صُدم الشمال السوري الخاضع لسيطرة المعارضة قبل أيام، تحديدًا يوم 8 يناير/ كانون الثاني 2024، بخبر إفلاس إحدى شركات الاعتماد المالي الرئيسية في المنطقة، الأمر الذي أثار لغطًا واسعًا ومخاوف كبيرة في قطاع الصيرفة والحوالات هناك، قبل أن تتدخل حكومة الإنقاذ التابعة لهيئة تحرير الشام في إدلب، وتبث محاولات تطمين خففت من وقع الكارثة.
تدخُّل حكومة الإنقاذ كان متوقعًا، فشركة “أحمد الريس” التي أعلنت إفلاسها مرخصة لدى مؤسسة النقد التابعة لهذه الحكومة، وقانونيًّا يفترض أن يكون لدى المؤسسة رصيد تأمين تضعه الشركة من أجل السماح لمكاتبها بالعمل في المنطقة، لكن بدا واضحًا من تصريحات مدير مؤسسة النقد أن هذا الرصيد لا يكفي لسدّ سوى جزء من الديون والالتزامات المترتبة على “الريس”.
الكثير من التكهّنات والاتهامات جرى تداولها بخصوص ذلك، من بينها خسارة المودعين والمساهمين والمتعاملين مع الشركة مبالغ تراوحت بين مليونين و 16 مليون دولار، كما تحدث البعض عن ارتباطات بينها وبين قادة في هيئة تحرير الشام، لكن المفاجأة الأبرز على هذا الصعيد كانت من خلال الكشف عن فقدان العشرات من السوريين في تركيا ودائعهم المحفوظة لدى “شركة الريس” كتأمين مقابل تهريبهم إلى أوروبا.
وتوجد في إسطنبول ومدن تركية أخرى عشرات المكاتب العاملة في مجال الوساطة بين مهربي البشر والراغبين بالهجرة غير النظامية إلى أوروبا، حيث يتم الاتفاق بين الطرفَين على مكتب معيّن لوضع المبلغ المتفق عليه كأجور، إلى حين وصول المهاجر إلى وجهته.
لم يتمكن “نون بوست” من الوصول إلى المسؤولين في شركة “الريس”، للحصول على تعليق منهم حول أسباب إفلاس الشركة أو الاتهامات الموجهة لإدارتها بالنصب وسرقة أموال “تأمين السفر” وغيرها، لكن هذه الاتهامات تعززت أكثر في أوساط الرأي العام، إثر إغلاق شركة أخرى يعمل في المجال نفسه بعد يومَين فقط من إعلان الشركة إفلاسها.
شركة “أهل الشام” للصرافة والتحويلات المالية أغلقت بشكل مفاجئ في التاسع من الشهر الجاري أبواب مقرها الرئيسي ومكاتبها في إسطنبول والمدن التركية الأخرى، مع وجود المئات من الودائع التي كان ينتظر أصحابها موعد التوجه إلى أوروبا، الأمر الذي زاد من اللغط حول شركة “الريس” بشكل خاص، وجميع الشركات السورية العاملة في قطاع التحويل والصرافة في تركيا بشكل عام.
فجوة
وخلال العقد الماضي، شهدت تركيا نموًّا كبيرًا في عدد شركات تحويل الأموال السورية، ورغم تأكيد المختصين أن أكثرها لا يكتفي بمزاولة النشاط المرخّص له به، إلا أنه لا يمكن التأكد من نسبة المنخرط منها في نشاطات غير قانونية، خاصة أن بعضها يعتمد التحويل والصرافة كغطاء لمهمته الأساسية في الوساطة بين المهربين والمهاجرين.
يرى الخبير الاقتصادي أحمد عزوز في حديث مع “نون بوست” أن الكثير من شركات التحويل والصرافة الصغيرة التي وجدت لها مكانًا في السوق السورية، سواء داخل البلاد أو دول الجوار، بحكم غياب الشركات الكبيرة أو الدولية، تجد نفسها مضطرة للانخراط في أنشطة موازية، بعضها شرعي لكن ليس من اختصاصها، وبعضها غير شرعي بطبيعة الحال، من أجل ردم الفجوة بين المصاريف الكبيرة والأرباح الضئيلة التي يوفرها لها العمل في مجال الصرافة وتحويل الأموال.
ويضيف: “إذا ما أمسكنا عن اتهام شركة “الريس” أو غيرها بمزاولة نشاطات غير شرعية، مثل الوساطة في تهريب البشر، فالثابت هو أن أكثر هذه الشركات والمكاتب يلجأ إلى الاستثمار في سوق العقارات، من خلال توظيف جزء من أموال المودعين أو الحوالات في تجارة العقارات، سواء بتركيا أو سوريا، بأمل الحصول على ربح سريع، لكن هذا الأمر غير مضمون، وغالبًا ما أدى إلى إفلاس الجهات التي تدخل في هذه المغامرة”.
يوضح عزوز أن السبب الأول لخسارة الشركات في سوق العقارات هو عدم تخصصها، وبالتالي افتقادها للدراسات والتقديرات المنضطبة قبل إجراء أي صفقة، والثاني تأخر بيع العقارات التي تشتريها على أمل البيع السريع، ما يضعها تحت ضغوط تجبرها على البيع بخسارة لتوفير السيولة اللازمة من أجل استمرار عملها والحفاظ على سمعتها ومكانتها في السوق، الأمر الذي يؤدي إلى إفلاسها بالنهاية.
تطمينات.. ولكن
ما يؤكد دقة هذه الملاحظة، أن مؤسسة النقد التابعة لحكومة الإنقاذ كشفت خلال تصريحات مديرها، عقب الإعلان عن تعثر أو إفلاس شركة “الريس”، أن لدى الشركة عقارات في منطقة إدلب تصل قيمتها إلى نحو 600 ألف دولار، “ما سيقلل من المبالغ المفقودة”.
كما أن ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي نقلوا خلال الأيام الأخيرة الماضية عن مسؤولين في شركة “أهل الشام”، تطمينات للمودعين والمتعاملين أن الإدارة بصدد تأمين المبالغ المترتبة عليها، من خلال عرض عقارات تمتلكها في تركيا وسوريا للبيع، لكن هذا لا ينفي بالنسبة إلى الكثيرين انخراط العديد من الشركات في سوق الهجرة غير النظامية، سواء بقصد الربح فقط أو بنيّة النصب والاحتيال.
شهادات عديدة حصل عليها “نون بوست”، بعضها كانت إيجابية وأكدت التزام الشركات التي أُودعت لديها مبالغ التأمين، بينما تحدّث البعض عن تجارب سلبية.
بالنسبة إلى أصحاب التجارب الناجحة بالوصول إلى وجهاتهم المتفق عليها مع المهربين، فإن الملاحظات السلبية تبقى محصورة في نطاق التأخر أو المماطلة فقط، وهو ما يضعه المختصون في إطار توظيف الشركات لودائعهم أحيانًا في استثمارات أو صفقات تجارية، تنتهي خلال وقت وجيز.
نصب جزئي أو كامل
أما بالنسبة إلى الأشخاص الذين فشلوا بالهجرة، فقد تراوحت معاناتهم بين تأخر هذه الشركات في إعادة الأموال التي أودعوها لديها والنصب، حيث كان العديد منهم ضحية فقدان ما أودعه.
“عمر. ن” شاب سوري من ريف حماة وصل إلى ألمانيا مؤخرًا عن طريق البر، أكد في شهادته لـ”نون بوست” أنه رغم انتهاء رحلة هجرته “على خير”، إلا أنه تعرض لعملية نصب مشتركة بين المهرب ومكتب التأمين.
ويوضّح: “اتفقت مع إحدى مجموعات التهريب على تأمين سفري غير النظامي من حماة في مناطق سيطرة النظام وصولًا إلى ألمانيا، مقابل 6 آلاف دولار أودعتها لدى فرع لإحدى شركات الصرافة والتحويل المعتمدة في تركيا، والتي تعمل في هذا المجال مقابل نسبة 15% من كامل المبلغ، على أن يتم تسليم المال للمهربين عند وصولي إلى ألمانيا، لكن الدليل الذي قادنا في الرحلة من تركيا إلى أوروبا تركنا في غابات بلغاريا، لنكمل الطريق الطويل والخطير والمجهول بالنسبة إلينا بمفردنا”.
ويتابع عمر: “طلب منا المهرب إكمال الرحلة، ورغم تهديدنا له بأننا لن نسمح بتسليم أموالنا المودعة لدى مكتب الأمانات إلا أنه لم يأبه بذلك، وكان علينا أن نتابع السير في ظروف قاسية وصعبة جدًّا دون أي مساعدة، ما اضطر بعضنا للعودة إلى تركيا، بينما أكملت أنا وقسم آخر الرحلة التي واجهنا فيها الكثير من الصعوبات والأمراض، مع تكاليف إضافية ترتبت علينا بسبب عدم معرفتنا بتفاصيل طرق التهريب، لكن بعد أن بلغنا وجهتنا النهائية، تواصلنا مع الشركة كي تمتنع عن تسليم مجموعة التهريب المبالغ المتفق عليها، إلا أن القائمين عليها رفضوا ذلك”.
لا يستغرب الصحفي منار عبد الرزاق هذه الحادثة، بل يؤكد أنها مجرد حالة من آلاف الحالات الأخرى التي تقع باستمرار، كاشفًا أنه في الغالب تكون مكاتب التأمين عائدة لمجموعات التهريب نفسها.
ويشرح عبد الرزاق في حديث لـ”نون بوست” طبيعة عمل هذه المجموعات بعد اطّلاعه عليها بحكم متابعته للموضوع، قائلًا: “لا يمكن للمهربين القبول بأي مكتب تأمين ما لم يكن على علاقة وثيقة بهم، ولذلك هم يجبرون الراغبين بالهجرة عن طريقهم على إيداع الأجور لدى مكاتب أو شركات معيّنة، وغالبًا ما يعملون كفريق واحد، أو هم بالأصل جهة واحدة توهم المتعاملين أنها طرفان مستقلان”.
لكن عبد الرزاق يشير إلى ضرورة التمييز بين “النصب الجزئي” و”النصب الكلي” الذي يحدث في هذا المجال، فالأول يقع باستمرار وبشكل شبه يومي، كما حصل مع الشاهد “عمر. ن”، حيث يخلّ المهربون بالاتفاق لكنهم يحصلون على كامل المبلغ الذي تم التفاهم حوله، بغضّ النظر عن نتائج الرحلة، وهي مبالغ تتراوح بين 6 آلاف و12 ألف دولار عن الشخص الواحد بحالة التهريب بحرًا، وبين ألفين و7 آلاف بحالة التهريب برًّا.
ويتابع: “أما حالات النصب الكبيرة فتتمّ عندما تعلن الشركة التي تعمل في مجال التأمين هذا إفلاسها، أو تغلق أبواب مكاتبها فجأة ويختفي القائمون عليها، وهذا يحدث على الأقل مرة أو مرتين في العام الواحد حسب تتبُّعنا وملاحظتنا”.
يوضح عبد الرزاق الأمر أن “الشركة التي تعلن إفلاسها تقوم بذلك بعد جمع أكبر كمية من المبالغ، وهو أمر لا يمكن أن يحصل إلا بعد وقت معقول من مباشرتها العمل، كي تبني لنفسها مكانة وتحقق سمعة تجعلها محل ثقة”، مشيرًا أنه لا يمكن توقع لحظة هذا الإعلان أو الإغلاق، “إلا أنه يمكن القول إن أي شركة تنخرط في هذا النشاط، هي مشروع إفلاس أو نصب على الأغلب”، مطالبًا الجميع بتوخي أعلى درجات الحذر عند الاضطرار للتعامل معها.
أسباب ودوافع
لكن إلى أي درجة يمكن القول إن إفلاس أو لجوء هذا النوع من الشركات إلى الإغلاق المفاجئ، بات يشكل ظاهرة يجب التوقف عندها والتحرك لمواجهتها؟ سؤال يجيب عنه الإعلامي السوري صخر إدريس، بالقول إن “تكرار إفلاس وهروب العديد من أصحاب هذه الشركات في الآونة الأخيرة، يجعل من الأمر بداية ظاهرة”، مشيرًا إلى أسباب أخرى تلعب دورًا في الوصول بهذه الشركات إلى حدّ الهاوية، وهي الأزمة الاقتصادية والفساد.
إدريس، وهو مدير موقع “المهاجرون الآن” الإلكتروني، يضيف: “خلال العامَين الماضيَين أغلقت أو أفلست العديد من شركات الصرافة والتحويل بين سوريا وتركيا، بعضها لأسباب موضوعية، مثل الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها المنطقة، أو نتيجة المنافسة غير المنطقية التي تتعرض لها، حيث شهد السوق دخول عشرات المؤسسات الجديدة التي خفضت أسعار التحويل ورفعت سعر الصرف، ما أدّى إلى إفلاس شركات نظيفة بالفعل، بعضها توقف مباشرة وبعضها حاول التعويض في مجالات موازية، كسوق العقارات مثلًا، لكنه فشل بالنهاية”.
أما القسم الثاني وهو الأكبر، حسب إدريس، فإفلاسه مختلَق، وسببه الحقيقي “هو الفساد بدافع سرقة أموال المساهمين والمودعين والمتعاملين، حيث يدخل هؤلاء السوق بهدف مبيَّت وهو النصب، فيعملون على كسب ثقة الزبون والمساهم، وبناء سمعة مبدئية تولد الثقة، ما يشجّع الناس على التعامل مع شركاتهم والتخلي عن الحذر أمام إغراء المرابح أو الأجور المخفضة، وعندما تحين اللحظة المناسبة لهم يغلقون أبوابهم ويختفون”.
تحصل الشركات والمكاتب التي تعمل في مجال الوساطة والتأمين بين المهربين والراغبين في الهجرة غير النظامية، على نسبة تتراوح بين 2 و5% من قيمة المبلغ المودع لديها، وهي نسبة جيدة جدًّا، خاصة مع ازدهار هذا السوق، لكن الفساد والمنافسة والمضاربات تؤدي إلى تعثُّر الكثير منها في النهاية، بينما يكون هدف بعضها منذ الافتتاح هو سرقة أموال المساهمين والمتعاملين، الذين يجدون أنفسهم في نهاية المطاف ضحايا فوضى إدارية وغموض تحيط نفسها به إدارات هذه الشركات، ما يمنع مراقبة أعمالها أو ضبط أنشطتها.