تسير الإمارات نحو تحقيق حلمها في توسيع دائرة نفوذها الإقليمي عبر إحكام السيطرة على المنافذ البحرية الواقعة على الخليج العربي وخليج عدن وما يوازيها على الجانب المقابل لدى دول القرن الإفريقي بخطوات متسارعة دون اعتبار لما يمكن أن يتمخض عن هذه التحركات من أزمات قد تهدد علاقاتها بجيرانها.
المشهد اليمني يجسد تلك الأطماع بصورة أكثر وضوحًا، فبعد إحكام سيطرتها على جزيرة “سقطري” الواقعة قرب خليج عدن، على بعد 350 كيلومترًا جنوبي شبه الجزيرة العربية، هاهي أبو ظبي تفكر في أن تضع موطئ قدم لها داخل مضيق “هرمز” وذلك عبر بوابة محافظة المهرة، الواقعة شرق اليمن والحدودية مع سلطنة عمان.
التحركات الإماراتية المشبوهة في تلك المحافظة الحدودية المستقرة منذ اندلاع الأزمة اليمنية أثار حفيظة مسقط بصورة كبيرة ما دفعها للتفكير في اتخاذ بعض التدابير لكبح جماح أبناء زايد والحيلولة دون فتح نافذة لهم تسهل طريقهم نحو إحداث القلاقل وتصدير الأزمات للداخل العماني، لكن يبقى السؤال: لماذا المهرة على وجه الخصوص؟ وكيف سترد مسقط على هذا التهديد؟
لماذا المهرة؟
المهرة هي ثاني أكبر محافظات اليمن من حيث المساحة، حيث تبلغ قرابة 82405 كيلومتر مربع، تقع في الجانب الشرقي من الدولة، يحدها من الشمال والغرب محافظة حضرموت، وترتبط بشريط حدودي شاسع مع سلطنة عمان، ومن ثم فهي تعتبر حديقتها الخلفية التي تمثل لها عمقًا امنيًا قوميًا على درجة كبيرة من الأهمية الإستراتيجية.
تطل هذه المحافظة على أحد أهم المضائق البحرية في المنطقة، وهو مضيق هرمز، الذي يفصل بين مياه الخليج العربي من جهة ومياه خليج عمان وبحر العرب والمحيط الهندي من جهة أخرى، ويمر منه 40 % من نفط العالم المنقول بحرًا، ومن ثم من يسيطر على هذه المحافظة يبسط نفوذه الكامل على هذا الممر المائي ذو الأهمية الإستراتيجية الهائلة.
ظلت تلك المنطقة بعيدة عن دائرة الصراع منذ اندلاع الأزمة اليمنية في 2011، وحتى عقب دخول قوات التحالف بقيادة السعودية في مارس 2015، نظرا لوقوعها تحت سيطرة القوات الشرعية المدعومة من التحالف، فضلا عن عدم تعرضها لأي تهديد من قبل الحوثيين أو الموالين لهم من قوات علي عبد الله صالح.
وبعد مرور ما يقرب من عامين ونصف تقريبًا من خروج المهرة عن ساحة المواجهات العسكرية داخل اليمن هاهي تعود للمشهد المشتعل، بصبغة إماراتية، لتجد المحافظة المستقرة والآمنة طيلة الفترة الماضية نفسها في آتون حرب مجهولة فوضوية الحاضر مجهولة المستقبل.. فما الذي حدث؟
وهنا تحركت الإمارات
بداية القصة تعود إلى أكتوبر العام الماضي حين تم نشر خبر يفيد بتورط سلطنة عمان في تهريب أسلحة للحوثيين قادمة من إيران، ورغم النفي المتكرر من الجانب العماني لتلك الأخبار التي بثتها وكالة رويترز الإخبارية نقلا عن مسئولين أمريكيين وغربيين لم تسمهم، إلا أن ذلك لم يثني أبو ظبي عن استغلال الفرصة لتوظيفها بما يسهم بدفع حلم السيطرة على مضيق هرمز خطوة للأمام.
ثم تطورات الأحداث فيما بعد حين أقدمت إحدى القبائل الأمهرية بالسيطرة على منفذ الشحن الرابط بين عمان واليمن وذلك بعد تنازل القوات الحكومية عن إدارته بناء على طلب تلك القبيلة، ومع الوقت شب خلاف بين تلك القبيلة وأخرى أرادت استقدام بضائع من مسقط.
التحركات الإماراتية المشبوهة في تلك المحافظة الحدودية المستقرة منذ اندلاع الأزمة اليمنية أثار حفيظة مسقط بصورة كبيرة ما دفعها للتفكير في اتخاذ بعض التدابير لكبح جماح أبناء زايد
المشهد هنا يبدوا وكأنه صراع قبلي بين قبيلتين على السيطرة على هذا المنفذ، لكن حين تطلب القبيلة الأمهرية المسيطرة على المنفذ بناء على موافقة القوات الحكومية أن يتم تسليمه لقوات من التحالف العربي الذي يقاتل في اليمن، فهنا تم تداول اسم الإمارات كونها وراء تلك التطورات التي تهدف في النهاية إلى إحكام سيطرتها على المحافظة الحدودية التي ستمهد الطريق لها نحو إحكام قبضتها على مضيق “هرمز”.
وعلى الفور بدأت أبو ظبي في فرض وجودها من خلال بعض الإجراءات التي اعتمدت في جزء كبير منها على محورين أساسيين:
الأول: البعد الاجتماعي.. حيث نسجت علاقات قوية مع حلفاء وشخصيات عامة وقبلية في المهرة، ساعدها على كسب ولاءات سياسية لبعض القبائل المتواجدة عبر بوابة النشاط الإنساني والخيري الذي تتميز فيه أبو ظبي بصورة كبيرة مستغلة حالة العوز والفقر الشديد لسكان تلك المناطق.
الثاني:البعد الأمني.. وهنا جندت الإمارات ما يقرب من 2000 شاب من أهالي المحافظة، حيث أقامت معسكرًا تدريبيًا لهم في مدينة الغيضة والتي تعد المركز الرئيسي الذي تجند فيها المهرة شبابها،مستغلة ضعف السلطة المركزية في تلك المحافظة، وعدم قدرتها على ممارسة سلطاتها على أرض الواقع.
التحركات الإماراتية فوق الأراضي اليمنية بصفة عامة أثارت ولا تزال قلق العمانيين حيالها، خاصة وأن خبراتهم السابقة مع أبو ظبي غير مبشرة في هذه المسألة، لكن حين ينتقل التهديد إلى الحدود العمانية ويصبح استقرار السلطنة – الذي نجحت خلال العقود الماضية ورغم كافة الصراعات الإقليمية أن تحافظ عليه- في خطر، فهنا لابد من رد فعل من جانب مسقط ونظامها الحاكم.
الدور الإماراتي في اليمن يثير قلق العمانيين
اتهمت مسقط أبو ظبي أكثر من مرة بالضلوع في محاولة قلب نظام الحكم وذلك على إثر ضبط شبكة تجسس إماراتية في السلطنة
كيف ردت عمان؟
التحركات العمانية حيال ما تقوم به الإمارات في محافظة المهرة جاءت هادئة نسبيًا بعيدة تمامًا عن التصعيد السياسي أو العسكري أو حتى الإعلامي، حيث حرصت مسقط على الدفاع عن استقرارها بصورة اعتمدت فيها على القوى الناعمة أكثر منها الأساليب التقليدية المعروفة في مثل هذه المواقف.
محاولة أبو ظبي استمالة حلفاء لها من قبائل المهرة وشخصياتها العامة عن طريق توطيد العلاقات الاجتماعية معهم، قوبل بمرسوم أصدره قابوس بن سعيد، سلطان عمان، يقضي بمنح الجنسية العمانية لأسرتي، سلطان المهرة الشيخ عيسى بن عفرار، ومستشار الرئيس اليمني ورئيس أول حكومة في دولة الوحدة اليمنية حيدر أبوبكر العطاس، بالإضافة لمنحه الجنسية لعدد 69 شخصًا من أبناء الأسرتين، ما يصعب من المهمة الإماراتية في هذه المحافظة بحسب محللين.
هذا القرار أعتبره مراقبون يمنيون إجراءًا له دلالته الواضحة وهو قطع الطريق أمام النظام الإماراتي وتحركاته لتوسيع نفوذه داخل تلك المحافظة، وهو ما يعكس ملامح حرب باردة بين أبو ظبي ومسقط في هذه المنطقة الحدودية، حتى وإن لم تخرج ملامحها للعلن.
جدير بالذكر أن سعي عمان لاستقطاب شخصيات مهرية ليس وليد اللحظة ولم يكن رد فعل لتحركات الإمارات وفقط، لكن ما تم اتخاذه كان خطوة لتقويض أطماع أبناء زايد في تلك المحافظة، حيث أن هذا التوجه العماني له إرهاصات قديمة، تعود إلى إدراك السياسية العمانية مركزية المهرة كنقطة التقاء بينها وبين اليمن الجانح دومًا إلى عدم الاستقرار، ما دفعها إلى بناء جسور متينة مع القوى القبلية والسياسية في المهرة، وليس أدل على ذلك من أن محافظ المهرة الحالي، محمد عبد الله كده، يحمل الجنسية العمانية منذ العام 1994.
ليست المرة الأولى
محاولات التدخل الإماراتي في الشأن الداخلي العماني ليست وليدة اليوم بل تعود لسنوات طويلة مضت، حيث شهدت العلاقات بين مسقط وأبو ظبي موجات من المد والجذر وصلت في بعض الأحيان إلى الصدام والتهديد ما بين العاصمتين.
وقد اتهمت مسقط أبو ظبي أكثر من مرة بالضلوع في محاولة قلب نظام الحكم وذلك على إثر ضبط شبكة تجسس إماراتية في السلطنة، هذا بخلاف اتهام بعض العمانيين لأبناء زايد بشكل غير رسمي بالوقوف وراء أحداث صحار 2011 والتي شهدت احتجاجات عارمة تطالب بإصلاح النظام السياسي وتحسين ظروف المعيشة.
خروج عمان عن السرب السعودي الإماراتي زاد من حدة التوتر في العلاقات بين الطرفين، وهو ما دفع محمد بن زايد للتلويح أكثر من مرة بشأن عدم انسجام الموقف العماني مع الموقف الخليجي في أكثر من ملف، آخره الموقف القطري، حيث ارتأت مسقط أن تقف على الحياد كما الكويت وهو ما لم يرضي أبناء زايد بالطبع.
التحركات الإماراتية في اليمن والسيطرة على موانئها الرئيسية سواء في سقطري الجنوبية وصولا إلى ميون شمال الشريط الحدودي الجنوبي المطل على الخليج العربي جاء بالتزامن مع تحركات أخرى على الجهة المقابلة في القرن الإفريقي
أبو ظبي اتخذت من عاصفة الحزم ستارًا لتنفيذ مخططاتها في اليمن
حلم الزعامة والدور المشبوه
التحرك الإماراتي في المهرة يأتي في إطار الدور المشبوه لأبناء زايد في اليمن وغيرها من الدول الأخرى بهدف توسيع دائرة النفوذ الإقليمي عبر السيطرة على الممرات المائية الدولية الواقعة في منطقة الخليج العربي وما يقابلها على الشريط الحدودي البحري لدول القرن الإفريقي.
أبو ظبي منذ انطلاق العمليات العسكرية في اليمن مارس 2015 اتخذت من هذه التحركات ستارًا يخفي مخططها الاستيطاني مستغلة انشغال الرياض بأزماتها الداخلية وتنصيب محمد بن زايد وليًا للعهد وما تواجهه من عثرات في الملف السوري وغيره.
في تقرير لـ “نون بوست” كشف كيف يسابق أبناء زايد الخُطى لفرض سيطرتهم على تلك المنطقة، من خلال بناء قواعد عسكرية هناك ضمن جهودها لتعزيز سيطرتها على مضيق باب المندب الاستراتيجي الذي يمثل البوابة الأساسية للسيطرة على 12% من التجارة العالمية، كذلك ما تقوم به من تحركات للسيطرة على جزيرة ميون أو بريم اليمنية ما يفند تصريحات وزير الخارجية الإماراتي، أنور قرقاش، بأن “دور الإمارات العربية المتحدة في اليمن هدفه الخير ومساند السعودية، ومن يدعي مصالح ضيقة لنا في ميناء أو قاعدة أو منطقة حزبي جاحد لا يدرك توجهنا وموقفنا”.
التحركات الإماراتية في اليمن والسيطرة على موانئها الرئيسية سواء في سقطري الجنوبية وصولا إلى ميون شمال الشريط الحدودي الجنوبي المطل على الخليج العربي جاء بالتزامن مع تحركات أخرى على الجهة المقابلة في القرن الإفريقي متمثلة في عدد من القواعد العسكرية في إريتريا وجيبوتي والصومال، وفي هذه المناطق مواني رئيسة تسيطر عليها الإمارات واحدًا تلو الآخر، وأهمها ميناء عدن، الذي يعد المنافس الأول لميناء جبل علي وراشد الإماراتيين، وهو مادفع أبو ظبي للسيطرة عليه.
جندت الإمارات ما يقرب من 2000 شاب من أهالي المحافظة، حيث أقامت معسكرًا تدريبيًا لهم في مدينة الغيضة والتي تعد المركز الرئيسي الذي تجند فيها المهرة شبابها
ففي 2008 استأجرته الإمارات لمدة مئة عام، وأصبح الميناء معطلًا تمامًا لصالح مواني دبي، فبعد أن كان يستقبل 500 ألف حاوية، أصبح يستقبل 212 ألف حاوية، وبدأت السفن بتحويل وجهتها على إثر رفع تعريفته بنسبة 80%، وفي إريتريا، أنشأت الإمارات أول قاعدة عسكرية خارج حدودها، وتحديدًا في محيط ميناء عصب الذي تحول إلى قاعدة جوية حديثة وميناء عميق المياه ومنشأة للتدريب العسكري.
بينما في الصومال، فقد أحكمت أبو ظبي قبضتها على ميناء بربرة على أرض الصومال غير المعترف بها دوليًا ضمن صفقة بلغت قيمتها 442 مليون دولار، كما وقعت السلطات في إقليم بونتلاند شبه المستقل اتفاقية مع الإمارات مدتها 30 عامًا لتطوير وإدارة ميناء بوصاصو الاستراتيجي بتكلفة بلغت نحو 336 مليون دولار.
وهكذا يتكشف يوما تلو الأخر الدور المشبوه لأبناء زايد بهدف إحكام القبضة على كافة المنافذ البحرية والممرات الدولية في المنطقة الواقعة بين الخليج العربي والقرن الإفريقي، في ظل انشغال السعودية وغيرها من الدول المعنية بمشاكلها الداخلية.