاومة، بلغت وفق التقديرات الإسرائيلية أكثر من 60 مليار دولار، هذا بخلاف تعرض الكثير من أوجه النشاط الاقتصادي في الداخل الإسرائيلي لحالة من الشلل التام مع زيادة معدلات البطالة نتيجة غلق الكثير من الأنشطة، بجانب سحب شريحة كبيرة من القوى العاملة للقتال في المعارك الضارية بالقطاع.
سياسيًا، حالة من التفسخ والانقسام داخل مجلس الحرب وفي الحكومة بصفة عامة جراء سير المعركة وما تتكبده قوات الاحتلال على أيدي المقاومة والفشل في تحقيق أهداف المعركة، حيث شهد الكابينت انقسامات حادة بين أعضائه، وانسحابات من الاجتماعات، وتراشق بالتصريحات، وإلقاء تهم الفشل، بل وصل الأمر إلى انضمام عضو مجلس الحرب بيني غانتس لتظاهرات حاشدة في تل أبيب تطالب باستقالة نتنياهو وتشكيل حكومة جديدة.
نفسيًا، أحدثت المقاومة بأدائها البطولي والمفاجئ للجميع صدمة نفسية غير مسبوقة للشارع الإسرائيلي، العسكري والسياسي والمدني، وهو ما تترجمه لغة الأرقام الرسمية الصادرة عن هيئة البث الإسرائيلي التي قالت إن جمعية الإسعافات الأولية العقلية تلقت أكثر من 100 ألف طلب مساعدة نفسية منذ بداية الحرب، لافتة إلى أن هناك عشرات آلاف الإسرائيليين تعرضوا لمأساة شخصية وأن دولة الاحتلال بأكملها تعاني من صدمة وطنية، فيما أكد وزير المالية الإسرائيلي المتطرف، سموتريتش، أن هناك خطة في الموازنة الجديدة لتعزيز الصحة العقلية استجابة للاحتياجات التي خلقتها الحرب.
عاجل | وزير المالية الإسرائيلي: خطة في الموازنة الجديدة لتعزيز الصحة العقلية استجابة للاحتياجات التي خلقتها الحرب pic.twitter.com/fVGHXj1Sb6
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) January 14, 2024
الاحتلال في قفص الاتهام دوليًا
لأول مرة منذ سنوات طويلة يقف الكيان المحتل في قفص الاتهام أمام محكمة دولية بحجم محكمة العدل في لاهاي، حيث يواجه أكبر ضربة موجعة تستهدف سمعته وصورته التي ظل لسنوات طويلة يخدع العالم بها، وذلك حين أسقطتها جنوب إفريقيا بدعوتها التي رفعتها أمام المحكمة في 29 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، تتهم فيها “إسرائيل” بارتكاب “جرائم إبادة جماعية” في القطاع.
على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وقف الفريق القانوني لجنوب إفريقيا يستعرض بالأدلة الثبوتية قائمة الجرائم والانتهاكات التي مارستها قوات الاحتلال ضد سكان غزة منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تلك الانتهاكات التي ترتقي لمستوى جرائم الحرب الإبادية بحق شعب بأكمله.
نجح الفريق القانوني للدولة الإفريقية – غير العربية والإسلامية – من خلال دعواه المكونة من 84 صفحة في كشف الحقائق أمام العالم، وفضح الاحتلال وأعوانه، وإسقاط الأقنعة المزيفة التي طالما ارتداها الكيان تحت شعار الديمقراطية والحضارة والمدنية، وهي العملية التي استغرق بناؤها عقودًا طويلة وتكلفت مئات المليارات من الدولارات.
لم يجد الاحتلال وفريقه القانوني إلا محاولة التنصل من تلك الجرائم، إما بتحميل مصر مسؤولية بعضها فيما يتعلق بمنع إدخال المساعدات عن طريق معبر رفح رغم نفي القاهرة لذلك، وإما التحجج بمبدأ الدفاع عن النفس، وهو المبرر الذي أجهضته جنوب إفريقيا بما قدمته من شواهد وبراهين على أن ما حدث كان أبعد ما يكون عن هذا المبدأ، ليظهر الاحتلال في نهاية الأمر بمظهر المجرم الذي افتضح أمره على رؤوس الأشهاد.
العالم ينتفض دعمًا لغزة
بينما يهرول الكيان المحتل للبحث عن مخرج من الإدانة القضائية في محكمة العدل الدولية، في ظل اشتعال التظاهرات في تل أبيب تحت عنوان “100 يوم من الجحيم”، تنتفض 120 مدينة في 45 دولة بالتظاهرات الحاشدة في اليوم العالمي للتضامن مع غزة.
التظاهرات التي شهدتها شوارع كل من واشنطن ولندن وباريس وجاكرتا ودبلن وروما وستوكهولم وكوبنهاجن وأمستردام وجوهانسبرج وبغداد وصنعاء وعمان حملت شعارات ولافتات منددة بالاحتلال وجرائمه الوحشية بحق فلسطينيي القطاع، كما رددت هتافات تطالب بوقف العدوان وإطلاق النار ومحاسبة الاحتلال على جرائمه المرتكبة.
في اليوم العالمي للتضامن مع غزة.. شوارع #جنوب_إفريقيا تحتشد بالمتظاهرين المندّدين بالحرب الإسرائيلية على #غزة #غزة_الآن #محكمة_العدل_الدولية #طوفان_القدس pic.twitter.com/hC51nh8ex0
— نون بوست (@NoonPost) January 13, 2024
شهدت تلك الفعاليات إبداعات احتجاجية غير مسبوقة، مثل وضع آلاف الأحذية الصغيرة في الساحات العامة بالعاصمة الهولندية، في إشارة إلى الضحايا الأطفال الفلسطينيين الذين سقطوا في الحرب، كذلك الدمية الرمزية “أمل الصغيرة”، وهي دمية يبلغ طولها 3.5 متر كانت تهدف في الأصل إلى تسليط الضوء على معاناة اللاجئين السوريين، لكن أعيد استخدامها مرة أخرى في تظاهرات لندن لفضح معاناة أطفال غزة.
نجحت كذلك تلك الاحتجاجات التي كان زخمها الأكبر في البلدان الداعمة للاحتلال وحربه الوحشية ضد الفلسطينيين، واشنطن ولندن وباريس تحديدًا، في تشكيل مزاج متناغم من الرأي العام الدولي الداعم للقضية الفلسطينية التي فرضت نفسها على المسرح العالمي بعد سنوات من الاختفاء المتعمد والطمس الممنهج.
استخفاف متواصل بحياة المدنيين
بينما تستهدف المقاومة العسكريين من الضباط والجنود في صفوف جيش الاحتلال، إذ بالمحتل لا يستأسد إلا على المدنيين العزل، باحثًا عن انتصار زائف عبر لغة الأرقام والإحصائيات التي يحاول توظيفها بشكل أو بآخر للقفز على فشله في تحقيق أهدافه المعلنة بداية الحرب.
ارتكب الاحتلال خلال المائة يوم الأولى من الحرب 1993 مجزرة وحشية راح ضحيتها 23 ألفًا و843 شهيدًا، و60 ألفًا و317 مصابًا، بينهم نحو 10 آلاف و400 طفل، و7 آلاف و100 سيدة، و337 فردًا من الطواقم الطبية، و45 فردًا من جهاز الدفاع المدني، و117 صحفيًا، بجانب الإبلاغ عن أكثر من 7 آلاف مفقود، 70% منهم من الأطفال والنساء.
كما أسفرت الحرب الإجرامية عن تدمير 69 ألفًا و300 وحدة سكنية بشكل كامل، وأكثر من 290 ألف وحدة سكنية لتدمير جزئي، هذا بخلاف إخراج ثلثي بنايات القطاع خارج الخدمة، فضلًا عن تدمير 30 مستشفى و150 مؤسسة صحية و53 مركزًا للإيواء، وخروج 95 مدرسة عن الخدمة بسبب القصف وتضرر 295 آخرين بشكل جزئي، فضلًا عن تعرض 145 مسجدًا للهدم الكلي و243 مسجدًا للأضرار الجزئية، وتضرر 3 كنائس بغزة بشكل كبير، بجانب تدمير 200 موقع أثري وتراثي.
جراء هذا القصف الوحشي انعدمت مقومات الحياة في القطاع، ما تسبب في موجات نزوح متكررة، أبرزها الموجة الأولى من مدن شمالي القطاع ومحافظة غزة إلى الجنوب، تلتها موجة أخرى من شرق مدينة خان يونس إلى غربها ومدينة رفح جنوبًا، ثم النزوح الثالث من المحافظة الوسطى باتجاه مدينة رفح، وهي الموجات التي حولت مليوني فلسطيني – من أصل 2.3 مليون يعيشون في القطاع – إلى نازحين.
قالت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، "إن جسامة الموت، والدمار، والتهجير، والجوع، والخسارة، والحزن في الأيام الـ 100 الماضية، تلطخ إنسانيتنا المشتركة".#عربي21
— عربي21 (@Arabi21News) January 14, 2024
“إسرائيل” تلطخ الإنسانية
ليس هناك وصف لجرائم الاحتلال وانتهاكاته الوحشية أكثر دقة مما وصفه المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، فيليب لازاريني، حين قال إن الحرب الإسرائيلية على غزة “تلطخ إنسانيتنا”، مشيرًا إلى أن المائة يوم الماضية كانت بمثابة 100 عام على سكان القطاع.
لازاريني في بيان رسمي للوكالة بمناسبة مرور المائة اليوم الأولى للحرب قال: “جسامة الموت، والدمار، والتهجير، والجوع، والخسارة، والحزن في الأيام الـ100 الماضية يلطخ إنسانيتنا المشتركة”، لافتًا إلى أنه “في الأيام الـ100 الماضية تسبب القصف المستمر في جميع أنحاء قطاع غزة في نزوح جماعي لمجتمع في حالة تغير مستمر، حيث يتواصل اقتلاعهم وإجبارهم على مغادرة أماكن بين عشية وضحاها، فقط للانتقال إلى أماكن غير آمنة بالقدر نفسها”.
يتناغم خطاب وكالة الأونروا التي تعتبر شاهد عيان على ما يحدث، مع مضمون الدعوى المقدمة من جنوب إفريقيا بصفتها مراقب للأحداث من بعيد، بما يتفق مع المزاج الشعبي العالمي، ما يؤكد أن إجرام الاحتلال ما عاد يخفي على أحد، وأن التصدي لتلك الهمجية بات فرض عين على كل المنصفين في العالم.