أصبحت ألمانيا خلال الفترة الماضية قوة اقتصادية كبيرة تحرك نفوذها الاقتصادي عبر أموالها واستثماراتها ووسائل اقتصادية منشترة حول العالم بما يصب لصالحها في الدرجة الأولى. وعلاوة على أنها أكبر قوة اقتصادية في أوروبا فقد زادت ألمانيا من استخدام قوتها الاقتصادية مع دول عدة حول العالم خلال الفترة الماضية للنهوض بأهداف استراتيجية كبيرة.
يقود الاقتصاد الألماني أوروبا ويوجهها خاصة في زمن الأزمة حيث يحتل المركز الرابع عالميًا من حيث الناتج المحلي الإجمالي، بعد كل من أمريكا والصين واليابان، كما يتمتع الألمان بقوة شرائية عالية المستوى ويميل المجتمع الألماني بطبعه إلى الادخار بنسب هي الأعلى عالميا تبلغ 35.11% مقارنة بنسبة 2% أمريكيا.
وقد حافظت ألمانيا على الجبهة الأوروبية الموحدة مدة ثلاث سنوات، متحدية كل التوقعات، فخلال السنوات الثلاثة الماضية مرت على أوروبا أزمات سياسية واقتصادية حافظت فيها ألمانيا على تماسك الاتحاد الأوروبي سياسيًا واقتصاديًا.
سياسة ألمانيا مع الدول الأوروبية
وصف العديد من الخبراء الأوروبيين أن “أوروبا ألمانية” بسبب التأثير الكبير التي تتمتع به ألمانيا في المؤسسات الأوروبية مثل لجنة الاتحاد الأوروبي ومجلس الوزراء والبرلمان الأوربيين. آخرين لديهم وجهة نظر أخرى في قيادة ألمانيا للاتحاد الأوروبي، حيث يقول ساشا دو فايس العامل في مركز الأبحاث والعضو في تنظيم شبكة أزمة العمل في بروكسل، أن “ألمانيا ليست قوية لأنها كذلك، بل أن جيرانها ضعفاء“.
تظهر هذه المعادلة جلية لدى مقارنة الدور الذي تلعبه ألمانيا في أوروبا مع الدور الفرنسي، ففرنسا منشغلة بإصلاحاتها الداخلية وضعف اقتصادها، على عكس ألمانيا التي تبدو في أفضل حالاتها. وفي هذا السياق يشير النائب الألماني في البرلمان الأوروبي إلمار بروك، “إننا نأمل في أن تأخذ فرنسا دورها في القيادة، لأن ذلك سيخفف من العبء المضاعف على ألمانيا”.
تعامل ألمانيا وأفعالها سواءًا فيما يخص سياستها مع دول أوروبا أو مع دول العالم، يشير إلى أنها تحاول دومًا الانحناء للوراء لطمأنة الدول الأخرى بشأن نوايا ألمانيا تجاهها، لذا تسعى دومًا للقيادة من الوسط
إذ أصبحت ألمانيا مصدر القرارات الحاسمة في أوروبا، كاتخاذ الآليات المناسبة لانتشال منطقة اليورو من الركود، وإنقاذ اليونان ودول أخرى في المنطقة من إفلاس محتمل ومنع تفكك العملة الموحدة. بل وأصبحت بفضل اقتصادها القوي المعتمد على الإنتاج تفرض شروطها على شركائها الأوروبيين وتقييدهم بسياسات تفرضها عليهم لقاء منحهم مساعدات وقروضا، ولم تعد القاطرة التي ترفد اقتصادات الدول الأوروبية وتسعى لازدهارها جميعًا.
أحد الأمثلة البارزة التي تدلل على تزعم ألمانيا لأوروبا ظهرت خلال الأزمة المالية التي واجهت اليونان، حيث يرى مراقبون أن المانيا كان لها الدور الأبرز في تحفيز المانحين (الاتحاد الأوروبي، البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) وتوفير مظلة الأمان الأوروبية، وذكر وزير المالية اليوناني السابق، أن “مفتاح حل” الأزمة المالية التي تعصف باليونان موجود لدى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
فالرفض من قبل ألمانيا لكل اقتراح يوناني كان إشارة واضحة ترسلها ألمانيا إلى شركائها الأوروبيين بأن عهد التضامن والامتيازات قد ولى، وأن على دولة تسعى إلى إخلال التوازن في منطقة اليورو أن يتلاءم مع فقدان استقلاليته في اتخاذ القرارات الحاسمة وأن يقبل بالإملاءات الألمانية.
أصبحت ألمانيا مصدر القرارات الحاسمة في أوروبا، كاتخاذ الآليات المناسبة لانتشال منطقة اليورو من الركود، وإنقاذ اليونان ودول أخرى في المنطقة من إفلاس محتمل ومنع تفكك العملة الموحدة
مع ذلك منعت برلين كل محاولات فشل المفاوضات بين الدائنين الذين منحوا قروضًا للحكومة اليونانية، ففشل المفاوضات سيؤدي لخروج اليونان من أوروبا، وهذا يعني إرث سياسي للمستشارة الألمانية ميركل وإشارة تاريحية أن ألمانيا هي التي سببت بطرد اليونان من أوروبا. إضافة إلى التوتر المتوقع الذي سيحدث بين ألمانيا وحلفاءها كالولايات المتحدة وفرنسا.
حتى أن رئيس المعهد الألماني للدراسات الاقتصادية (دي آي في) مارسل فراتشر، ذكر في مقالة له منشورة في صحيفة “داي فيلت” “إن ألمانيا ستدفع ثمنا سياسيًا باهظًا، وخروج اليونان سيعتبر في أوروبا وفي العالم بمثابة فشل للسياسة الألمانية”. من جهة أخرى يلقي مراقبون اللوم على ميركل نفسها، لتفاقم أزمة اليونان المالية، حيث تركت الأزمة تتراكم خلال أعوام في غياب قرار بشأن حل دائم، إما الخروج من منطقة اليورو أو إعادة هيكلة الديون.
ومع ذلك كانت ألمانيا أكبر المستفيدين من الأزمة اليونانية، حيث حققت مكاسب من الأزمة المالية اليونانية بلغت 109 مليارات دولار، بحسب دراسة منشورة في معهد ليبنيز للأبحاث الاقتصادية. وذكرت الدراسة أنه عندما يواجه المستثمرون أي اضطرابات مالية، فإنهم يسعون في العادة إلى العثور على ملجأ آمن لأموالهم، وقد استفادت ألمانيا -عملاق التصدير- “بشكل كبير” من ذلك خلال أزمة الدين اليوناني.
سياسة ألمانيا الخارجية
برزت قوة ألمانيا الاقتصادية وسياساتها على الخارج أيضًا، كما في تركيا، والصين، وروسيا، والولايات المتحدة ودول أخرى. إذ زادت ألمانيا استخدام قوتها الاقتصادية للنهوض بأهداف إستراتيجية ضخمة، كما يرى مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية مارك ليونارد، في مقال له القوة المالية الجديدة لألمانيا.
ألمانيا عدت أكبر المستفيدين من الأزمة اليونانية حيث حققت مكاسب من الأزمة المالية اليونانية بلغت 109 مليارات دولار
وأبرز تلك العلاقات ما يحدث بينها وبين تركيا، حيث قطع وزير الخارجية الألماني سيغمار غابرييل عطلته الأسبوع الماضي للرد على سجن تركيا للناشط الألماني لحقوق الإنسان. وحذر غابرييل السياح الألمان من مخاطر زيارة تركيا، ونصح الشركات الألمانية بالتفكير مرتين قبل الاستثمار في بلد يتزايد فيه التشكيك في التزام السلطات بسيادة القانون.
وقد بلغ عدد الاشتباكات بين ألمانيا وتركيا، حوالي 12 اشتباكًا منذ مارس/ آذار العام الماضي، وأشارت الناطقة باسم وزارة الاقتصاد الألمانية إن الحكومة تعيد النظر في جميع الطلبات التي تقدمت بها تركيا للمشاركة في مشاريع الأسلحة، من دون الإفصاح عن المزيد من التفاصيل، ونقلت صحيفة “بيلد” الألمانية في وقت سابق أن برلين علقت جميع مشاريع الأسلحة مع أنقرة.
ومع كل تلك الخلافات مع تركيا، إلا أن ألمانيا دائما ما تحتفظ بمسافة أمان معها، إذ دافعت ألمانيا من أجل اتفاق مع تركيا للحد من تدفق اللاجئين إلى أوروبا، وإعادة صياغة العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا.
ومن شأن فرض ألمانيا على تركيا عقوبات اقتصادية، أن تضر الاقتصاد التركي بالدرجة الأولى، إذ صدّرت تركيا خلال الأشهر الستة الأولى من العام الحالي، ما قيمته 7 مليارات دولار لألمانيا، بما يشكل 10% من مجمل الصادرات التركية في العام نفسه. وبحسب وزارة الاقتصاد التركية، فإن تركيا تمكّنت خلال السنوات الخمس الأخيرة من استقطاب 47.9 مليار دولار كاستثمارات أجنبية، كانت حصة الألمان فيها 3.8 مليارات، بما يشكل 8% من الاستثمارات المتدفقة إلى البلاد.
صدّرت تركيا خلال الأشهر الستة الأولى من العام الحالي، ما قيمته 7 مليارات دولار لألمانيا، بما يشكل 10% من مجمل الصادرات التركية في العام نفسه
وفي حسابات الربح والخسارة، يميل الميزان التجاري في العلاقات بين البلدين لصالح تركيا، إذ تُعتبر الأسواق الألمانية واحدة من أهم أسواق تصدير السلع التركية، وبالتالي الخسائر التركية ستكون الأكبر في حال تطبيق أي عقوبات، وبحسب أرقام مجلس المصدّرين الأتراك، فقد احتلت الأسواق الألمانية المرتبة الأولى لتصدير السلع التركية.
سياسات ألمانيا سواءًا مع دول أوروبا أو مع دول العالم، تشير إلى أنها تحاول دومًا الانحناء للوراء لطمأنة الدول الأخرى بشأن نوايا ألمانيا تجاهها، لذا تسعى دومًا للقيادة من الوسط بما يضمن لها المساهمة في القيادة وليس القيادة بحد ذاتها، في حين أنها تحاول عبر اقتصادها وملاءتها المالية القوية التأثير على اقتصادات دول الجوار ودول العالم.