طيلة سنوات الاستعمار الفرنسي التي امتدت لـ 132 سنة، اضطرّ الجزائريون خوض معارك كبرى سعيًا إلى تحرير بلادهم ونيل الاستقلال الكامل، الذي يمكّنهم من تقرير مصيرهم دون أي وصاية خارجية.
ولتحقيق هذه الغاية، قدم الجزائريون مئات آلاف الشهداء، وبرز عدد من القادة الذين ناضلوا وكافحوا في سبيل تحرير البلاد، كما برزت جماعات وأحزاب تبنّت الكفاح المسلح من أجل طرد المستعمر الفرنسي عن أراضيهم، إذ كانت البداية سنة 1830 بزعامة الأمير عبد القادر الجزائري (عبد القادر بن محيي الدين بن مصطفى)، حتى نيل الاستقلال منتصف سنة 1962 بقيادة جيش التحرير، وما بينهما مراحل وجولات من النضال والمقاومة.
ثورة نوفمبر
بعد 124 سنة من الاستعمار، انطلقت الشرارة الأولى لحرب التحرير، وانتهت بإعلان الاستقلال يوم 5 يوليو/ تموز 1962، متوّجة 7 سنوات من الكفاح المسلح الذي أسفر عن استشهاد مليون ونصف المليون جزائري.
طُرحت فكرة “الحل العسكري” كبديل للمسار السياسي السلمي، قبل تاريخ انطلاق ثورة التحرير بـ 4 أشهر، خلال اجتماع التقى فيه 22 فردًا من شباب الحركة الوطنية في منزل بأعالي العاصمة الجزائرية.
اختار المجتمعون اسم “جبهة التحرير الوطني” لمنظمة تحرّرية مسلحة، تعمل على استقلال الجزائر، ومن أبرز القادة في ذلك الوقت محمد بوضياف، ومصطفى بن بولعيد، والعربي بن مهيدي، ومراد ديدوش، ورابح بيطاط وكريم بلقاسم.
أُطلقت أول رصاصات ثورة التحرير من جبال الأوراس شرق الجزائر، وتواترت العمليات المسلحة في مناطق مختلفة من البلاد، بالتزامن مع توزيع المنشورات باللغتَين العربية والفرنسية، وأحصت الإدارة الاستعمارية ليلة انطلاق الثورة 30 حادثًا، أخطرها في مناطق الأوراس والقبائل والعاصمة والشمال القسنطيني ووهران غربًا.
بعد 5 أيام من انطلاق الثورة، أصدرت حكومة منديس فرانس مرسومًا يقضي بحلّ كل المنظمات والهيئات السياسية الجزائرية، والقبض على أكثر من 500 فرد من مناضلي ومسؤولي الحركة الوطنية، لكن ثورة جيش التحرير لم تخمد، وتواصلت العمليات المسلحة ضدّ مواقع وهيئات وشخصيات فرنسية.
وفي بداية سنة 1955، تضاعف عدد الجنود الفرنسيين بالجزائر وأعلن الحلف الأطلسي مساندته الحكومة الفرنسية في عدوانها على الجزائر، كما صادق البرلمان الفرنسي على قانون حالة الطوارئ بالجزائر، ليفرَض في اليوم التالي على منطقة الأوراس والقبائل، ومن ثم بسكرة والوادي.
كما اعتمدت فرنسا على منظمة اليد الحمراء، وأسندت إليها وظيفة تصفية معارضي الاحتلال الفرنسي بشكل سرّي، واستهدفت المنظمة نشطاء حركة التحرر والداعمين لهم داخل الجزائر وخارجها، خاصة في ألمانيا الغربية وسويسرا وبلجيكا وإيطاليا وهولندا.
تمّت العملية الأولى لمنظمة اليد الحمراء في هامبورغ (ألمانيا) يوم 28 سبتمبر/ أيلول 1956، حيث تم استهداف مكاتب شركة أوتو شلوتر، وهو مزود أسلحة لفائدة جبهة التحرير الوطنية الجزائرية، بقنبلة، ما أدّى إلى مقتل شريكه متأثرًا بجراحه الخطيرة وإصابة والدته.
أمام التضييق الفرنسي، انتهج جيش التحرير حرب العصابات والضربات الفردية المركّزة على الأهداف الفرنسية في المدن الكبرى، وتم تقسيم البلاد إلى 6 ولايات، تتوزع بدورها إلى مناطق وكل منطقة على نواحٍ، وكل ناحية إلى قسمات، تعمل وفق أوامر وتعليمات قيادة الثورة، بناء على نتائج مؤتمر الصومام الذي عُقد في 20 أغسطس/ آب 1956.
كما انتهجت جبهة التحرير سياسة الاضطرابات، من ذلك شُنّ إضراب شامل من 28 يناير/ كانون الثاني إلى 4 فبراير/ شباط 1957، بهدف الضغط أكثر على المستعمر الفرنسي الذي انتهج سياسة الأرض المحروقة لمواجهة الثورة.
يوم 4 يونيو/ حزيران 1958، اضطرّ الرئيس الفرنسي شارل ديغول إلى دعوة قادة جبهة التحرير علنًا إلى المصالحة، رغبة منه في تطويق حركة المقاومة وإحكام سيطرة بلاده مجددًا على الجزائر، خاصة أن تونس والمغرب قد استقلتا.
أمام تزايُد خسائرها وعدم قدرتها على السيطرة على الوضع، جلست السلطات الاستعمارية مجددًا على طاولة المفاوضات، ووقّعت على اتفاقيات إيفيان في سويسرا مع قادة جبهة التحرير بتاريخ 18 مارس/ آذار 1962، بمقتضاها يجرى استفتاء لتقرير مصير الجزائريين، وحُدّد تاريخ الاستفتاء في 1 يوليو/ تموز 1962، وصوّت الجزائريون لصالح “دولة مستقلة” ابتداء من تاريخ 5 يوليو/ تموز 1962.
المنظمة الخاصة
قبل تأسيس جيش التحرير، كانت هناك حركة مسلحة حملت اسم “المنظمة الخاصة”، ظهرت إلى العلن في فبراير/ شباط 1947، وكان محمد بلوزداد مسؤولًا أولًا عن هذا التنظيم التابع لحزب الشعب -حركة انتصار الحريات الديمقراطية-، وتولى مكانه آيت أحمد نهاية سنة 1947 ثم أحمد بن بلة في سنة 1949.
مارسَ حزب الشعب الجزائري النضال المسلح عبر “المنظمة الخاصة”، بعد أن رأى أن المقاومة السياسية لن تنفع ولن تحقق مطالب الشعب الجزائري، عكس الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري والحزب الشيوعي الجزائري، وباقي التشكيلات السياسية الناشطة في ذلك الوقت.
ركّزت المنظمة الخاصة على العمليات النوعية، من ذلك الهجوم على بريد وهران، والتكوين العسكري والتدريب على مختلف الأسلحة والمتفجرات، وجمعها وتوزيعها، وفضح جرائم الاستعمار، فضلًا عن التكوين العقائدي، وكان اختيار أعضاء المنظمة يتم على أساس بعض المعايير، مثل “القناعة والشجاعة البدنية والكتمان والسرّية”.
كان للمنظمة هيئة أركان تتكون من رئيس المنظمة، ورئيس هيئة الأركان والمدرّب العسكري، ولها مسؤولون على مستوى الولايات، ومسؤول شبكات الاستعلامات والاتصالات، وكان الاتصال بين المنظمة والمكتب السياسي لحزب الشعب يتم عن طريق وسيط يُسمّى “المندوب الخاص”.
ضمن هيكلة المنظمة برزت بعض الشبكات المختصة، وهي شبكة المتفجرات: التي تصنع القنابل ودراسة تخريب المنشآت القاعدية الاستعمارية، وشبكة الإشارة: المتخصصة في الاتصالات بالراديو والكهرباء، وشبكة التواطؤ: التي تهتم بإيجاد مخابئ للمتخفين من المناضلين حتى لا تدركهم القوات الاستعمارية، وإعداد مخابئ للأسلحة والذخيرة.
كما برزت شبكة الاتصالات: التي تتكفّل بشراء أجهزة الاتصالات والتدرُّب عليها، فضلًا عن شبكة الاستعلامات: وهي تهتم بالاطّلاع على تصرفات وتحركات الأجهزة العسكرية والبوليسية والإدارية الفرنسية، ومعاقبة الخونة.
بعد 3 سنوات من النشاط السرّي، اكتشفت المخابرات الفرنسية أمر هذه المنظمة، وتعرض عناصر المنظمة إلى المطاردة والاضطهاد والسجن، وقد تمّ اعتقال 5 آلاف عضو وحُلَّ التنظيم في النهاية، لكن أعضاءه كانوا من أبرز قادة التحرير فيما بعد.
حركات شعبية
قبل تلك الفترة، اعتمدت بعض الحركات الشعبية على النضال السلمي لتحقيق استقلال الجزائر، وبرزت حركة نجم شمال أفريقيا التي تأسّست عام 1926 في باريس بقيادة مصالي الحاج، قبل أن تتحول عام 1937 إلى حزب الشعب الجزائري، ثم إلى حركة انتصار الحريات الديمقراطية عام 1946.
تأسّست حركة نجم شمال أفريقيا في فرنسا من قبل عمّال جزائريين مهاجرين، وكانت نواتها الأولى عبد القادر الحاج علي، ومصالي الحاج، وسي الجيلالي، فالأمير خالد الحسني بن هاشمي المعروف باسم الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر الجزائري، وكان الرئيس الشرفي للحركة.
ضمّت الحركة في بداية التأسيس التونسيين والمغاربة، لكنهم انسحبوا سنة 1927 ليصبح النجم حزبًا للجزائريين وحدهم، كان الهدف الأول حماية مصالح الشريحة العمالية، ثم تطور وأصبح الحصول على الاستقلال والانسحاب الكلّي لقوات الاحتلال وبناء دولة مدنية حديثة.
اضطرت فرنسا للاعتراف بإمارة الأمير عبد القادر، لكنها سرعان ما خلفت المعاهدة الموقعة بينهما وهجمت مجددًا على الأمير وقواته، ما دفعه إلى الاستسلام سنة 1947 خشية تدمير الفرنسيين ما تبقى من مدن جزائرية
انخرطت حركة نجم الشمال في النضال ضدّ المستعمر الفرنسي، وقادت الإضرابات والمظاهرات، وساندت مطالب الحركات الاجتماعية والعمالية، ما عرّض قادتها للملاحقة والسجن، وتم حلّ الحركة نهاية يناير/ كانون الثاني 1937، وتشكّل حزب آخر هو حزب الشعب الجزائري في السنة نفسها، حيث حضر الاجتماع التأسيسي أزيد من 300 مناضل، وتمّ انتخاب مصالي الحاج رئيسًا للحزب.
قرر رئيس الحزب مصالي الحاج نقل نشاطات الحزب إلى الجزائر، وبسرعة تمكّن من الانتشار بين الجزائريين واكتسب قاعدة شعبية كبيرة في مختلف مناطق البلاد، ما دفع سلطات الاحتلال إلى التضييق على قادته وحظر نشاطه في بعض الأحيان، لكن هذا الحزب لم يطالب بالاستقلال الكامل، إنما بحكم ذاتي كامل للجزائر في قلب الجمهورية الفرنسية، ما أدّى إلى تراجعه وحصول تشقُّق داخله، فانسحب بعض القادة وشكّلوا المنظمة العسكرية الخاصة.
حركات المقاومة
المقاومة الجزائرية لم تبدأ مع جيش التحرير ولا مع الحركات السياسية الشعبية، إنما بدأت مع وصول أول جندي إلى الأراضي الجزائرية سنة 1830، إذ لم يرضخ الجزائريون للاستعمار بسهولة، إنما بذلوا كل جهودهم للتخلُّص من السيطرة الفرنسية في بلادهم.
انطلقت حركات المقاومة، وعلى رأسها الأمير عبد القادر الجزائري الذي تمّت مبايعته للجهاد ضدّ المستعمر في غرب البلاد، وكان عليه في البداية تجميع القبائل وإنجاح مهمة توحيدها، وهو ما تمَّ بالفعل.
يعتبَر الأمير عبد القادر مؤسّس الدولة الجزائرية الحديثة، وما أن تمّت مبايعته حتى سعى إلى توسيع نفوذه، وضمَّ تلمسان ومليانة ومعسكر تحت جناح سلطته، وقسّم الأمير دولته إلى 8 مقاطعات، ووضع على رأس كل منها مسؤولًا ينوبه، وكانت مهمة خلفائه هي ضمان الوحدة حتى يتمكنوا من مواجهة المستعمر.
كوّن الأمير جيشًا نظاميًّا وقام بتسليحه، وجعل للجنود رواتب متأتية من الزكاة والأعشار، ووضع أُسُس الترقيات، واهتمَّ بزيّهم العسكري ووحّده، كما قسّم الأمير عبد القادر جيشه إلى جيش مشاة وجيش بحر وخيالة، وأرسل مبعوثين من الجزائر لجلب أوروبيين من أجل تدريب الجنود على استخدام السلاح.
خاض الأمير عبد القادر معارك عديدة ضد الفرنسيين، مثل معركة مستغانم سنة 1833، ومعركة التافنة والسكّاك سنة 1836، ومعركة غابة كرازة سنة 1840، ثم لجأ إلى حرب العصابات في معارك أخرى مثل معركة الزمالة سنة 1843، ومعركتَي جبل كركور ووادي مرسي سنة 1845.
اضطرت فرنسا للاعتراف بإمارة الأمير عبد القادر، لكنها سرعان ما خلفت المعاهدة الموقعة بينهما وهجمت مجددًا على الأمير وقواته، ما دفعه إلى الاستسلام سنة 1947 خشية تدمير الفرنسيين ما تبقى من مدن جزائرية، والقضاء على ما بقيَ معه من مقاومين.
لم تقتصر المقاومة على غرب البلاد فقط، إنما شملت الشرق أيضًا وقد قادها أحمد باي، وامتدت هذه المقاومة من سنة 1830 إلى سنة 1847، وخلالها أحاط نفسه برجال ذوي خبرة ونفوذ في الأوساط الشعبية من قبائل وأُسر عريقة، بهدف تحصين عاصمته قسنطينة.
ضمن استراتيجية المقاومة المتّبعة، أمرَ أحمد باي ببناء الخنادق والثكنات، كما أمرَ بتجنيد الرجال، وأعاد تنظيم السلطة فنصّب نفسه باشا خلفًا للداي حسين، ثم ضرب السكة باسمه وباسم السلطان العثماني، محاولًا بذلك توحيد السلطة التشريعية والتنفيذية خدمةً للوحدة الوطنية.
حاصر أحمد باي القوات الفرنسية داخل المدن الساحلية المحتلة، مثل عنابة، بعتاد بسيط لا يقارَن بما يملكه العدو الفرنسي، إلا أنه حقق انتصارات كبرى، ما دفع السلطات الفرنسية إلى محاولة جلبه لصفّها مقابل الاعتراف به باي على قسنطينة، وهو ما رفضه أحمد باي، لكن مقاومته لم تدم طويلًا فاستسلم سنة 1847.
عرفت الجزائر أيضًا حركات تحررية أخرى، منها مقاومة الشيخ المقراني والشيخ بوعمامة، التي استمرت مدة 23 سنة
ظنَّ الفرنسيون أنه باستسلام أحمد باي وقبله الأمير عبد القادر أن المقاومة ستنتهي، لكن خاب ظنهم، فسرعان ما قامت ثورة قادها الشيخ أحمد بوزيان في واحة الزعاطشة بضواحي بسكرة جنوب البلاد، واستمرت الثورة من 16 يوليو/ تموز إلى 26 نوفمبر/ تشرين الثاني 1849.
أعلن الشيخ بوزيان الجهاد عبر مآذن مساجد الواحات، مستغلًّا قلة عدد القوات الفرنسية المرابطة بمركزَي باتنة وبسكرة، وغياب القائد العسكري سان جرمان عن دائرة بسكرة، وقد كبّد المستعمر خسائر كبرى في بداية المعارك.
ضاعف المستعمر أعداد الجنود وحاصروا واحة الزعاطشة، وأُعطيت الأوامر بإبادة سكان الواحة وقطع أشجار النخيل وحرق المنازل، ومع ذلك صمد السكان واشتبكوا مع الجند، حتى سقطوا عن آخرهم بمن فيهم الشيخ أحمد بوزيان.
ضمن المقاومة الشعبية برزت أيضًا لالّة فاطمة نسومر (1851-1857)، التي انضمت إلى المقاومة إلى جانب الشريف أبو بغلة الذي قدمَ من جبال بابور دفاعًا عن منطقة جرجرة، فشاركا معًا في معارك عديدة، وجُرح أبو بغلة في إحدى المعارك فأنقذت فاطمة حياته، وقد طلبها للزواج فلم تستطع لتعليق زوجها الأول عصمتها.
خلال ثورتهما، تصيّد الشريف أبو بغلة ولالّة فاطمة نسومر عملاء الاحتلال الفرنسي وأبرز قادته، كما واجها المستعمر الفرنسي مباشرة، ما جعل السلطات الفرنسية التي كانت متخوفة من امتداد المقاومة الشعبية تركّز اهتمامها على إخمادها، وكان لها ذلك بفضل عملائها.
عرفت الجزائر أيضًا حركات تحررية أخرى، منها مقاومة الشيخ المقراني والشيخ بوعمامة، التي استمرت مدة 23 سنة من سنة 1881، تقوى أحيانًا وتفتر أخرى، إلى غاية سنة 1904، وشارك فيها حتى المغاربة.
شاركت أغلب فئات المجتمع الجزائري في حركات المقاومة ضدّ المستعمر الذي كان ينوي إبقاء سيطرته على بلادهم، وسط الثروات الكثيرة التي يحتويها هذا البلد العربي، لكن إرادة الجزائريين كانت أشدّ وأقوى.