تتصاعد حالة الاحتقان لدى الشارع المصري يومًا تلو الآخر، منذرة ببركان بارود قابل للاشتعال في أي وقت ودون مقدمات، فبجانب الفشل في تحقيق أي منجز ملموس على المستوى الاقتصادي والمعيشي للمواطن المثقلة كواهله بالضغوط والأحمال، يأتي الخذلان الفاضح من السلطات الرسمية إزاء ما يتعرض له سكان قطاع غزة من حرب إبادة همجية لتزيد نار الغضب اشتعالًا وتؤجج مشاعر القهر والعجز في نفوس المصريين.
وشهدت الساحة المصرية خلال الساعات الـ24 الماضية واقعتين ربما تعيدان تشكيل المشهد من جديد وفق أبجديات مغايرة، الأولى تلك التظاهرة التي نظمها صحفيون ونشطاء على سلالم نقابة الصحفيين المصرية بوسط القاهرة، والثانية حادثة تسلل مجموعة من المصريين للحدود المصرية الفلسطينية والاشتباك مع قوات الاحتلال الموجودة هناك.
الحدثان وبعيدًا عن القراءة العرجاء للإعلام الموالي للنظام المصري، يشيران إلى تطور كبير في تعاطي الشارع المصري مع المشهد الغزي بأكمله، بعد مرور 100 يوم على حرب الإبادة التي راح ضحيتها أكثر من 24 ألف شخص، معظمهم من النساء والأطفال، وسط صمت فاضح وخذلان مخز من العالم بصفة عامة وحكومات العرب على وجه الخصوص.
سياق مهم
حزمة من التطورات فرضت نفسها مؤخرًا على المشهد الغزي تتعلق بالجانب المصري كانت باعثًا قويًا لاستثارة الشارع المصري تجاه النظام الحاكم، لا سيما أنها تُعرّض سمعة الدولة وتاريخها الطويل للخطر، أبرزها:
أولًا: الاتهامات المباشرة التي وجهها الفريق القانوني الإسرائيلي للدولة المصرية خلال مرافعته أمام محكمة العدل الدولية في الدعوى المرفوعة من جنوب إفريقيا ضد الكيان المحتل واتهامه بارتكاب جريمة إبادة جماعية ضد فلسطيني غزة.
حيث قال عضو الفريق القانوني لدولة الاحتلال، كريستوفر ستاكر، نصًا: “الوصول إلى قطاع غزة عبر معبر رفح تسيطر عليه مصر، وليس على إسرائيل أي التزام في ذلك بموجب القانون الدولي..”، وهي الكلمات التي تحمل في مضمونها اتهامًا مباشرًا لمصر بمنع دخول المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى قطاع غزة، ومشاركتها بصفة رئيسية في الحصار المفروض على أكثر من مليوني فلسطيني يواجهون كارثة إنسانية غير مسبوقة تضع حياتهم على المحك، هذا بخلاف ما تحمله من تكذيب للمبررات التي ساقتها القاهرة منذ بداية الحرب بأن دولة الاحتلال هي السبب في عدم إدخال المساعدات للمنكوبين في القطاع.
"بدل ما تساعدوهم بتتاجروا بيهم وتستغلوهم؟"..
فتاة فلسطينية تنتقد سياسة الإتاوات المفروضة على أهل غزة من لوبيات الفساد في معبر رفح pic.twitter.com/Fd7Z6otvpb
— شبكة رصد (@RassdNewsN) January 9, 2024
ثانيًا: ما نشرته صحيفة “الغارديان” و شبكة “بلومبيرغ” بشأن تلقي الجانب المصري أموالًا – تصل إلى 10 آلاف دولار للفرد – نظير السماح بعبور بعض الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الأراضي المصرية، ومنع دخول الحالات الطارئة الحرجة إلا بعد دفع تلك الإتاوات والرشاوى، حيث نقلت تلك الصحف عن شهود عيان تعرضهم لحالة ابتزاز قميئة، وتحويل المعبر ووظيفته الإنسانية إلى ساحة كبيرة لـ”السمسرة” حتى لو على حساب حياة أناس يتعرضون لحملة إبادة غير مسبوقة.
ترسم تلك الوقائع مع مؤشرات الخذلان الواضحة منذ اليوم الأول للحرب صورة قاتمة عن دور الدولة المصرية وتخليها شكلًا ومضمونًا عن القيام بمسؤولياتها الأخلاقية والسياسية، ناهيك بالمسؤوليات الأخلاقية إزاء شعب يُباد على مرأى ومسمع من العالم، وهو ما انعكس بشكل أو بآخر على مزاج المصريين المفعم بطبيعة الحال بحب الشعب الفلسطيني ودعم حقوقه وقضيته التي يعتبرها قضية العرب الأولى وعنوان كرامتهم وحريتهم وحضارتهم أمام دولة الاحتلال التي يراها كلب الحراسة للمصالح الأمريكية والغربية في المنطقة.
نقابة الصحفيين.. تطور نوعي في الاحتجاج
شهدت سلالم نقابة الصحفيين المصريين بالأمس تظاهرة فريدة من نوعها، ليس في شكلها لكن في مضمونها والهتافات التي شهدتها التي تجاوزت الخطوط الحمراء الموضوعة من السلطات الحاكمة في مصر، فلأول مرة يتم انتقاد النظام بشكل علني مباشر دون مواربة أو مماهاة كما كان يحدث سابقًا.
ونظمت النقابة وقفة احتجاجية ضمن فعاليات يوم التضامن مع غزة تحت عنوان “100 يوم من الإبادة.. أوقفوا العدوان.. حاكموا مجرمي الحرب” شارك فيها عشرات الصحفيين والنشطاء على رأسهم الناشط أحمد دومة المفرج عنه مؤخرًا بعفو رئاسي بعد 10 سنوات قضاها في السجن بسبب نشاطه الثوري، والناشطة ماهينور المصري التي تعرضت للاعتقال أكثر من مرة.
الهتافات التي رددها المتظاهرون حملت طابعًا تصعيديًا لم يعرفه الشارع المصري منذ تولي السيسي السلطة في 2014، فالبداية كانت للمطالبة بفتح معبر رفح وإدخال كل المساعدات، ثم تطورت إلى وصف الحكومات العربية بـ”العار” والحث على الانتقال من التأييد بالكلام والشعارات الجوفاء إلى الأفعال الحقيقية، وصولًا إلى المطالبة بإسقاط الرئيس.
“يسقط يسقط أي رئيس طول ما الدم العربي رخيص”
مظاهرة تضامنية مع غزة أمام نقابة الصحفيين المصريين يقودها الناشط والمعتقل السابق أحمد دومة.#غزة_تحت_القصف #غزة_قضية_الشرفاء
@AhmedDouma89 pic.twitter.com/1jdt3zMkGy
— نون بوست (@NoonPost) January 15, 2024
ومن أبرز الهتافات التي شهدتها تظاهرات النقابة: “طول ما الدم العربي رخيص يسقط يسقط أي رئيس”، “يا للعار يا للعار.. مصر مشاركة في الحصار”، “معبر بينا وبين أهالينا والصهيوني متحكم فينا”، “عملوها أحفاد مانديلا واحنا في خوف وفي عار ومذلة”، “عملوها أبناء صنعاء.. فضحوا خيانة الشركاء”، “ياحكومات عربية جبانة.. طفلة في غزة نايمة جعانة”، “يا حكام العار والطين.. أطفال غزة بردانين.. أطفال غزة عطشانين.. أطفال غزة جعانين”.
كذلك “عايز تقضي على التهجير لازم تبقى أخ كبير.. دخل ليهم مساعدات من غير إذن وتنسيقات.. دخل ليهم صحفيين.. دخل ليهم أطباء”، “عايزين خطوة وفعل حقيقي.. كل كلامكم سيكي ميكي”، “يادي الذل ويادي العار.. بعتو غزة بكم دولار”، ثم وجه المتظاهرون تحية للمقاومة قائلين: “يا مقاومة يا فلسطينية.. من القاهرة ألف تحية” كما بعثوا برسالة إلى مراسل قناة “الجزيرة” جاء فيها “سمع وائل الدحدوح.. حق غزة مش هيروح”.
حادثة معبر العوجة.. السوابق تشكك في الروايات الرسمية
وبينما كانت نقابة الصحفيين تُزلزل بالهتافات المطالبة بفتح المعبر ونصرة الشعب الفلسطيني، كانت هناك معركة أخرى من نوع مختلف على الحدود المصرية الفلسطينية، حين تسللت مجموعة تقدر بنحو 20 شخصًا إلى الحدود الفلسطينية واشتبكت مع قوات الاحتلال الموجودة هناك.
وكانت وكالة “رويترز” قد نقلت عن جيش الاحتلال الإسرائيلي، قوله إن جنوده أطلقوا النار على مسلحين مشتبه بهم حاولوا التسلل من مصر، حيث نشبت اشتباكات قرب معبر العوجا “نيتسانا” وأسفرت عن إصابة مجندة إسرائيلية، فيما رجح مسؤول إسرائيلي أن المشتبه بهم كانوا يحاولون تهريب المخدرات عبر الحدود من الجانب المصري.
وأكد المتحدث باسم الجيش المصري الرواية الإسرائيلية بأن العملية كانت محاولة لتهريب مواد مخدرة للداخل الفلسطيني، وأن قوات الأمن المصرية الموجودة هناك قتلت أحد أفراد تلك المجموعة واعتقلت 6 آخرين، بحسب بيان رسمي منشور على صفحته الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي.
في بداية عملية الجندي محمد صلاح قالوا كانت محاولة لملاحقة مهربين عند الحدود بين مصر والاحتلال، وتبين في النهاية أنها عملية فدائية نوعية.
— رضوان الأخرس (@rdooan) January 15, 2024
كالعادة.. رواية غير مقنعة
يبدو أن رواية المتحدث الرسمي باسم الجيش المصري لم تقنع الكثيرين، وذلك لسببين: الأول يتعلق بالسياق العام للواقعة، فليس من المنطقي أن يحاول تشكيل عصابي تهريب كميات من المخدرات من خلال حدود ملتهبة بطبيعة الحال، لقطاع يقع في مرمى الاستهداف بالقصف الطيراني والمدفعي على مدار الساعة، فالاقتراب من تلك المنطقة هو انتحار بكل المقاييس.
كما أن الاشتباك مع قوات الاحتلال في تلك المنطقة وإيقاع إصابة مباشرة في صفوفها “مجندة” عملية صعبة التصديق، فالتشكيلات العصابية من هذا النوع تنأى بنفسها بطبيعة الحال عن الدخول في مثل تلك الاشتباكات، خاصة مع قوات ليست لديها خطوط حمراء في استهداف الأطفال والنساء والأطباء والمسعفين، فكيف يكون الحال مع مسلحين يعبرون الحدود.
أما السبب الثاني فيتعلق بسابقة ليست بالبعيدة، شهدها هذا المعبر الحدودي ذاته “العوجة”، حين تسلل المجند المصري محمد صلاح الحدود للجانب الفلسطيني المحتل في 3 يونيو/حزيران 2023 وقتل 3 من المجندين الإسرائيليين وأصاب آخرين، حينها أصدر الجيش المصري بيانًا مشابهًا لذلك الصادر في العملية الأخيرة، وحاول الطمس على العملية رغم إعلان الجانب الإسرائيلي تفاصيلها، ما يشكك كثيرًا في مثل تلك البيانات التي تراعي الأبعاد السياسية على حساب الحقيقة والشفافية.
https://twitter.com/nowgnna/status/1747020088387993953
هل يخرج المصريون عن السيطرة السلطوية؟
أحدثت الشعارات التي رددها المتظاهرون في نقابة الصحفيين المصريين صدمة كبيرة لأنصار النظام الحاليّ لما تضمنته لأول مرة من رسائل خاصة باستهداف السلطات والرئيس بشكل واضح، وهو ما دفع بعض الإعلاميين المقربين من النظام وعلى رأسهم أحمد موسى، للمطالبة بمحاسبة المشاركين في تلك الاحتجاجات وتقديمهم للمحاكمة، بزعم أنهم تطاولوا على الدولة المصرية التي أكد أنها تقدم للقضية الفلسطينية ما لم يقدمه أحد.
الأمر ذاته إزاء واقعة حادث معبر العوجة، فمجرد التفكير في مسألة خروج بعض المواطنين عن السيطرة والقيام بمثل تلك العمليات بشكل فردي، ثغرة كبيرة في ملف سيطرة النظام على الشعب وتدجينهم ترهيبًا وترغيبًا، وهو الملف الذي وضعته السلطات الحاليّة على رأس قائمة أولوياتها منذ توليها مقاليد الحكم قبل 9 سنوات.
الإعلامى المصرى المحترم الأستاذ / أحمد موسى يلقن حارق المجمع العلمي أحمد دومة درسا قويا ويطالب بمحاكمته على ما فعله أمام نقابة الصحفيين .#دومة_الارهابى #ابو_عبيدة #أربيل pic.twitter.com/BMVTODZHWn
— حسين مطاوع – hussein motawea (@motawea74) January 16, 2024
وحاولت السلطات الحاليّة جاهدة منذ بداية الحرب على غزة تحييد الشارع عن المشهد، من خلال قبضتها الحديدية التي تجيد استخدامها، حتى المرة الوحيدة التي سمحت للمواطنين بالنزول والتظاهر كانت بهدف سياسي بحت لخدمة أغراض سلطوية بحتة، دون أن يتسبب ذلك في إغضاب الحليف الإسرائيلي الأمريكاني، لكنها سرعان ما لململت أوراقها مرة أخرى متراجعة عن تلك الخطوة العنترية خشية أن تتجاوز المرسوم وتتحول إلى حركة احتجاجية ضد النظام الملطخة جدرانه بثقوب الفشل المتعددة.
يبدو أن رائحة الخذلان والتواطؤ التي تفوح من بين ثنايا المشهد العربي تجاه غزة أزكمت أنوف المصريين – كما العرب جميعًا – خاصة مع توارد فضائح الانبطاح المخزية شيئًا فشيئًا، ليدوي أزيز مرجل الاحتقان عاليًا، متجاوزًا كل محاولات كتم الصوت، فهل ينفجر المصريون في وجه السيسي والعالم؟