لم يتوقع أحد أن يستقبل المقدسيون رصاصات الاحتلال بصدور عارية أمام بوابات الأقصى الشريف، ليعبروا عن رفضهم لكل المؤامرات التي تحاك ضدهم بغية تجريد أقصاهم من مشاعر المسلمين.
انتفض المقدسيون بين ليلةٍ وضحاها لحماية المشاعر المقدسة لميار ونصف مليار مسلم، بعدما دنستها أنظمةٌ عربية تاجرت بها في الربع الأخير من القرن الأخير، انتفضوا غير آبهين بكل مراحل الانحطاط العربي، الذي أنتجته أنظمة عربية باتت تتباهى بالمعصية وتتغنى بها وتشرّعنها بصفقاتٍ مذلة بعقد الصلح والتطبيع مع دولة الاحتلال “إسرائيل”.
رسائل كثيرة صدرها المقدسيون للشعوب العربية أولًا ولمستبديهم ثانيًا، عساها تساهم في وخز الضمير الميت لإنعاشه من جديد، وتذكرهم بما اقترفت أياديهم التي اصطبغت بدماء المسلمين.
صعدت قوة الاحتلال من غطرستها ضد الفلسطنيين، مستغلة مرحلة الوهن والضعف اللذين ضربا حضارة الشرق، فهم اليوم غارقون في متاع الدينا وترفها وأقصى طموحهم الحفاظ على كراسي العرش حتى تبقى جاثمة على صدر كل من سولت له نفسه بالعيش الكريم تحت سقف الحرية.
ارتفعت وتيرة الاحتجاجات في ساحات المسجد الأقصى، وعلت الأصوات والهتافات بأصوات انطلقت من حناجر الحرائر المقدسية وأطفالهن ورجالهن وكبارهن وشيوخهن
الاحتلال وبعد أن ساهم بافتعال أزمة قطر، وضمن غياب “الضمير العربي” الذي ما زال في قاع قمم البحر الميت، تفرغ بشكل عملياتي لتهويد القدس الشريف وفصل شرقه عن غربه وجنوبه عن شماله، ففرض قوانين جديدة على الفلسطينين، وأقام بوابات إذلال إلكترونية حتى تتحكم بمشاعر العرب، وتميز منهم بين القابل للتطبيع والرافض له، وما الهدف إلا لأخذ صك اعتراف واستسلام من الدول العربية على قبول شرق الأقصى عاصمة لـ”إسرائيل”، هذا الصك كانت دولة الإمارات السبّاقة نحوه والمروجة له.
ارتفعت وتيرة الاحتجاجات في ساحات المسجد الأقصى وعلت الأصوات والهتافات بأصوات انطلقت من حناجر الحرائر المقدسية وأطفالهن ورجالهن وكبارهن وشيوخهن، وكيف لا وهم الذين تشربوا جرعات السم الأخير من قبل دول عربية ارتأت الرضوخ لسياسية التطبيع وفتح صفحة جديدة يكون شعارها السلام مع “إسرائيل”، والمملكة العربية السعودية خير دليل فهي من وقعت صفقة مد خط السكك الحددية مع تل أبيب وستفتح لاحقًا سماء المملكة للطيران الجوي لـ”إسرائيل”.
خرج المقدسيون وقد أيقنوا خذلان العرب، باستثناء دولة قطر التي التف حولها طوق عربي غربي، لخنقها ونحرها على الجريمة التي ما زالت متمسكة بها، ألا وهي تبنيها لمطالب وإرادة الشعبين السوري والفلسطيني في حق العيش والتخلص من حكم العسكر وسطوة الجلاد.
نعم هي عوقبت لأنها لم ترض الهوان لشعبها والذل لسيادتها، مع العلم أنها انتصرت على دول الحصار بنصر أخلاقي، وسيكون مثالًا حاضرًا في تاريخ الشعوب اللاحقة حتى يدرس لأبنائهم.
خرج المقدسيون عندما دقت ساعة الصفر، ليلقنوا الأنظمة العربية دروسًا جديدة في الصمود والثبات
المقدسيون خير ممثل وحامل لتاريخ الثورات العربية في مسيرتهم منذ 1948، والمفترض هنا أن يكون صمودهم نبضًا حاضرًا في وجدان الأنظمة العربية، لتستفيد في محنتها التي تمر بها، وأي مرحلة لهدم الحضارة والقيم العربية أكثر وضوحًا مما نراه ونشاهده في ثورات الربيع العربي، فبدلًا من مساهمتها في تلبية رغبات الشعوب، ساهمت في خلق ثورات مضادة لها، فكانت فعلًا ثورات الربيع سلاحًا قد عرى كل الأنظمة وأسقطها في شر أعمالها، وأسدل ستارها وكشف نقابها وفضح خيراتها الإغاثية للأمة الإسلامية بعدما علمنا نواياها.
المقدسيون عندما انتفضوا لم ينظروا إلى حالة الضعف والعجز التي تمر بها بلاد المشرق، فغالبيتهم يعلمون جيدًا السبب والمسبب الذي ضرب حضارة العرب في ركائزئها الأساسية، وكانوا يعلمون جيدًا أن نتائج دمارالمنظومة الأخلاقية العربية، ستساق إلى أبواب المسجد الأقصى.
فخرجوا عندما دقت ساعة الصفر، ليلقنوا الأنظمة العربية دروسًا جديدة في الصمود والثبات، ولم تمنعهم عزيمتهم في إيصال الحقيقة للشعوب المضهدة، كي تزيد من بريقها وضوحًا لنا، خاصة للشعبين السوري والعراقي، والمزيد من الإصرار وتجديد العهد وعدم الرضا والركون لسياسية العبودية العربية، وكأنهم يقولون لنا أنتم قدمتم وضحيتم في حاضركم ونحن قدمنا لكم في ماضينا واليوم خرجنا لنقدم معكم في حاضركم وحاضرنا، ومن اعتقد أننا أصبحنا في مجلدات التاريخ عبارة عن سطور هزأت، فهو مخطئ، فنحن اليوم نعاهدكم على المضي سويةً جنبًا إلى جنب للحفاظ على مشاعركم المقدسة، ولن نتخلى عنكم لأنكم لم تحنوا رؤوسكم في وجه من باع قضيتكم قبل أن يبيع قضيتنا.
اللافت أن قوة أبطال الحجارة التي لم تغلبها قوة الاحتلال، قدموا لنا رؤية مزدوجة ودروسًا عن كيفية التعامل والعمل على أكثر من مسار بنفس الوقت، فهم أولًا قارئون لثقافة الاحتلال ومخضرمون في كيفية التعامل مع عدوهم، ويعلمون جيدًا أدوات منطقه وتفكيره وأساليبه، وهم بنفس الوقت متتبعون لدورات التاريخ، وواعون جيدًا لثورات الربيع العربي التي بدأت تصل حذواها إلى أبواب المسجد الأقصى، لكنها اليوم في حلتها المضادة وبأيدي عربية.
الدروس والعبر كثيرة وعلى رأسها رسائل الأحرار في فلسطين للأنظمة العربية، مفادها أنّ خذلانكم لم يوقف عزيمتنا
استطاع المقدسيون الأحرار أن يقدموا أرواحهم لتكون حلقة إمداد لتاريخ حافل بقضية العرب الأولى، فلا قطيعة لقضية الحق المقدس إلا في نفوس من تاجر بها.
كسروا القيود ودخلوا ساحات المسجد الأقصى وصلوا صلاة العصر وأرغموا الاحتلال على إزالة البوابات الإلكترونية واحتفلوا بنصرهم بدماء شهدائهم، فالعرس الفلسطيني قد عاد بحلته الجديدة، وليس كأي عرس ولم نعرف من بعهده نكهة الأعراس إلا من خلال “الكوفية” الفلسطينية التي أصبحت رمز المقاومة للظلم بوجه كل من مارس الاستبداد وتشرب ثقافة الحقد في قتل إرداة الشعوب.
الدروس والعبر كثيرة وعلى رأسها رسائل الأحرار في فلسطين للأنظمة العربية، مفادها أنّ خذلانكم لم يوقف عزيمتنا.
الوعي الجمعي للشعوب العربية من أحداث الزلازل في ثورات الربيع العربي، كشفت النقاب عن المستور، فلم يعد هناك مجالاً للمرواغة أو المتاجرة والكذب والنفاق وممارسة التقية، وإن كانت الأنظمة الديكتاتورية لم تقتنع بحق الشعوب طيلة فترة استبدادها، فعليها أن تعي اليوم أن البراكين التي قذفت حممها على الشعوب بفضل ثقافة الاستبداد، هي ذاتها الحمم التي ستحرق العروش العربية التي ساهمت بشكل مباشر في إفراغ قضايا الشعوب من مضمونها، وارتمت بأحضان من يؤمن لها الحماية والوصاية، فلا هذه ولا تلك ستبقى في المرحلة القادمة، وإن حق الشعوب لا يموت فهو حق ولاّد متوارث لأجيال قادمة ستتصدر موجات التغير وتنسف كل الأنظمة المتآمرة على شعوبها.
أما الشعوب المظلومة ستبقى ماضية في ثوراتها حتى تشاركنا في تحرير المسجد الأقصى ونصلي بكل زاوية في أبعاده ونقرأ قوله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
كان أبي وجدي يحدثاني عن تاريخ عريق ما زال حيًا في داخل كل من تعلقت روحه بأسرار القبلة الشريفة، وليس التاريخ وحده الذي يدور دورته هو الفيصل والحكم، إنما الحاضر الذي بتنا نحن رواده، فالشعوب هي محرك التاريخ التي تخط بأفعالها تاريخها، لتكون شاهدةً على حقبة زمنية كان عنوانها خذلان العرب.