ستون يومًا على حصار قطر ولا بوادر أو مؤشرات إيجابية عن قرب انفراج الأزمة الخليجية المفتعلة، هذه الأزمة التي شغلت المنطقة والعالم وطغت على ما سواها من أحداث، فحتى الحرب على الموصل في العراق والرقة في سورية، وما خلفته من ضحايا لم تنجح في سرقة شيء من الاهتمام إلا في بعض الجزئيات كعدد ضحايا الموصل من المدنيين العزل الذي قدره وزير خارجية العراق السابق هوشيار زيباري بنحو 40 ألفًا.
عند البحث في أسباب وحيثيات الحصار الذي تفرضه ثلاث دول خليجية (السعودية – الإمارات – البحرين – مصر) على دولة قطر، فإننا سنكتشف أنها لم تكن منطقية، بل كيدية بالدرجة الأولى، وسيتضح لاحقًا أن عراب الأزمة محمد بن زايد، سعى لاستغلال وتوظيف أحداث وظروف إقليمية ودولية ظن أنها مواتيه لتصفية حسابات قديمة مع قطر، بهدف تحجيمها ومنعها من التأثير في ملفات وقضايا المنطقة، ساعده على ذلك وجود الأمير محمد بن سلمان الطامح لخلافة والده على عرش المملكة، وما تمثله من ثقل، ربما يكون على وشك الاندثار بسبب سياسات الأمير الصغير.
مخطط ابن زايد وجد صداه لدى ترامب المخذول ماليًا من قطر التي رفضت إقراض مؤسساته مبلغ 500 مليون دولار، ولا حتى الاستثمار في مشاريعه التي ارتأى “جهاز قطر للاستثمار” حينها أنها غير ذات جدوى، وهو ما يفسر اتفاق الرجلين على تركيع الدولة الصاعدة بقوة، مما سيترك الساحة خالية لابن زايد ليستفرد بملفات المنطقة وتوجيهها كيف يشاء، وليس أدل على ذلك من التصريح المتملق لسفيره في واشنطن “يوسف العتيبة”، عن رغبة دول الحصار في رؤية المنطقة وقد حكمتها أنظمة علمانية مزدهرة.
أبو ظبي لم توجه هذه اللوبيات ضد إيران التي تحتل ثلاث جزر إماراتية، فهي صديق وشريك
الحديث عن المال والاستثمار حديث ذو شجون، فليس كل الاستثمار نظيف، والمتابع لمسار الأحداث لا بد أن يلحظ أثر المال الفاسد في كل ما يجري، فحكومة أبو ظبي وظفت ومنذ سنين جزءًا مهمًا من عوائدها المالية في تشكيل لوبيات ضغط من خلال شراء ولاءات مسؤولين وسياسيين وعسكريين وكتاب ومؤسسات تبيض صفحة حاكم أبو ظبي وتدعم مواقفه.
المفارقة الكبرى أن أبو ظبي لم توجه هذه اللوبيات ضد إيران التي تحتل ثلاث جزر إماراتية، فهي صديق وشريك، ولا ضد الكيان الصهيوني العدو التاريخي المفترض للأمتين العربية والإسلامية، فالإمارات في حالة تطبيع معه، ولم توظفها من أجل وقف المجازر التي يرتكبها نظام الأسد ومليشيات إيران الطائفية بحق الشعب السوري، “لا”، فهو أيضًا صديق تدعمه كما باقي أنظمة الاستبداد في المنطقة، ولا ننسى أن كثيرًا من هؤلاء يقيمون في الإمارات بصحبة ما نهبوه من أموال الشعوب.
المضحك المبكي والمخجل في آن معًا، أن حاكم أبو ظبي والإمارات الفعلي قد وظف ما لديه مع لوبيات وعلاقات عامة، ضد دولة قطر التي يفترض أنها من أقرب الدول لاتحاد مشايخ الإمارات الذي تسيطر عليه مشيخة أبو ظبي التي شهدت الكثير من الانقلابات وحالات التصفية الجسدية لعدد من الشيوخ بسبب التنافس على الحكم، وهناك اتهامات لابن زايد نفسه بتسميم أخيه غير الشقيق سلطان، والإبقاء عليه حاكمًا شكليًا، وكذلك تصفيته اثنين من إخوته غير الأشقاء في حوادث تحطم طائرات في المغرب والإمارات وهما أحمد ومنصور.
بعد شهرين من المقاطعة المتسلحة بحصار بري – بحري – جوي لا يبدو أن الدول المحاصرة في طريقها لتحقيق أي من أهداف قائمة المطالب الثلاث عشرة التي صيغت على عجل وتم التخلي عنها لاحقًا، ولا قائمة التفاهمات الست التي يحتاج تطبيقها لحوارٍ ينتج التزامًا من قبل الأطراف كافة.
سعت دول الحصار لمنع قطر من احتضان وحماية المضطهدين سياسيًا وزعزعة ثقتهم بدولة قطر وإظهارها بمظهر العاجز عن حماية من وقف إلى جانبها
قطر نجحت بكسر الحصار المفروض عليها خلال ساعات قليلة لعدة أسباب منها توقعها للأمر واستعدادها له والتكاتف الشعبي حول القيادة، إضافة للدعم الذي تلقته من عدة دول على رأسها تركيا وعمان والكويت، حتى دول فقيرة مثل الصومال رفضت الرشوة والانصياع لإملاءات دول الحصار.
الخطوط الجوية القطرية كانت بحق أحد أبطال كسر الحصار، فقد استنفرت أسطولها الجوي الضخم، وسيرت مئات الرحلات من وإلى الدوحة ناقلة آلاف الأطنان من المواد الغذائية والاستهلاكية، لدرجة أن أيًا من المواطنين والمقيمين لم يشعر أن هناك حصار، حتى في الأيام الأولى منه.
لقد حازت دولة قطر على تعاطف وتضامن الشعوب العربية، خاصة دول الربيع العربي ولعدة أسباب منها:
أولاً: العبث الإماراتي السعودي في الشؤون الداخلية لدول الربيع العربي ودعمهما الأنظمة الديكتاتورية وتمويل الحملات العسكرية الخارجية.
ثانيًا: امتنان وتقدير الشعوب العربية للدور القطري الداعم لحراكها السلمي واستثمارها الإيجابي فيه.
ثالثاً: استشعار الشعوب أن الأزمة الخليجية مفتعلة وأن الحصار ظالم.
رابعًا: الحكمة التي صبغت الموقف القطري وردود فعله وعدم مبادلة الإساءة بالمثل والجنوح للسَّلم لحل الأزمة بالحوار، مع عدم التخلي عن الثوابت أو التفريط في السيادة، وهو ما أكدت عليه كلمة أمير الدولة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني.
لقد سعت دول الحصار لمنع قطر من احتضان وحماية المضطهدين سياسيًا، وزعزعة ثقتهم بدولة قطر وإظهارها بمظهر العاجز عن حماية من وقف إلى جانبها أو لجأ إليها هربًا من الظلم والاستبداد، لا سيما أن القطريين يفخرون ببلدهم ويسمونه “قلعة المضيوم”، وهو ما يزعج دول الحصار التي يتعرض المقيمون فيها للظلم الذي قد يصل حد الاستعباد، بالإضافة لفرض رسوم إقامة خيالية وزيادة أخرى كالعلاج.
استطاعت دولة قطر تجاوز الأسوأ، فامتصت الصدمة وتعايشت مع الواقع وقبلت بإفرازاته، ثم انطلقت للبحث عن حلول مبتكرة وشركاء تجاريين جدد
من هنا فإن قرار قطر منح إقامة دائمة لفئات من المقيمين، جاء في توقيت وسياق صحيحان، ومحرجًا لدول الخليج فيما يخص العمالة، وليثبت مجددًا الحنكة التي يتمتع بها صانع القرار القطري، الذي لم يحرق المراحل ولم يكشف كل أوراقه كما فعلت دول الحصار التي رمت بكل ما في جعبتها دفعة واحدة، ثم جلست تتسول المواقف والأحداث وتبحث عن مخارج للأزمة.
صحيح أن الحصار مكلف لقطر، كونه جاء شاملاً مفاجئًا، قُصِدَ منه الإرباك وإحداث بلبلة داخلية، لكنه في المحصلة كان مفيدًا، فقد عزز استقلالية قرارها وسيجنبها الارتهان لأي جهة مستقبلاً، وهو أيضًا تسبب بخسائر لدول الحصار تفوق بأضعاف خسائر قطر، التي كانت تستورد معظم احتياجاتها من دول الحصار الشقيقة؟!
فرض الحصار الظالم في شهر رمضان، كشف عمق التفكك والبؤس الذي تعيشه منظومة دول مجلس التعاون الخليجي، التي تميزت علاقات أعضائها بالبلطجة وفرض المواقف والقرارات بقوة عضلات الشقيق الأكبر، وهو ما كان يزعج سلطنة عمان ويدفعها للنأي بنفسها عن الكثير من سياسات المجلس.
لقد استطاعت دولة قطر تجاوز الأسوأ، فامتصت الصدمة وتعايشت مع الواقع وقبلت بإفرازاته، ثم انطلقت للبحث عن حلول مبتكرة وشركاء تجاريين جدد، وهو ما عزز مصداقيتها وثباتها على مواقفها المبدئية، فظهرت أمام العالم بمظهر الأكثر احترامًا للعهود والاتفاقيات والمواثيق الدولية وحقوق الإنسان، بما فيها حرية التعبير المعدومة كليًا في باقي دول المنظومة الخليجية، فقطر لم تبادل الإساءة بالمثل، فلم تقطع الغاز عن الإمارات، ولم تطرد مقيمًا، وبهذا فإنها تكون قد انتقلت لمرحلة جديدة، رفعت فيها سقف التحدي، تحدي النفس أولاً بالثبات على القيم والمبادئ وإثبات الوجود، قبل تحدى مُحاصِريها وإفشال حصارهم لها ثانيًا.