استخدمت “إسرائيل” مستويات متطرفة وغير مسبوقة من العنف والوحشية في عدوانها المتواصل على غزة منذ بداية الأسبوع الثاني من أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأظهرت استخفافًا كبيرًا بأرواح المدنيين، ولم يدّخر جيش الاحتلال شيئًا في هجماته على غزة التي لا يمكن وصفها إلا بأنها إبادة جماعية في طور التشكل، في محاولة لإرهاب سكان القطاع الساحلي الأكثر اكتظاظًا بالعالم ومعاقبتهم، وترك أضرار صحية وإنسانية وأيضًا اجتماعية بعيدة المدى، لخلق ظروف تجعل منه منطقة غير قادر على الحفاظ على حياة إنسانية منظَّمة.
تتعمّد الهجمات الإسرائيلية مسح الأحياء السكنية بعوائلها، وارتكب جيش الاحتلال أكثر من 2000 مجزرة ضد العائلات الفلسطينية في قطاع غزة، خرجت العديد منها من السجلات المدنية، وفق أرقام صادرة عن وزارة الصحة بغزة.
في 2 ديسمبر/ كانون الأول، حوالي الساعة الرابعة فجرًا، قُتل 143 فردًا و3 أجيال من عائلة سالم في غارة جوية إسرائيلية، بعد أن ضربت مبنى سكنيًا مكونًا من 5 طوابق في حي الرمال بمدينة غزة، لجأت إليه العائلة المكونة من 150 نازحًا من شمال القطاع، بعدما وجّهها الجيش نحو شارع الوحدة غرب القطاع، وصولًا إلى منطقة الرمال ومشفى الشفاء الطبي.
وكان من بين الضحايا المسنان زهير محمود سالم (86 عامًا) وزوجته عديلة سالم، وابنهما علي وزوجته وأطفاله، كذلك ابنتهما رباب (40 عامًا) وزوجها محمود وأطفالهما الثلاثة، أصغرهم في عمر الـ 7 سنوات، إلى جانب عدد من الأعمام من طرف الأب وعدد آخر من الأقارب من العائلة نفسها.
وتروي الناجية السيدة صابرين بهجت سالم، التي كانت ضمن المتواجدين داخل البيت، وفقدت طفليها وأكثر من 140 شهيدًا من أسرتها، شهادتها عن الجرحى الذين داستهم الدبابات والنساء الحوامل اللواتي شُقّت بطونهنّ، في واحدة من بين أكثر من 2000 مجزرة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي بحقّ المدنيين في غزة.
“كنا نازحين بمعسكر جباليا، كنا آمنين جالسين في بيوتنا لمّا اقتحم مكاننا جنود مدججون بالسلاح والقنابل وأمرونا بالخروج مع رفع راية البيضاء، جميعنا مدنيون من نفس العائلة توجّهنا إلى غزة – الرمال وقال لنا الجيش (الإسرائيلي) إنها منطقة آمنة، وهي ليست كذلك، منذ وصولنا حاصرتنا الآليات العسكرية قبل يومَين من قصفنا بالصواريخ”، تقول الناجية سالم عن نزوح العائلة.
وحتى لا يبقى أحد حيًّا، استهدف الطيران المنطقة بـ 4 صواريخ بشكل متقطع من منتصف الليل حتى الفجر، ومن نجا تطاير من النوافذ بالشارع المجاور من شدة القصف، ووقفت الدبابات والجرافة فوق الجثث وداستها، وعقروا أرحام الحوامل ممّن لفظن أنفاسهن وأخرجوا الأجنّة، وفقًا لشهادة الناجية صابرين والتي ما زالت في صدمتها.
ولم تكن هذه المجزرة الوحيدة التي اُرتكبت بحق عائلة سالم بغزة، بل قبل أسابيع منها قصفت طائرات الاحتلال منزلًا يعود للعائلة مكوّنًا من عدة طوابق في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة، لجأ إليه الكثير من النازحين من العائلة مع عدد من الأقارب، راح ضحية القصف 50 شهيدًا غالبيتهم من النساء والأطفال.
“الحمل ثقيل جدًّا” تقول الأم الفلسطينية مريم أبو حية، بعدما ارتكب الاحتلال جريمة باستهداف عائلتها المكونة من الأب والأم و3 أشقاء وزوجاتهم وأخت واحدة مع عائلتها، إلى جانب الأعمام وزوجاتهم، أي ما يقارب 33 شهيدًا، دون سابق إنذار حيث كانوا يمكثون جميعًا تحت سقف واحد بحثًا عن الأمان في زمن الحرب.
وتضيف لـ”نون بوست”: “استشهدت أمي وأختي وأطفالها، ومُسحت عائلات أشقائي الثلاثة وعائلات أعمامي بالكامل”، وتابعت: “لم ندفن سوى الجثث والأشلاء التي طارت من شدة القصف إلى الجوار”، مشيرة إلى أن كثيرين منهم ظل لأيام تحت الأنقاض.
وتمضي مريم وقتها في أحد مراكز الإيواء جنوب القطاع مع أطفالها، في رعاية من تبقى من “ريحة الأحباب”، ابنا شقيقتها يوسف ونور، وأصبحت الأم الثلاثينية المسؤولة عن رعايتهم بدور الأم والأب خلال الحرب المستمرة.
وتابعت: “أخي الكبير والأصغر وعائلتهما قتلوا، أختي نزحت لدينا من غرب المدينة وقُتلت مع زوجها وبعض أطفالها، عائلة عمتي الوحيدة أيضًا لم يتبقَّ منها أحد، لم أستطع الرد على سؤال الأطفال المتكرر عمّا جرى بحق والديهم وبقية العائلة، وكيفية العودة للديار المدمّرة والمدارس والحياة من جديد”.
لم يتبقَّ أي فرد من هذه العائلات
عندما تضرب غارة جوية منزلًا ويقتَل كل من في ذلك المنزل في بعض الحالات، قد يشير المصطلح إلى عائلة مباشرة، بينما في حالات أخرى قد يشير إلى العائلة الأكبر حجمًا والممتدة، حيث تشير وثائق منظمة العفو الدولية إلى حالات تمّ فيها محو عائلة نووية بأكملها من السجل المدني.
من بين تلك المجازر مجزرة عائلة المختار صالح عاشور دغمش عام 2023، هي مجزرة ارتكبها سلاح الجو الإسرائيلي خلال العدوان المتواصل في 30 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، حينما أغارَ على كافة المنازل السكنية الخاصة بعائلة دغمش، أدت هذه المجزرة إلى مسح العائلة بأكملها من السجل المدني، كما تسبّبت هذه المجزرة الإسرائيلية في استشهاد ما يزيد عن 109 أشخاص، جميعهم من عائلة واحدة.
وحسب الإحصاءات الفلسطينية، فإن جيش الاحتلال نفّذ آلاف المجازر بحق أهالي غزة، وأباد عائلات بأكملها من السجلات المدنية، فيما يصعب إصدار تقرير رسمي في هذا الشأن، بسبب عدم قدرة وزارة الصحة في غزة على توثيق ما يحدث في مختلف المناطق.
وتتحدث وكالات الإغاثة بغزة عن الاستخدام الشائع للغاية لاختصار “WCNSF”، وهو اختصار لعبارة “طفل جريح، لا أسرة على قيد الحياة”، في توثيق الناجي الوحيد من العائلة.
سياسة ممنهجة للإبادة
يتجاوز الاحتلال الإسرائيلي القانون الدولي من خلال قصفه للمدنيين، حيث تحمي الاتفاقيات الدولية على وجه التحديد الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال القتالية، على غرار المدنيين والجرحى والمرضى وأسرى الحرب وعمّال الصحة وعمّال الإغاثة، كما تحظر استخدام الأسلحة المحرمة دوليًّا.
ينص القانون الدولي الذي تستند إليه الأمم المتحدة على رفض الحصار الإسرائيلي، وعلى حقّ السكان المدنيين بالحماية الكاملة في ظل العمليات العسكرية، ويحظر أو يقيّد الإجراءات القتالية التي قد تسبّب لهم المعاناة، كما يحظر استهداف المدنيين مباشرة أو بشكل عشوائي أو الاقتصاص منهم.
بدوره، يقول عمر رحال، رئيس مركز شمس لإعلام حقوق الإنسان، إن قتل العائلات الفلسطينية واستهداف المدنيين سياسة إسرائيلية ممنهجة تهدف إلى 3 محاور، أولها الضغط على المقاومة الفلسطينية بغزة، باعتبار أن الأهل يشكّلون حاضنة حقيقية للمقاومة، وبالتالي نتنياهو استخدم مثل هذه السياسة منذ اللحظة الأولى.
والمسألة الثانية من أجل الانتقام ممّا جرى ويجري من مقاومة بقطاع غزة، والتعبير عن الحقد والفكر السياسي العنصري اللذين تتبناهما دولة الاحتلال، وانطلاقًا من معتقدات دينية توراتية عدة، منها مقولة: “كلما قتلت من الأشرار تقرّبت إلى الله”، حيث يوشع بن نون دائمًا حاضرًا في فكرهم وسياستهم، وبالتالي قتل البشر وهدم الحجر يستندان إلى تعاليم توراتية قاصرة.
وأضاف رحال لـ”نون بوست” أن ما حصل في قطاع غزة يأتي في إطار جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وجرائم إبادة وجرائم تطهير عرقي، أي أن كل الجرائم المحظورة في القانون الدولي وفي ميثاق روما المنشئ للمحكمة الدولية، مورست في قطاع غزة، إلى جانب الحصار وقطع الوقود والغذاء والشراب واستهداف الأعيان المدنية، التي تندرج أيضًا تحت مسمّيات هذه الجرائم.
ووفق رئيس مركز إعلام حقوق الإنسان، لا يمكن القول إن هناك جريمة حرب ولا نتحدث عن جريمة إبادة، بل هناك نية مبيّتة من قبل الاحتلال منذ اللحظة الأولى، ومن الاستخدام المفرط للقوة يتجه نحو الإبادة والتطهير العرقي، فالذي يحصل في قطاع غزة أشبه ما يكون بالحروب التي تجري بالقرون الوسطى بين أمراء وملوك الحرب، حرب الانتقام وسفك الدماء والمذابح.
ومن جانب آخر، يشير رحال إلى أن استهداف العائلات وهدم البيوت على ساكنيها يعدّ كارثة لها علاقة بالذاكرة والجذور والروابط العائلية والقرابة، ولها علاقة بالمفهوم الفلسطيني بالسند، كما ستبقى ذكريات على المحرقة الحقيقية والنكبة، و”سنعيشها للأبد شاهدة على الإغلال في التقتيل الذي يقوم به الاحتلال بحق العزّل بالقطاع المحاصر، هناك تداعيات كبيرة سترافقنا للأبد”.
ما معنى أن تبيد الحرب عائلات بأكملها وتمحيها من السجلّ المدني؟
أن يقتل جيش ما عائلة كاملة في بيتها دون إنذار أو سبب، فهو يمارس توحُّشًا خارجًا عن نطاق الحرب وأسبابها ومعايير الفوز والخسارة والضعف والقوة، وأن يقتل جيش ما عائلةً كاملة كلها من المدنيين، فهو يمارس توحشًا لقتل الذاكرة ومسح الوجود، وهذا بالضبط ما يفعله جيش “إسرائيل” في غزة.
يقول المختص بعلم الاجتماع سعيد أبو ستة، إن أعداد العائلات التي قُتلت بالكامل أو أغلب أفرادها وبقيَ ناجٍ واحد، سيؤدي إلى تدمير النسيج الاجتماعي في غزة، حيث تسبّب القصف المكثف في إبادة أجيال متعددة من الفلسطينيين، لافتًا إلى أن تقليد عيش العائلات الغزاوية الممتدة معًا في مبانٍ متعددة الطوابق، بالإضافة إلى انتقال الأقارب لبيوت بعضهم بحثًا عن الأمان أثناء الحرب، يعني أن مئات العائلات متعددة الأجيال قضي عليها كاملةً في غارات فردية أو متعددة.
وأضاف المختص أبو ستة لـ”نون بوست” أن فقدان العائلات يعني اختفاء سجلّات هؤلاء الأشخاص ووثائقهم وحياتهم الاجتماعية، وينتج عن هذا فجوات في تسجيل وجود الأشخاص من النسل نفسه، أو تجميع تاريخ وقصص الحياة العادية لجذور عائلة فلسطينية ممتدة، مشيرًا إلى أن الاحتلال يسعى إلى تدمير بنية الأسرة الفلسطينية وتفكيكها، سواء بالاستشهاد أو التشرد.
النزوح والتشريد وهدم الأحياء.. آلاف العائلات تفكّكت
لا يقف ذلك عند هذا الحد، يعدّ النزوح والتشريد وجهًا آخر شاهدًا على تفكّك النسيج الاجتماعي بفعل الحرب والتدمير، بل تسبّب النزوح القسري للسكان من مناطق العائلات الأصلية وبيئتهم في فصل الكثير منهم عن بعضهم في مناطق جغرافية متفرقة، ومنهم من لم يلتقِ ببقية أسرته طوال أيام العدوان، أي نحو 100 يوم.
وتشير التقديرات إلى أن حوالي 1.93 مليون مواطن (85% من سكان غزة) مهجّرون قسرًا، من الشمال حتى أقصى الجنوب، والعديد منهم نزحوا عدة مرات سعيًا وراء الأمان.
ورصدت الجهات المختصة في غزة تنامي المشكلات الصحية والنفسية الناتجة عن الضغوط التي تتعرض لها العائلات في غزة، مؤكدة أن مئات الآلاف من العائلات تفكّكت وأصابها الانهيار، وبعضهم لا يعرفون شيئًا عن أبنائهم أو إخوتهم أو أقربائهم، والحرب الوحشية التي تخوضها “إسرائيل” ضد سكان غزة تسبّبت في عدم قدرة العائلات على التواصل مع بعضهم، كما ستفرز الحرب على مدى بعيد آلاف المفقودين.
وفقد المئات من الأشخاص مساكنهم وعوائلهم بالكامل، واضطروا للنزوح إلى مراكز الإيواء، بعضهم فقدَ أفرادًا من عائلته في قصف المستشفى الذي أوَوا إليه، وبعضهم يتقاسم مع عائلة أخرى غرفة صفّ في إحدى المدارس، و300 ألف شخص يعيشون في خيم متهالكة في أقرب نقطة حدودية للقطاع مع مصر.
وأصبحت حياتهم تتمحور حول تأمين سبل العيش لأسرهم، يقطعون عشرات الأميال بحثًا عن المياه، ويقفون في طوابير طويلة للحصول على معونة غذائية، ويجلسون بجانب أقاربهم الجرحى إلى حين وصول دورهم في العلاج، ويعودون إلى منازلهم المهدّمة بحثًا عن ذكريات ممكنة، ويبحثون بشكل متواصل عن مكان لدفن الجثث.
وشوّهت الإبادة المكانية للمدن والقرى بغزة مشاعر الأفراد حيال أمكنتهم التقليدية؛ مدارسهم التي قضوا فيها أعوامًا يعيشون اليوم فيها كنازحين، دكانة الحي التي يبتاعون منها الحاجيات أصبحت رفوفها فارغة، شاطئ البحر الذي جلسوا عليه مع أصدقائهم ضاحكين تحيط به النفايات والمياه العادمة.
وقال المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة، إن الجيش الإسرائيلي هدم أكثر من 61% من منازل القطاع، ودمّر الاحتلال أكثر من 305 آلاف وحدة سكنية في إطار حملته الواسعة ضد شعبنا الفلسطيني، وحرب الإبادة الجماعية.
ونبّه المكتب الدولَ والمنظمات العالمية إلى “وقوع كارثة إنسانية واجتماعية في غزة”، نظرًا إلى ارتفاع عدد المنازل والوحدات السكنية التي تمّ تدميرها ومصير آلاف العائلات المجهول.
وبعد مرور 100 يوم على العدوان، أعلنت وزارة الصحة في غزة ارتفاع حصيلة الضحايا إلى 23 ألفًا و968 شهيدًا، و60 ألفًا و582 مصابًا منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.