تنقسم القوى الدولية بطبيعتها الجغرافية بين قوى برية وأخرى بحرية، فقوى البحر أكثر حظًا وقدرة على الاستثمار في نظرية الإمكان للعب دور قيادي في محيطها الإقليمي والبيئة السياسية العالمية كالمملكة المتحدة أو الولايات المتحدة الأمريكية، وتكسب من واجهاتها البحرية أوراق قوة تمكنها من مواجهة أي حصار ممكن أن تتعرض له من خلال توظيف موانيها بأكبر طاقة ممكنة، وتساعدها واجهاتها البحرية في تصدير مواردها وتحريك تجارتها عبر المضائق البحرية، إضافة إلى استطاعتها التحكم بحركة التجارة في الحرب والسلم.
أما الأقاليم المعزولة عن البحار تبقى في دائرة العوز والحاجة للجهة التي تصدر عبرها قوافلها التجارية البحرية، وتتجنب الدول البعيدة عن البحار الدخول في منازعات مع محيطها إن كانت غير قادرة على المواجهة أو لا تمتلك البدائل، فلو تخيلنا قليلاً أن شبه الجزيرة العربية الغنية بالثروة النفطية معزولة عن البحار ويفصلها دول غير صديقة عنه، هل سيكون حالها وأهميتها كما هي الآن؟
روسيا الدولة التي تمتلك ترسانة عسكرية لا يستهان بها، الواسعة في جغرافيتها والتي تدفئ الحضن الأوروبي بغازها، تعاني من ضيق في التنفس لبعدها عن المياه الدافئة ومن الممكن حصارها بحريًا بشكل كامل إن قرر خصومها فعل ذلك، فواجهاتها البحرية ضئيلة بالنسبة لدولة عظمى بحجمها، فيسبب لها صغر واجهاتها البحرية نقطة ضعف في نهوض الجيوبولتيك الروسي من جديد، رغم ما قامت به من السيطرة على شبه جزيرة القرم عام 2014 لكسب واجهة بحرية جديدة، لكن القرم وما تمتلكه روسيا من واجهات بحرية أخرى دافئة لا تطل سوى على البحر الأسود وما عدا ذلك فالمتجمد الشمالي، ثم تحركت روسيا بعيدًا نحو حوض شرق البحر المتوسط وبنت لها قواعد على الساحل السوري.
الوثيقة الجديدة التي أقرتها موسكو مؤخرًا تعتبر الطموح الأمريكي للسيطرة على المياه الدولية تهديدًا يمس أمنها القومي
وبما أن روسيا تشكل العدو اللدود للمنظومة الغربية والتي تسعى إلى محاصرتها من خلال احتواء دول البلطيق المحاذية لروسيا جغرافيًا في الاتحاد الأوروبي، والتي كانت تعتبر جزءًا من الطموح الجيوسياسي الروسي على المدى البعيد وستمكنها من امتلاك واجهات بحرية أخرى لحظة السيطرة عليها، فضلاً عن أهميتها في حماية العمق الجغرافي الروسي من توسع حلف شمال الأطلسي على حدودها، وتتبنى القوى الغربية أسلوب شد الخناق على روسيا عبر ضم أعضاء جدد للناتو يشكلون حدائق خلفية لروسيا كدولة جبل الأسود في البلقان.
والأهم من ذلك اعتقاد الولايات المتحدة الأمريكية بنظرية نيكولاس سبيكمان للسيطرة على العالم كإحدى نظرياتها لفرض سلطانها على القوى الدولية إلى جانب إحكام قبضتها على منظمة الأمم المتحدة، وتقسم نظرية سبيكمان الجزيرة العالمية والتي تمثل أوراسيا أي آسيا وأوروبا إلى قسمين، منطقة الهلال ومنطق القلب، وتقول النظرية إن من يتحكم بمنطقة الهلال يحكم الجزيرة العالمية ومن يحكم الجزيرة يحكم العالم وفي الوقت نفسه يحاصر منطقة القلب والتي تمثلها روسيا، وقررت أمريكا اعتماد هذه النظرية لتحقق تطلعاتها في إدارة الشؤون الدولية.
وتشكل روسيا الجزء الأكبر من منطقة القلب وبالتالي سخرت الولايات المتحدة الأمريكية أقصى إمكاناتها للسيطرة على منطقة الهلال والتي تشكل القارة الأوروبية حدودها مع روسيا، وقد بنت أمريكا قواعدها العسكرية في المنطقة ووضعت قنابل نووية لها في بعض الدول الأوروبية منذ فترة الحرب الباردة، وتعمل حاليًا على استكمال مخططها في نشر منظومة الدرع الصاروخي الأمريكي في أوروبا.
تشكل الوثيقة هذه رسالة تهديد للولايات المتحدة الأمريكية أكثر من كونها قرارات قابلة للتنفيذ، لا سيما فيما يتعلق باستخدم السلاح النووي لقناعة روسيا بالآثار السلبية لاستخدامها هذا السلاح
الوثيقة الجديدة التي أقرتها موسكو مؤخرًا تعتبر الطموح الأمريكي للسيطرة على المياه الدولية تهديدًا يمس أمنها القومي، لافتة انتباه روسيا لطموح أمريكا وحلفائها كما قالت الوثيقة للهيمنة على بحار العالم محيطاته، وبالتالي تكبيل اليد الروسية في المياه الدولية من خلال حرمان أساطيلها من طرق الملاحة البحرية الحيوية، وعبرت الوثيقة عن إدراك موسكو خطورة التفوق العسكري البحري عددًا وعدةً على السلاح الروسي.
هذه المخاطر التي تواجهها روسيا دفعتها للتأكيد في وثيقتها الجديدة على قدرتها في استخدام القوات النووية الاستراتيجة البحرية التابعة لها من خلال غواصاتها وبوارجها البحرية، كما دعت الوثيقة إلى ضرورة تطوير وتزويد الأسطول الروسي بأحدث السفن والمنظومات البحرية لا سيما الصواريخ المجنحة.
تشكل الوثيقة هذه رسالة تهديد للولايات المتحدة الأمريكية أكثر من كونها قرارات قابلة للتنفيذ لا سيما فيما يتعلق باستخدم السلاح النووي لقناعة روسيا بالآثار السلبية لاستخدامها هذا السلاح، فالقوة البحرية الأمريكية ما زالت متفوقة على نظيرتها الروسية، فأمريكا تمتلك 13 أسطولاً بحريًا يجوبون البحار والمحياطات وكل أسطول يتشكل من حاملة طائرات وغواصات وسفن هجوم برمائية وسفن لصواريخ كروز الموجهة عن بعد والفرقاطات التي تتولى مهمات الحماية، إضافة إلى المدمرات التي تحمل الطوربيدات لعمليات تدمير السفن.
لكن تظهر روسيا من خلال الوثيقة استعدادها لمنع حصارها البحري، وفرصة لتسويق أسلحتها البحرية للمستوردين خاصة في ظل النزاع على الموارد في أعماق البحار والمحيطات.