عادت سلسلة أفلام “فضائي” Alien إلى قاعات السينما، بجزء جديد يحمل عنوان Alien:Covenant كتكملة للفيلم السابق بروميثيوس Prometheus (سنة 2012) وكحلقة وصل بين أحداث الجزء الأول والأحداث التي عرفناها في الفيلم الأصلي لسنة 1979.
لقد عادت السلسلة منذ 2012 إلى مخرجها الأول ريدلي سكوت Ridley Scott الذي ارتبطت به وارتبط بها، رغم تعاقب مخرجين كبار على أجزائها الأربعة التالية، إذ قدم جيمس كامرون الجزء الثاني Aliens سنة 1986، وأخرج دايفد فينشر الجزء الثالث Alien3 سنة 1992 وأشرف صاحب تحفة Amélie الفرنسي Jean-Pierre Jeunet على الجزء الرابع Alien Resurrection سنة 1997، فكان كل جزء أضعف من سابقه وأقل ثراءً وإثارة للجدل.
وربما ظُن أن ردلي سكوت يملك سر وصفة الرعب المطلوبة للكائن الفضائي الذي عُرف باسم زينومورف Xenomorph، فتم الاستنجاد به بسكوت لا بزينومورف! لإنجاز الثلاثية الجديدة التي بدأت مع فيلم بروميثيوس Prometheus.
لقد كانت الانتظارات كبيرة فيما يخص بروميثيوس ولكننا منينا بخيبة أمل تجعلنا لا نرجو الكثير من الجزء الثاني Covenant، وتجعلنا أيضًا نتساءل: ما الذي جعل Alien الأول أيقونة سينمائية بلا نظير في عالم الخيال العلمي؟ ولماذا فشلت المحاولات اللاحقة لاستعادة كل ذلك القدر من النجاح؟
تبدأ قصة “فضائي” مع قصة صنعه، فتعود بنا إلى بداية السبعينيات حين كان الكاتب دان أوبانون Dan O’Bannon مغمورًا يبحث عن انطلاقة ما، وكان المخرجُ الكبير جون كاربنتر John Carpenter طالبًا يبحث عن مشروع تخرج، أثمر لقاؤهما عن فيلم النجم المظلم Dark Star سنة 1974 وهو خيال علمي كوميدي تقريبًا، ولأن أوبانون كان يرغب في الحفاظ على الفكرة مع الانتقال من الكوميديا إلى الرعب، فقد بدأت فكرة Alien تتبلور.
استفاد أوبانون كثيرًا من تجربته مع التشيلي أليخاندرو خودورفسكي Jodorowsky في المحاولة الفاشلة لإنجاز فيلم كثيب Dune إذ التقى آنذاك بهانس غودي جيجه H. R Giger مصمم شخصية Alien فيما بعد، كما كان لقاؤه برونالد شوست Ronald Shusett لكتابة فيلم Total Recall مؤثرًا جدًا، فرونالد كان شريكه في كتابة Alien أيضًا، وبعدما عرضا النص على المنتجين، أعيدت كتابة الفيلم بشكل كلي، كما لم تكن شركة Fox 20th Century لتعطي الضوء الأخضر لإنتاجه لولا النجاح الكبير الذي حققه فيلم حرب النجوم حينئذ، لقد كان فيلم Alien النص الوحيد المتاح عن المركبات الفضائية!
إن كل هذه المعلومات مهمة جدًا لقراءة فيلمٍ لا يمكن إخضاعه لنظرية المؤلف الكلاسيكية Auteur theory، فإسهام ريدلي سكوت كان لاحقًا لتشكل أغلب ملامح Alien، بشكل تراكمي جماعي، ولا ينبغي لقراءة الفيلم أن تتجاوز هذه الحقيقة، ليس فقط لأنها جوهرية في عملية الفهم، وإنما لأن الفيلم كان واعيًا بها بشكل مدهش.
تتجلى هذه الحقيقة في كل مشهد في Alien، فكثيرًا ما يحيلنا إلى فكرة وفكرة مقابلة أو فكرة موازية، أو أفكار كثيرة أخرى غير مترابطة، مما يجعل محاولة توحيدها أو دمجها أمرًا غير مجدٍ، لذلك ارتأيت أن التمشي الأفضل هو أن نزور مشاهد الفيلم الجوهرية والتي يمثل كل منها قسمًا مستقلاً قابلاً للقراءة بشكل منفصل.
المشهد الأول: مشهد الولادة
وسط الظلام الذي يغلف الكون، ويغمر مركبة الفضاء نوسترومو Nostromo، يتخذ مشهد الولادة لونًا أبيض ساطعًا، يبدد به الظلمة، ويعلن من خلاله نهاية جمود طاقم نوسترومو الطويل.
إنها الولادة، حيث يخرج رائد الفضاء ليواجه المستقبل والمصير حاملاً لواء البشرية جمعاء، يمثل رائد الفضاء في مدونة الخيال العلمي، كل فضائل الإنسان الحديث، إنه الرجل الخارق الذي استطاع تجاوز السماء بفضل علمه وأخلاقه وقوته، وهو لذلك كله يكون رجلاً لا امرأة، بل إنه يخفي كل صفة جنسية له خلف زيه الأبيض الصامت، كما لاحظت ذلك فيفيان صُبشاك Vivian Sobchack في دراستها عن “عذرية رائد الفضاء1” .
وما من شك أن ردلي سكوت وطاقمه لا يجهلون هذه الأفكار، بل لعلهم استندوا إليها في صنع هذا المشهد، تأمل هذه الموسيقى الهادئة، وهذا النهوض المتدرج الناعم من كبسولة التجميد، ثم هذه القطع القماشية التي تخفي العورات وتنشد العفة كأننا أمام لوحة قروسطية لآدم وحواء.
تأخذ عملية الولادة إذًا بعدًا رمزيًا يصلح منطلقًا مفيدًا لقراءة الفيلم، فرائد الفضاء الذي يمثل زبدة الحضارة الإنسانية، وليد التقنية التي تمثلها الأم، وهو يدها التي ستطلقها عميقًا في الفضاء لسبر أغواره واختراق أسراره
أما فكرة الولادة، فتحيلنا إليها عناصر ثلاث، فأما الأولى ففكرة الاستيقاظ من بعد جمود طويل، كأن أعضاء الطاقم السبع قد منحوا حياة جديدة، والثانية، فخروجهم من كبسولات التجميد الزجاجية، كأنهم صنيعة الأنابيب، لقد كان أطفال الأنابيب أحد أهم أحداث السبعينيات، ولقد سبب هذا السبق البيولوجي جدلاً أخلاقيًا كبيرًا انتهى عند ذلك السؤال المفزع: هل بدأ العد التنازلي للتخلي عن المرأة كحامل للحياة؟ أما العنصر الثالث فهي الأم Mother، ذلك الكومبيوتر المركزي المشرف على مركبة نوسترومو، والمسؤول عن عملية الإيقاظ بعد تلقيه إشارات قادمة من كوكب قريب.
تأخذ عملية الولادة إذًا بعدًا رمزيًا يصلح منطلقًا مفيدًا لقراءة الفيلم، فرائد الفضاء الذي يمثل زبدة الحضارة الإنسانية، وليد التقنية التي تمثلها الأم، وهو يدها التي ستطلقها عميقًا في الفضاء لسبر أغواره واختراق أسراره.
ويمضي المشهد الموالي في ذات التوجه وهو يقدم للمشاهدين أعضاء الطاقم في أثناء تناولهم الطعام، حيث نلحظ منذ البداية سيطرة العنصر الرجالي، فهو الجنس الطبيعي لرواد الفضاء، ومن ضمن الرجال الخمس يبرز ثلاثي القيادة: دالاس قائد الطاقم الأول الذي يمثل فضيلة القيادة، آش Ash المسؤول العلمي الذي يرمز إلى فضيلة العلم والمعرفة، باركر Parker المسؤول الهندسي، وهو في الغالب يرمز إلى فضيلة الرجولة.
وهذا الثلاثي معًا يرمز إلى خصال الرائد العذري، وهو ما يمكن توقعه من مركبة تُسمى نوسترومو Nostromo (أو رَجُلُنَا)، وحتى على مستوى النساء، فتبدو لامبرت Lambert بشعرها القصير ولباسها المحايد أقرب إلى الذكور، وهي بشكل ما، تمثل الأنثوية المقموعة (والهستيرية أيضًا).
وحدها ريبلي Ripley تبدو بشعرها الطويل وسحنة وجهها الواثقة، أقرب إلى حقيقتها الأنثوية، يمثل القط Jones هذه الحقيقة، حيث يجلس هادئًا بجانبها على طاولة الطعام، ما علاقة القط بحقيقتها الأنثوية؟ هذا سؤال لا يليق طرحه، يكفي التأمل قليلا في معاني الكلمة بالإنجليزية.
المشهد الثاني: مشهد الاغتصاب الفموي
لئن تميز القسم الأول من الفيلم بمشهد الولادة، فإن جوهر القسم الثاني كان مشهد “مطوِق الوجه” Facehugger، لم يكن هجوم الكائن الفضائيِ على كاين Kane هجومًا تقليديًا ولا يشبه ما ألفناه من الفضائيين في مدونات الخيال العلمي، فذلك يحدث غالبًا عن بعد، وباستعمال قوى خارقة تسلب إرادة المرء، أو روحه، أو تتحكم في عقله، ولعلها تقتله دون أن يَحدث تلامسٌ مباشر.
في هذه المرة، كان الهجومُ أشبه شيء بالافتراس، لقد تحول رائد الفضاء إلى طريدة لكائن فضائي مجهول يتصرف بوحشية الأدغال وبدائيتها، ويحول قفزة الإنسان الحضارية الكبرى في المستقبل إلى عودة مخيفة للزمن السحيق، حينما لم يعتلِ بعد قمة السلسلة الغذائية، وما يزال طريدة لكائنات أشد افتراسًا وأقوى.
غير أن قراءة المشهد لا تتوقف عند هذه الرؤية، ذلك أنها مرتبطة بالعناصر الكثيرة المبثوثة في هذا القسم والتي لا يسعنا إلا اقتفاء آثارها حتى نفهمه (المشهد) بشكل أشمل.
كانت العلاقات بين أعضاء الطاقم تتطور شيئًا فشيئًا، فتعمق طورًا فكرة الرائد العذري التي يمثلها المجتمع الأبوي القائم في المركبة، وتبرز طورًا آخر، تلك الحالة الخاصة التي تميز ريبلي Ripley عن هذا المجتمع.
عبر الفيلم منذ بدايته عن وعيه واستيعابه لصورة الرائد العذري الكلاسيكية، ولئن بدا متواطئًا معها في مشهد البداية، فمتحديًا في مشهد الفطور وما يليه، فقد أصبح ساخرًا في هذا القسم مستهزئًا
وفي حين تكشف لامبرت Lambert بشكواها الدائمة عن جانب هستيري يرمز إلى القمع الذي تسلطه على نفسها لتلائم مجتمع الرواد الذكوري (أو اللاجنسي)، تتبلور أكثر صورة ريبلي المتمردة على نواميس هذا المجتمع وسلطته الأبوية، ريبلي تناقش قرارات القائد دالاس وتبدي اعتراضها عليها، ريبلي تشكك في القراءة “العلمية” للرسالة المستقبَلة وتعتقد أنها تحذير ما وليست استغاثة، ريبلي تواجه تحرش باركر بعينين حادتين، وثقة مربكة، وأخيرا، ريبلي ترفض أوامر القائد المخالفة لقواعد السلامة، إن شخصية ريبلي تنبني على تحدي كل الخصال التي تؤسس لشخصية الرائد العذري، ولذلك من المهم قراءة مشهد “مطوق الوجه” من منظور جنسي، خصوصًا أن عناصر القراءة وفيرة جدًا!
عبر الفيلم منذ بدايته عن وعيه واستيعابه لصورة الرائد العذري الكلاسيكية، ولئن بدا متواطئًا معها في مشهد البداية، فمتحديًا في مشهد الفطور وما يليه، فقد أصبح ساخرًا في هذا القسم مستهزئًا.
واتخذت المشاهد خفيةً، طابع المحاكاة الساخرة منذ الاقتراب من الكوكب الغامض وحتى مشهد مطوق الوجه: ها هي مركبة الرائد العذري، أقصى منجزات العقل البشري وزبدة معجزاته التقنية تنطلق كحيوان منوي نحو الكوكب الساكن كبويضة تنتظر التخضيب، لكن بمجرد الاقتراب من الغلاف الجوي، يهتز الثبات وتمحي القوة والاعتداد، فترتعش بشكل مثير للشفقة وتنجو من التحطم بمعجزة.
ويعاود المشهد تكرار ذات المقاربة، وذات الاستعارات وإن بشكل أكثر وضوحًا، هذه المرة، سيخرج الرواد بأزيائهم البيضاء الناصعة من ممر المركبة القضيبي، نحو مصدر الرسالة الصوتية التي التقطت الأم إشاراتها: جسم ضخم مهيب، أقرب إلى سفينة مهجورة، تتخذ شكل الرحم (أو على الأقل جزء المبيضين) دون أدنى محاولة للمواربة!
وفي داخل السفينة الغامضة، سوف يداهمنا الشعور بأن جدران الممرات تأخذ طابعا عضويًا مألوفا، حتى إن المكان العامر بالبويضات الذي اكتشفه ـ لسوء حظه ـ كاين Kane لم يكن مفاجئًا كثيرًا، فما الذي يمكن أن نتوقع وجوده في آخر النفق المؤدي إلى المبيض؟ وإلامَ سيفضي استئثار رائد/حيوان منوي لوحده بالدخول إلى المكان؟ عملية إخصاب مثلاً، لكن عملية الإخصاب حدثت بالاتجاه المعاكس في قلب جديد للصورة والمفاهيم.
وخلافا لحادثة ارتجاج السفينة في المقاربة الأولى، لم يكن قلب المفاهيم هنا “ظريفًا” بل مرعبًا وعنيفًا وخاليًا من المقدمات، أطبق مطوقُ الوجه ـ الشكل البدائيُ للكائن الفضائي ـ على وجه ضحيته الأولى وتغلغل بجزء خفي منه إلى داخل فمه تاركًا جزءه الظاهر كيدٍ تمنع فريستها من الصراخ، فالصورة لا تتوقف عند عملية قلب المفاهيم، من خلال “إخصاب” عكسي من البويضة إلى الرائد، بل تتجاوزه إلى التعبير عن اعتداء جنسي عنيف، فهل له ما يبرره؟
المشهد الثالث: ممزقُ الصدر Chestbuster
يتميز القسم الثالث من الفيلم، بمشهد ممزق الصدر Chestbuster الرهيب، وهو المشهد الأهم في الفيلم والأكثر كابوسية وتأثيرًا في المشاهدين، ولذلك فإن لقراءته أوجهًا عديدة متنوعة.
ورغم اتخاذ الكائن الفضائي شكلاً فيزيولوجيًا جديدًا، فقد تواصلت طبيعة عدوانه الجسدية ذات الأبعاد الجنسية الواضحة، يستعيرُ الظهور الثاني صورة الولادة، ربما الولادة القيصرية الدموية، ولكنها أيضًا ولادةٌ قسرية، تذكرنا مرة أخرى أن ما حدث في السفينة الغامضة كان اغتصابًا.
وأمعن شكلُ ممزق الصدر القضيبيُ في عملية التذكير هذه، وكأن عملية الاغتصاب الجديدة تحدث من الداخل إلى الخارج لا العكس، وربما كان ذلك أحد مصادر الرعب الكبير الذي أحدثه المشهد في النفوس.
تؤكد ذلك كاثرين كونستابل في تحليلها للفيلم، فقد فسرت الرعب الذي يمثله الفضائي بحقيقة أنه “يقدم عرضًا لما هو داخليٌ على أنه خارجي، معيدًا لعين المشاهد شبحَ لُزُوجَةٍ جسدية تم نبذُها”، إنه رعب جسديٌ ـ جسديٌ بالأساس، يقف فيه الجسد قبالة نفسه التي أنكرها ويواجه فيها مخاوفه القصوى، ومن أهم هذه المخاوف، الإنجاب.
ليس غريبًا إذًا أن تهتم النسويات بفيلم Alien وأن يكتبن عنه الكثير، بناء على النظرية النسوية Feminist theory، ومن هذا المنظور، من البديهي أن يمثل الفضائيُ كل رذائل النظام الذكوري ووحشيته، إذ يمارس كل أشكال الاغتصاب والاعتداء الجسدي، ويتجلى في قالب ذكوري لا شك فيه، وهذه قراءة قاصرة لا تلقي بالاً لأشكال الفضائيِ الأخرى، ولا لمدلولية البويضة التي انبثق منها، كما أنها تتجاهل حقيقة أن ضحية الوحش الفضائي هنا، هو هذا النظام الأبوي نفسه، ممثلاً في المركبة الفضائية، وفي الرائد كاين Kane (في هذا المشهد).
اعتمد الفيلم على المقاربة الجنسية بشكل مجازيٍ في رأيي، معتمدًا على التشبيه المألوف في الثقافة الغربية الذي يرمز للطبيعة بالمرأة، ويرمز للحضارة بالرجل، فبهذا المعنى، يمثل النظام الذكوري القائم بالمركبة، نظام الإنسان الحديث القائم على التطور التقني، والإيغال في المعرفة للتخلص من طبيعة الإنسان الوحشية
ولقد قلبت القراءة النسوية الثانية هذه الصورة، معتبرة أن الفضائيَ ذو طبيعة أنثوية أساسًا، يحاول قلب نواميس النظام الذكوري، بالاعتداء على رمزها الأرقى: الرائد العذري، لذلك طالت الاعتداءات الرجال، والنساء المكبوتات اللاتي يحاولن الاندماج في النظام الذكوري، أي نساءٍ مثل لامبرت Lambert، أما الأنثى التي ترفض ذلك مثل ريبلي، فهي الجديرة بالنجاة.
لكن هذه القراءة أيضًا تصطدم ببداهة الأشكال الذكورية لاعتداءات الكائن الفضائي (الاغتصاب الفموي، الشكل القضيبي، استعمال الذيل بعد التحول إلى زينومورف، إلخ)، إضافة إلى حقيقة أن الكائن لا جنس له، فهو أقرب للخنثى يجمع بين الذكر والأنثى، مؤكدًا بذلك حقيقة بسيطة: رمزيةُ الجنس هنا موظفة في اتجاه معنى خارج مشكل الجندرة أصلاً.
لقد اعتمد الفيلم على المقاربة الجنسية بشكل مجازيٍ في رأيي، معتمدًا على التشبيه المألوف في الثقافة الغربية الذي يرمز للطبيعة بالمرأة، ويرمز للحضارة بالرجل، فبهذا المعنى، يمثل النظام الذكوري القائم بالمركبة، نظام الإنسان الحديث القائم على التطور التقني، والإيغال في المعرفة للتخلص من طبيعة الإنسان الوحشية.
إن أسمى صور التفوق التقني حينئذ تتمثل في التخلص من الجنس، ومن عملية التكاثر الطبيعية، لصالح ولادة مقننة، بشر بها الخيال العلمي ربما منذ رواية Brave New World لهكسلي، ولكنها أخذت طابعًا جديًا مع أطفال الأنابيب في السبعينيات، أما الفضائي فيمثل طبيعة الإنسان المتوحشة الخالصة التي تحاول التقنية قمعها، فتتجلى بأعنف الصور الممكنة، وبهذا المعنى أيضًا، يمكن فهم ما يعنيه هجوم الوحش على هؤلاء الرواد الذين يمثلون أيدي الحضارة الأكثر رقيًا، وما يعنيه الشكل الجنسي لهذا الهجوم.
يتمتع الفضائي بكل تلك الرذائل التي يحاول الإنسان الحديث التملص منها، رذيلة الجنس وبالأخص رذيلة العنف، يتجاوز كل طرح أخلاقي ممكن لهذه الاعتداءات، على اعتبار أنه كائن مطارد وأن الإنسان طريدته الطبيعية، على اعتبار أنه خلق ليكون أقوى، فهو بلسان نيتشه ما وراء الخير والشر، فهل نزوع الإنسان إلى التملص من طبيعته الجنسية والعنيفة، هو تملص من حقيقته الإنسانية، ومن تفوقه؟ هل يمكن أن يمثل الفضائي وهو يطل من صدر كاين المحطم ذلك الوحش الكامن فينا؟
يجيب تصميم فرويد البنيوي الشهير للنفس عن هذا التساؤل بشكل ما، إذ يمثل الفضائي جانب “الهو” Id في الإنسان أي غرائزه ورغباته الدفينة وانفعالاته البدائية مثلما يمثل الرواد العذريون، جانب الأنا الأعلى Super Ego فيه، أي مثله العليا وسلطة القمع والكبت فيه، وهي مقاربة لا تفسر وحشية الفضائيِ فحسب وإنما تفسر سبب هلعنا منه أيضًا.
ولو استعرنا فكرة أخرى لفرويد عن الأحلام، يمكن القول بأن الفضائي كعنصر كابوسي، هو حمال لمعان كثيرة ومختلفة، تمامًا كما يحدث في عالم الأحلام، إنه الطبيعة المتوحشة التي لا تقبل أي ترويض، وهو أيضًا الهو الوحشي الكامن فينا رغم كل القمع الذي تمارسه فضائل الحداثة والمعرفة والتقنية.
لذلك لا يملك الفضائي جنسًا واضحًا بعينه، إنه يمثل أحيانًا الأنثى المتكاثرة الولادة البيولوجية، وأحيانًا سلطة القضيب الذكري القاصمة، ولكنه في الحالتين، يثير في المتفرج هلعًا لا لأنه يرى فيه الآخر الذي لا يمكن أن يكونه، كما يحدث عادة مع الشخصية الشريرة، وإنما لأنه يرى فيه الآخر الذي يمثل جزءًا منه، إنه الآخر الذي في داخله، وهو ما يحدث فيه شعورًا بالاشمئزاز والدناءة، كما تفترض ذلك نظرية جوليا كريستيفا Abjection theory.
في هذا القسم من الفيلمِ تتحدد أكثر شخصية ريبلي، كامرأة تجد نفسها في مواجهة دائمة مع بقية الطاقم، تواجه تحرش باركر وبرت، تواجه سلوك آش Ash المشبوه، وتواجه قرارات دالاس Dallas غير المسؤولة وانتقادات لامبرت Lambert المتبنية لمنطق قامعيها، ريبلي ترفض أن تبقى في الظل وأن تنصاع.
المشهد الرابع: ظهور الزينومورف Xenomorph
في هذا القسم، يمعن المخرج فيما سبق أن أشرنا إليه، أي الإيحاءات الجنسية المتوارية خلف جدار الرعب، إن كل تفصيل بريء يمكن أن يؤول جنسيًا، هو إنذار بجريمة مرتقبة، ففي طريقه إلى الزينومورف، اخترق دالاس بوابة دائرية تنفتح كما المهبل، وعندما تحسس تلك المادة اللزجة كان الزينومورف أمامه.
لكن الفضائي أخذ شكله الزينومورف النهائي الذي اشتهر به، قبل أن يهاجم بريت Brett، وقد سبق الهجوم أيضًا إشارات واضحة، مثل لقطة الماء المنسكب على وجهه وتجليه أولا عبر ظل ذيله الكبير، كما أن الاعتداء تم بخروج قسم من فمه الوحشي على شاكلة قضيبية phallic قامت بالاعتداء.
المشهد الخامس: الأندرويد آش Android Ash
يتمحور هذا القسم أساسًا حول شخصية آش Ash الذي نكتشف طبيعته الإلكترونية واستتباعاتها، لقد كان هذا الكشف مفاجئًا جدًا وبعيدًا عن مسار الأحداث، والسبب أنه لم يكن موجودًا في القصة الأصلية، وإنما كان إضافة المنتجين، ولقد اعترف الكاتب رونالد شوست أنها كانت إضافة رائعة.
لم يكن هذا الكشف مجرد بهارات سردية وتنويعًا في الرعب، بل وقع دمج الفكرة بشكل رائع في فكرة الفيلم الرئيسية، وتم الاستفادة منها كما ينبغي، وأعتقد أن الفضل في ذلك يعود إلى المخرج ريدلي سكوت.
إن لهذا الرجل منزلة فريدة في عالم الخيال العلمي، ويكفي أن اسمه مقترن بهذا الفيلم، وبفيلم Blade Runner الشهير، ورغم أن سكوت يبدو بالنظر إلى ظروف إنتاج الفيلم، أقرب لمدير التصوير للمخرج المؤلف، فإن بصمته لا تخطئها العين، وقدرته على استيعاب أفكار الكتاب المساهمين، والفنانين المصممين مبهرة حقًا.
لقد تجلت هذه القدرة في مشهد خطاب آش Ash الأخير خصوصًا، إذ يقف الجميع منصتين إلى رأس الأندرويد المقطوعة المثبتة جوار الجسد الهامد وقد لفظ أسلاكه وسوائله البيضاء المقلقة، لقد تردد هذا المشهد كثيرًا فيما بعد، في أعمال السايبربنك Cyberpunk على وجه الخصوص، وكأنها الحالة الوحيدة التي ينقاد فيها الأندرويد لقول الحقيقة.
والحقيقة لا تتعلق بتواطؤ Ash والشركة والأم The mother لجلب الزينومورف ولو على حساب حياة الطاقم البشري، وإنما تتعلق بما يكنه الكائن اللابشري، هذا الذكاء الصناعي، من “شعور” تجاه الزينومورف.
إن Ash بحكم طبيعته اللابشرية، لا يحمل أي مشاعر جنسية ولكنه يتبناها ويتبنى رمزيتها ويلفظ ما يفترض أن يمثله الكائن الآلي من رقي حضاري وتطور تقني مذهل
فهو لا يخفي إعجابه العميق بالكائن وبنقائه، بل إنه يغبطه ويعتبره القدوة التي ينبغي اتباعها، لذلك كان اعتداؤه على ريبلي بالصحيفة الملفوفة بشكل أسطواني، ذا بعد جنسي لا غبار عليه.
إن Ash بحكم طبيعته اللابشرية، لا يحمل أي مشاعر جنسية ولكنه يتبناها ويتبنى رمزيتها ويلفظ ما يفترض أن يمثله الكائن الآلي من رقي حضاري وتطور تقني مذهل، وبعبارة أخرى، فقد كان Ash الجانب المقابل للزينومرف، جانب العقل والعلم والتجرد من المشاعر كنقطة ضعف مؤثرة على السلوك والأفكار/ ولكنه في تمثيله لهذا الجانب، انتهى إلى حقيقة أنه عاجز أمام هذا الكائن النقي المتوحش الأكثر رقيًا، لقد تعرض آش للخلل التقني الذي يرافق صناعة الإنسان، بينما لم يبد على الزينومروف أي علامة من علامات النقصان أو الضعف.
المشهد السادس: ريبلي في مواجهة الزينومورف
في عملية قلب أخرى لما هو مألوف، كانت لامبرت المرأة الهستيرية الشقراء وباركر الأسود آخر ضحايا الزينومورف، ففي أفلام الرعب الكلاسيكية يكونان عادة الضحية الأولى، في المقابل، كانت لامبرت ضحية كلاسيكية جدًا، لطابعها الهستيري الذي تمتلئ به أفلام الرعب، ولتناسب هذه الطباع مع الإشارة الجنسية القوية التي يستعملها الوحش قبيل الاعتداء.
في الأثناء، كانت شخصية ريبلي التي تتطور في كل قسم أكثر تجاه القيادة والأخذ بزمام الأمور، قد باتت جاهزة لفعل ما يجب فعله: مواجهة الأم.
كانت الأم Mother جهاز الكومبيوتر المركزي الذي يدير المركبة، ولقد فهمنا بمرور الوقت أن هذه الأم التكنولوجية لا تمنح الحياة كما أوهمتنا به في مشهد الافتتاح، بل أمٌ تمتلك خصال القتلة، أمٌ تتآمر لتلقي بأبنائها إلى التهلكة، فترسلهم نحو كوكب مجهول وتسمح بتسرب الوحش القاتل إلى داخلها، وها هي في هذا القسم لا تلقي بالاً لطلبات ريبلي Ripley، لقد أدركت ريبلي أخيرًا، أن “أمها” قاتلة (الحقيقة أنها استخدمت وصفًا آخر أكثر دقة في الفيلم)، وأنها إذا ما أرادت البقاء، فعليها الاعتماد على غريزتها.
تكاد تمر أربعون سنة على عرض Alien، ورغم صدور أجزاء كثيرة طول هذه السنين، لا يزال الجزء الأول مصدرًا لا ينضب للدراسات والنظريات والجدل، وهذا يطرح أسئلة بخصوص عيوب الأجزاء اللاحقة أكثر مما يطرحه بشأن عبقرية الجزء الأول
يمثل القط جونس Jones طبيعتها الأنثوية النقية من كل شوائب الحضارة لذلك لم يكن في أي لحظة هدفًا للزينومورف، وكلما بدا لنا وكأنها تحاول إنقاذ جونز، كان جونز/غريزة الأنثى بداخلها منقذها، وعندما هرعت إلى داخل سفينة الإنقاذ الصغيرة، لم تتخل ريبلي عن الأم وعن مركبة نوسترومو فحسب، بل تخلت عن انتمائها للرواد العذريين، بتجردها من زيها الرسمي الأبيض، والكشف عن تضاريس جسدها الأنثوي الذي طالما قمع داخل الزي الموحد.
كانت النهاية معقولة ومنطقية جدًا عند هذا الحد، ومتناسقة مع الأفكار التي سبق الحديث عنها، فريبلي بتقبلها لطبيعتها الأنثوية وتمردها على منظومة الحضارة، استطاعت أن تتحول إلى ند كفء للزينومورف والتخلص منه، لكن يبدو أن المخرج يراوغنا مرة أخرى بظهور الفضائي الأخير، فقد أجبر ظهور الفضائيِ ريبلي على العودة إلى زي الرائد، وتغطية جسدها من جديد، وكان عليها أن تعود إلى الحضارة مرة أخرى، وتعتمد على التقنية للتخلص من الفضائي، لقد بدا وكأن المخرج لا يريد أن يتخذ موقفًا واضحًا، بل يقترح نهايتين مختلفتين ومتناقضتين، متسائلاً هل باتباعنا لطريق العلم والمعرفة، وتخلصنا من ذواتنا البدائية المتوحشة، نسلك طريقًا طبيعيًا؟ أم أننا نتخلى عن طبيعتنا؟
تكاد تمر أربعون سنة على عرض Alien، ورغم صدور أجزاء كثيرة طول هذه السنين، لا يزال الجزء الأول مصدرًا لا ينضب للدراسات والنظريات والجدل، وهذا يطرح أسئلة بخصوص عيوب الأجزاء اللاحقة أكثر مما يطرحه بشأن عبقرية الجزء الأول.
اسم الفيلم: فضائي Alien
سنة الإنتاج: 1979
المخرج: ردلي سكوت Ridley Scott
الصنف: خيال علمي، رعب
المدة: 117
البطولة: سيجورني وييفر Segourney Weaver