على الرغم من بساطة كلمة “الحب” وتداولها العظيم، إلا أنها ما زالت تشكّل حيرةً كبيرة وتساؤلات عظيمة عن ماهيته وكيفيته وأسبابه وتفسيراته، على حدٍ سواء لعلماء النفس والبيولوجيا أو الفلاسفة والشعراء والأدباء والأناس العاديين، فقد حاول الجميع منذ الأزل من كل مناحي المعرفة البشرية أن يعرّفوا الحب، وأنْ يروا سببًا حقيقيًا له.
ونظرًا لأنّ الحبّ -مثله مثل باقي المشاعر البشرية- موضوع معقد بسبب تدخل عوامل ثقافية واجتماعية ولغوية ونفسية وبيولوجية وفيسيولوجية فيه، ما يجعل من تفسيره أمرًا فيه من الصعوبة والتشابك ما فيه، فلا نستطيع الوصول لنتائج محددة أو تفسيرات مؤكدة، إلا أنّ ثمة تفسيرات عديدة وُضعت بهذا الصدد.
ولو جئنا للتفسيرات اللغوية للحب، سنجد أنّ كلّ لغةٍ استفردت بمصطلحاتها المُستخدمة لوصف هذا المصطلح، ففي العربيّة هناك الحبّ والعشق والولع والهيام والصبابة والكَلف والغرام وغيرها الكثير الكثير، لكنّ اللغة اليونانية تميّزت عن غيرها في ثلاثة مصطلحات تتعلّق بالحبّ وتفسّره من نواحيَ مختلفة.
كلمة “إيروس” ترتبط بالافتقاد، فنحن نحبّ ما ليس لدينا وما نفتقد إليه، وبهذا ترتبط كلمة “أحبّك” بكلمة “أريدك”.
استخدم اليونانيون القدماء مصطلح “إيروس ἔρως” للدلالة على الرغبة في التملّك والميل الجنسي تجاه المحبوب، ففي الميثولوجيا اليونانية “إيروس” هو إله الحب والرغبة والجنس، ومع أنه لا علاقة تذكر لهذا الإله بالطقوس الدينية إلا إنه من الشخصيات المحبوبة في الأدب والرسم والنحت والموسيقا.
ظهر إيروس للمرة الأولى في ثيوغونية الشاعر هيسيود في بداية الكون، وحتى بدايات الكلاسيكية اليونانية كان يُصوّر بفتىً جميل يحمل سوطًا أو شبكًا. أما في الهلينية فإنه أصبح يُصوّر بطفل صغير يحمل قوسًا وسهامًا، وترجع التفسيرات إلى أنّ صورة الطفل لهذا الإله ترجع للتناقض بين براءة الطفولة وقوة الحب العنيفة من جهة، ولرغبة الطفل في التملّك والحيازة على كلّ ما يحبّ من جهة أخرى.
وبحسب أفلاطون فكلمة “إيروس” ترتبط بالافتقاد، فنحن نحبّ ما ليس لدينا وما نفتقد إليه، وبهذا ترتبط كلمة “أحبّك” بكلمة “أريدك”. وتقول الأسطورة اليونانية إنّ “حبّ الإيروس” شكلٌ من أشكال الجنون، نُصاب به عندما يرمينا “كيوبيد” إله الحبّ عند الإغريق، بأسهمه. وبحسب فلاسفة اليونان فإنّ هذا النوع من الحبّ يكون في بداية كلّ العلاقات، ومع مرور الوقت ونضوج العلاقة وأطرافها، ينضج هذا الحبّ ليتحوّل إلى شكلٍ آخر أرقى وأكبر، بحيث يتعدّى نطاق الرغبة الجنسية وحبّ الامتلاك الذي يمكن أن يخفّ بريقه أو تقلّ درجته مع الزمن.
تأتي المرحلة الثانية من الحبّ والتي يُطلق عليها اسم “فيليا φιλία”، والتي تترجم عادةً على أنها “صداقة” على الرغم من أنّ الكلمة اليونانية أكثر دفئًا وأعمق معنىً. وتستخدم هذه الكلمة للتعبير عن أعمق عواطف المحبة والتقدير، وتعرّف في علم التأثيل اليوناني على أنها الحبّ الممزوج بالشغف، سواء للأشخاص أو الأشياء والمعاني، فالفلسفة هي “فيلوسوفي” أي حبّ الحكمة، والبيبليوفيليا تعني حب الكتب، وهكذا.
الكلمة الثالثة التي استخدمتها اليونانية لوصف الحبّ فهي “أغابي ἀγάπη”، وقد تكون أفضل ترجمة لها في العربية هي كلمة “محبّة الممزوجة بالرحمة”
وقد أوصى أرسطو بأنْ نتجاوز “حب الإيروس” في علاقاتنا خاصةً الزواج ومن ثمّ نبنيها على فلسفة الفيليا، فهي تضيف فارقًا كبيرًا في تعريفنا للحبّ وفهمنا له، إذ تسمح لنا أن نرى أننا ما زلنا قادرين على الحبّ بشغفٍ واهتمام بعيدًا عن الرغبة الجنسية والشهوة الجسدية فقط. وتبعًا لأرسطو فإنّ هذا النوع من الحبّ يتّسم بالسعادة والراحة النفسية، لأنّنا نتمتع بما يوجد أمامنا وما نتشاركه مع الطرف الآخر، وفي هذه الحالة يصبح معنى كلمة “أحبك” “أنا سعيدٌ بوجودك معي”.
وعلى عكس حب الإيروس الذي يتمحور حول دائرة الذات والتملّك، فإنّ حبّ الفيليا يتميّز بالاهتمام بالآخر وتقديره واحترام، بالإضافة إلى احتوائه على التضحية والعطاء، المرحلة التي تأتي لاحقًا في الحبّ وبناء العلاقات.
أما الكلمة الثالثة التي استخدمتها اليونانية لوصف الحبّ فهي “أغابي ἀγάπη”، وقد تكون أفضل ترجمة لها في العربية هي كلمة “محبّة الممزوجة بالرحمة”، أو ما يُعتقد أنه أعلى مستوىً من الحب عرفته الإنسانية -الحب الإيثاري-، وهو الحب الذي يرتبط بقوة بإسعاد الآخر، بغض النظر عن مكنونات نفسه الخيّرة أو الشريرة. فأنتَ حينما تحبّ أحدًا لن تنظر إلى مساوئه وسلبياته، وستستمرّ بحبّه على الرغم منها. وتذكّرنا الكلمة بأنّ الحبّ لا يقتصر على الإعجاب بالفضائل فحسب، بل يتعلق أيضًا بالتعاطف والتقبّل تجاه ما هو هش وغير كامل فينا.
حبّ “فيليا” و”أغابي”، المبنيين على أساس الشغف والاهتمام وقبول المساوئ والسلبيات
وبالإضافة إلى المصطلحات الثلاثة السابقة، هناك أيضًا أنواع أخرى من الحب، مثل “ستورغ” أو الحبّ الذي نحمله تجاه أفراد العائلة، مثل حبّ الآباء غير المشروط لأبنائهم، و”براغما” أو الحبّ العملي الذي لا يعتمد لا على الانجذاب الجنسيّ أو الصداقة والشغف، وإنما يعتمد على الأهداف المشتركة، ويمكن استخدام هذه الكلمة لوصف الزواج أو العلاقات التي تعتمد على المصالح، مثل زواج رجال الأعمال لفهم هذا النوع من العلاقات.
في النهاية، عند دخول شخصين في أي علاقة رومانسية أو في بداية الزواج، يتنظر كلٌّ منها من الآخر حبًا من نوع “ستورغ” غير المشروط، تمامًا مثل ذلك الذي اعتاد عليه من أمه في صغره بشكلٍ خاص، لكنّ الأمر لا يسير معه كما يشتهي، فتنتقل المشاعر إلى حبّ “إيروس” الجنسي الذي يعتمد على الانجذاب والرغبة في الامتلاك. ومع تهذيب النفس وترقية الحبّ، ينتقل الفرد إلى حبّ “فيليا” و”أغابي”، المبنيين على أساس الشغف والاهتمام وقبول المساوئ والسلبيات.