ترجمة وتحرير نون بوست
تعيش المدن التاريخية التي تستقطب العديد من السياح تحت وطأة ضغوط شديدة. ومن المحتمل أن استهداف السكان المتكرر للزوار يعتبر من الطرق التي من شأنها أن تخفف من أعباء السياحة التي تثقل كاهل الأشخاص الذين يعيشون هناك على مدار السنة.
في جميع أنحاء أوروبا، قُوبل تدفق الأعداد المتزايدة من الزوار على السكان المحليين في أشهر الصيف، بردود فعل عنيفة. وفي الوقت الذي اندلعت فيه الحرب ضد السياح في البندقية، نظمت العديد من الهيئات المحلية حملات توعوية جديدة.
بالإضافة إلى ذلك، ازدادت غرامات الأكل والشرب أو الجلوس في الأماكن التاريخية في روما. فيوم الأربعاء، تلقى السياح في مدينة فلورنسا الإيطالية، إنذارات برش المياه من عمدة المدينة، كجزء من حملة لاستعادة “الديكور” ونظافة المواقع التاريخية. أما في الأسبوع الماضي، في برشلونة، أتلف لجان الأمن الأهلية إطارات إحدى الحافلات المكشوفة، وكتبوا على زجاجها الأمامي “إن السياحة تقتل أحيائنا”.
في الواقع، ترسل أفعال المواطنين الجريئة رسالة واضحة تبين أن المدن التي يعيشون فيها أصبحت تعاني بشدة من تدفق السياح. أما ما يجب القيام به حيال هذه المسألة لا يزال غير واضح، حيث تجد السلطات المحلية نفسها في خضم معركة السياح والسكان من أجل سيادة الأماكن المشتركة.
يستطيع مالكو العقارات كسب المزيد من الأموال مقابل تأجير ممتلكاتهم للسياح أكثر مما يكسبونه عند تأجيرها للمستأجرين الدائمين
وتجدر الإشارة إلى أن قطاع السياحة والسفر يعتبر من أكبر القطاعات المشغلة في العالم، حيث يخلق هذا القطاع وظيفة جديدة لكل 30 زائرا جديدا يقصدون وجهة معينة. ولكن، لسائل أن يسأل؛ إلى أي مدى يمكن أن تؤثر السياحة على طريقة ونوعية عيش السكان المحليين؟
وفي هذا السياق، قال أستاذ تسويق في جامعة سري البريطانية، إكزافييه فونت، إن المدن تميل إلى طرح هذا السؤال عندما يصبح ذلك متأخرا جدا. وأضاف فونت “لا يمكنك الانتظار حتى نصل إلى مرحلة يجب فيها وضع مدونة سلوك لهم. وفي كل الأحوال، لن تنجح هذه الإستراتيجية، فكل المحاولات للتأثير على سلوك الأفراد تكون غير مجدية في غالب الأحيان، بل تكون لها نتائج عكسية، نظرا لأن جميع الذين يسافرون في عطل يصبحون أكثر أنانية أثناء تلك الرحلات”.
وحيال هذا الشأن، لا يتساءل فونت بصفته مستشارا في مجالس السياحة الوطنية، والجمعيات الصناعية والشركات، عن كيف يمكننا تغيير سلوك السياح، بل كيف يمكننا تغيير السياحة من أجل معالجة تداعياتها على السكان المحليين. وإذا كنا نريد تحقيق نتائج أفضل ومستديمة ، فضلا عن تخفيف عبء السياحة على المدن والأشخاص الذين يعيشون فيها على مدار السنة، ينبغي أن نتخذ إجراءات قبل أن يشتري الزوار تذاكرهم.
ففي السنة الماضية، سجل المنتدى الاقتصادي العالمي توافد نحو 1.2 مليار سائح، وقد ارتفع عدد السياح أكثر مما كان عليه في سنة 2015 بنحو 46 مليون سائح. ويُتوقع حدوث زيادات في العقد المقبل. ولعل هذا ما دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة لاعتبار 2017 سنة دولية للسياحة المستدامة من أجل التنمية.
والجدير بالذكر أن انخفاض الحواجز أمام الدخول وانخفاض التكاليف ساهم في انتعاش قطاع السياحة في العديد من البلدان، وفي زيادة الرحلات السياحية القصيرة. في المقابل، أدى ارتفاع معدل الرحلات القصيرة، التي لا تتجاوز 48 ساعة، في تدفق العديد من الثقافات الأجنبية، فضلا عن ارتفاع عدد السياح. وعلى مدى العقود الماضية، استُخدمت نفس المعالم السياحية للتسويق للسياحة في المدن الشهيرة، مثل باريس وبرشلونة والبندقية، واستخدم الزوار نفس البنية التحتية التي يعتمدها سكان المدن المقصودة للوصول إلى نفس تلك المعالم.
وفي هذا الإطار، أوضح فونت أن “الكثير من الناس يفعلون الشيء نفسه في الوقت ذاته. وبالنسبة للسكان المحليين، لم تعد المدينة ملكا لهم وحدهم”. وما يزيد من تأزم هذه المشكلة أن “موقع إير بي إن بي”، الذي يوفر للسياح بطاقات ائتمان وخدمات التجوال الدولية للهواتف المحمولة، جعل السياح يتصرفون بأريحية خلال رحلاتهم الدولية، ما ساهم في انزعاج سكان المدن الأصليين أكثر.
من جانب آخر، يستطيع مالكو العقارات كسب المزيد من الأموال مقابل تأجير ممتلكاتهم للسياح أكثر مما يكسبونه عند تأجيرها للمستأجرين الدائمين. وفي هذه النقطة، تجدر الإشارة إلى أن أعداد الأشخاص الذين يتقاسمون شققهم مع عملاء موقع “إير بي إن بي”، الذي يتيح للأشخاص تأجير واستئجار أماكن سكن، تعتبر هائلة.
وفي هذا الصدد، أفاد فونت بأنه “لم يعد من الواجب علينا فقط مشاركة الشوارع مع السياح، بل أصبح ينبغي أن نتقاسم معهم شققنا؟” ما يفسر تذمر بعض السكان وإعرابهم عن عدم رغبتهم في أن تصبح أحياؤهم مشابهة لوسط المدينة.
ونتيجة لذلك، أصبحت المدينة المثال الذي يدل على مكان ” يرزخ تحت وطأة وزن شعبه”… في الواقع، تم تكليف فونت من قبل مدينة برشلونة للنظر في سبل تعزيز التنمية المستدامة. وقد أدرجت النتائج التي توصل لها، والتي تم نشرها في مجلة “السياحة المسؤولة” في نيسان/ أبريل، في الخطة الإستراتيجية للمدينة لسنة 2022.
هناك تنوع أكبر في التوجيهات للزوار المحتملين، فبعض الأفكار تتعلق بما يمكن القيام به مثلا خارج مواسم الذروة، أو خارج المدينة. وهو ما من شأنه أن يحول وجهتهم من المدن المشبعة
في الواقع، يبدو أن برشلونة تجاوزت مجرد الإعراب عن قلقها من مشاكلها مع السياح، كما يقول فونت، “لقد بدأت في اتخاذ إجراءات حيال هذا الأمر”. ومن بين أحد مسارات العمل، توسيع نطاق ما تسميه المدينة “بالطيف السياحي … وذلك لتنويع صورة وممارسات زوار المدينة”.
في الوقت الراهن، إن “كثافة وحجم السياح” متفرقة جدا بشكل غير متساو. ومن المأمول أن مجموعة أكبر منهم، مع دوافع وأولويات ومصالح مختلفة، سيسعون للتخفيف من الازدحام حول مناطق الجذب الرئيسية.
عموما، يجب البدء في هذه الخطة أولا من خلال التسويق، حيث أشار فونت إلى أن أمستردام قد شرعت في تقديم المشورة للزوار للبحث عن سكن بعيدا عن وسط المدينة على موقعها الرسمي. وفي هذا الصدد، أفاد فونت، “في الواقع، الأمر يتطلب بعض الوقت. فعدد قليل من الناس يلِجؤون إلى الموقع، لكن ذلك يتيح لهم أن يقولوا لسكان المدينة أنهم يقومون بكل ما في وسعهم لحل مشكلتهم (ألا وهي تخفيف الازدحام)”.
وفي سياق متصل، استخدمت مدينة أخرى محاصرة، البندقية، إستراتيجية مماثلة كجزء من حملة #استمتع احترم البندقية #EnjoyRespectVenezia، وهي حملة جديدة أطلقت الشهر الماضي من قبل ألفي متساكن، في أعقاب احتجاج ضد صناعة السياحة. والجدير بالذكر أنه تم ترجمة الحملة إلى 10 لغات. وقد أعلن في هذه الحملة عن أن كل شخص يقوم بالتنزه في الأماكن العامة أو يسبح في القنوات، أو حتى يقف طويلا على الجسور، معرض لدفع غرامة تقدر بحوالي 500 يويو.
في المقابل، قدم فونت مقترحا آخر يطلق عليه اسم “الترحيل”، وعلى ضوء ذلك، قوبلت نصائح السياحة المسؤولة والمسارات البديلة بالرفض من قبل حوالي 28 مليون زائر، الذين يتزاحمون كل سنة هناك.
في الحقيقة، يمكن أن يكون هناك تنوع أكبر في التوجيهات للزوار المحتملين، فبعض الأفكار تتعلق بما يمكن القيام به مثلا خارج مواسم الذروة، أو خارج المدينة. وهو ما من شأنه أن يحول وجهتهم من المدن المشبعة، أو إمضاء سفراتهم القصيرة في مكان آخر. في الواقع، أفاد فونت أن المسافرين الذين يقضون فترات طويلة يقللون الضغط، “فإذا ذهبت إلى باريس لمدة يومين، سوف تذهب إلى برج إيفل. وفي حال ذهبت لمدة أسبوعين، فلن تذهب إلى برج إيفل 14 مرة”.
مجموعة تتبع جناح اليسار “أران” يحتجون ضد السياحة في بالما دي مايوركا، هذا الأسبوع.
عموما، إن الزوار الذين يكررون قدومهم إلى أحد المدن لديهم شعور أكبر بالثقافة. لذلك تساءل فونت، “السؤال الذي يطرح نفسه الآن، كيف يعود السياح إلى نفس المدينة مرارا وتكرارا، وليس كيف يمكن حثهم على القدوم في المقام الأول؟ وفي حال كانوا يأتون للمرة الخامسة، فمن الأسهل جدا دمج سلوكهم مع بلدنا”.
يمكن للحكومات المحلية أن تعزز هذا النشاط المستدام بإعطاء الأفضلية للمشغلين المسؤولين، وحتى للمستهلكين ذوي الأجور المرتفعة. علاوة على ذلك، يقول فونت إن المدن يمكن أن تكون أكثر انتقائية فيما يخص السياح الذين يحاولون استقطابهم، في حال كان معيار التسويق هو عدد السياح وعدد المرات التي قدموا فيها، “أنتم تفكرون حقا في هذا الموضوع ، ولكن، ما هو ثمن ذلك؟…”.
من جانب آخر، أشار فونت إلى بيانات غير منشورة تابعة “لمجلس برشلونة للسياحة”، تعطي الأولوية للسياح اليابانيين لإنفاقهم ما متوسطه 40 يورو في اليوم أي أكثر من السياح الفرنسيين، وهي مقارنةٌ لا تأخذ بعين الاعتبار “بصمة الكربون”.
من ناحية أخرى، يعد الزوار الفرنسيون الفئة الأكثر عرضة للعودة لزيارة المدينة خارج أوقات الذروة، وشراء المنتجات المحلية، والانتشار في الأماكن الأقل ازدحاما. وبالتالي، هذه هي الخطوات نحو تحقيق السياحة المسؤولة والعلاقات الأكثر سلاما مع السكان.
إستراتيجية برشلونة الجديدة، حتى سنة 2020، أن يفهم السكان أن السياحة “جزء متأصل ومكون” من المدينة، وليس ظاهرة غريبة.
في المقابل، يقوم جزء كبير من إحراز التقدم في هذه المسألة على معاملة السياح كجزء من الحياة الحضرية، وحتى احتضانهم، وهي مهمة صعبة خاصة وأنهم في أماكن يكثر فيها عدد أعدائهم. في الواقع، عندما يتعلق الأمر بالتحريض على التحول الثقافي، فإن قدرات السلطات محدودة.
وعلى ضوء هذه المسألة، قامت السلطات الكتالونية بحملة إعلانية بثت على التلفاز لتشجيع السكان المحليين على تحمل السائحين، على حد قول فونت، الذي أعاد صياغة رسالته الجاهزة على النحو التالي، “حتى لو كنت لا تحبهم كثيرا، فإنهم يأتون إلى هنا لإنفاق المال”. ولكن، كان لهذه الحملة نتائج متناقصة بمرور الوقت، حيث قرر السكان أنه ليس من مسؤوليتهم الترحيب بالجماعة التي تحدث أضرارا بطريقة عيشهم.
وتدعم إستراتيجية برشلونة الجديدة، حتى سنة 2020، أن يفهم السكان أن السياحة “جزء متأصل ومكون” من المدينة، وليس ظاهرة غريبة. وفي هذا الإطار، قال فونت “لا يجب أن يعتبر السياح لاعبين سلبيين … بل سيصبحون زوارا يتمتعون بالحقوق والواجبات”. عموما، لكل شخص دور يضطلع به للسعي لتغيير هذا المنظور السائد، من السياح والمدن والمقيمين والمشغلين، وذلك لتحقيق الاستفادة في صفوفهم جميعا.
وكصبي يعيش في برشلونة، أورد فونت أنه يلاحظ أن الزوار يثقلون أعباء مدينته، حيث يشربون في أوقات غير مناسبة من اليوم، ويرتدون سمبريرو ويبذلون قصارى جهدهم للتحدث باللغة الإسبانية، ومحاولة إعداد الأطباق المحلية (“بدلا من طلب السجق والهريس”). كما أفاد فونت أن السكان المحليين كانوا أكثر تقبلا للزوار. وأضاف فونت قائلا، “نشعر بالاستياء كثيرا، عندما يرتدي السياح الثياب بشكل مختلف عنا، ويأكلون بشكل مختلف، وينشطون في أوقات مختلفة من اليوم، ، وقد تنتابنا مشاعر أكثر من ذلك بكثير”.
المصدر: الغارديان