برزت حركات التحرر الوطني في بلاد المغرب، واختلفت أساليب نضالها السياسية والعسكرية، لكنها تشابهت بمسار المقاومة المنظمة التي تتبع قائدًا معينًا وتسير خلف خطاباته وقواعده، وهو ما كان غريبًا عن مصر التي لم تلتزم بمفهوم التحرر بصورته المعهودة آنذاك، حيث التزمت بالمقاومة الشعبية التي قادتها مجهودات ومبادرات فردية من طلبة الجامعات أو عمال النقابات، وتحديدًا ضد الأنظمة الملكية والاحتلال الإنجليزي.
الثورة العرابية
بدأت الثورة العرابية بقيادة أحمد عرابي باشا قبل دخول بريطانيا مصر بـ3 سنوات (1879-1882)، ضدّ الخديوي توفيق والتدخل الأجنبي في مصر، فطالبت بتغيير الحكومة وإنشاء برلمان وتعزيز الجيش المصري وفرض مبدأ المساواة داخله.
ارتفع شأن القائد العسكري والزعيم المصري عرابي باشا كزعيم وطني مناهض للنفوذ الأجنبي بعد أن وافق الخديوي على مطالبه، لكن الدسائس والخيانات كانت أكبر، فانتشرت الفوضى والفتن بين أفراد الجيش وداخل المجتمع المصري، الأمر الذي استغله الإنجليز لاحتلال البلاد، وكانت البداية من الإسكندرية.
ضرب الانجليز الإسكندرية ودمروا قلاعها وأجزاء من أحيائها واضطر الكثير من الأهالي للهروب، فتحرك أحمد عرابي بقواته إلى كفر الدوار، لإعادة تنظيم جيشه تمهيدًا لبدء الثورة، خاصة أن الخديوي استقبل المحتل البريطاني في قصره.
اتهم عرابي الخديوي بالانحياز للبريطانيين وحذر من اتباع أوامره، وأرسل إلى يعقوب سامي باشا وكيل نظارة الجهادية، يطلب منه عقد جمعية وطنية للنظر فيما يجب عمله، فاجتمعت الجمعية في يوم 17 يوليو/تموز 1882 وأقرت استمرار الاستعدادات الحربية، وبعدها بـ5 أيام عُقد اجتماع آخر أقر خروج الخديوي عن الدين ومساندة عرابي.
جمع أحمد عرابي حوله آلاف الجنود والمقاتلين القادمين من الأرياف والقرى في كفر الدوار وحصل على العتاد للدفاع عن الوطن، وكان ينوي ردم قناة السويس لمنع استعمال البريطانيين لها، لكنه عدل عن ذلك، وانتهت معركة كفر الدوار بنصر كبير لقوات عرابي التي قادها طلبة عصمت، ما دفع الإنجليز للانسحاب من الإسكندرية.
انسحب البريطانيون من الإسكندرية لكنهم أبحروا إلى الإسماعيلية، وفي أثناء تقدمهم حدثت معركة القصاصين التي انتهت بمذبحة في حق الأهالي، وبعدها بشهر تقريبًا شهدت منطقة التل الكبير معركة كبرى بين عرابي والإنجليز مستعينين ببعض الخونة الذين فتحوا لهم الطريق وأخبروهم بمناطق تمركز قوات عرابي، فتم القبض على زعيم الفلاحين وقائد الثورة، ومهدت هذه الهزيمة لاحتلال بريطاني استمر أكثر من 7 عقود.
مقاومة مصطفي كامل
في الوقت الذي كان فيه أحمد عرابي يقود المقاومة الشعبية المسلحة ضد المستعمر البريطاني، ولد مصطفى كامل (1874- 1908) في قرية كتامة الغابة التابعة لمركز بسيون بمحافظة الغربية، وعُرف عنه مبكرا حبُّه للنضال والحرية.
كان شاب على صغر سنه يتمتع بقدرة كبيرة على الخطابة وإقناع الناس، ويؤمن بأن الخطابة يمكن أن تغنيه والمصريين عن حمل السلاح والعمل الفدائي الذي انتهجه زعيم الفلاحين أحمد عرابي.
أراد مصطفى كامل المتحمس لوطنه استنهاض الهمم وتعريف الناس بحقوقهم المشروعة التي يجب أن يناضلوا من أجل الحصول عليها، مستلهمًا التجارب الإنسانية التي عرفها في القارة الأوروبية خلال زياراته المتكررة لعواصمها والدراسة فيها.
أسس مصطفى كامل الحزب الوطني وجريدة اللواء وتصدر المناهضين للاحتلال البريطاني، وعمل من خلال مقالاته وخطابته الفصيحة على فضح جرائم الاستعمار في الداخل والتنديد بها في المحافل الدولية خاصة بعد مذبحة دنشواي التي أدت إلى سقوط اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر.
عمل المحامي كدبلوماسي غير رسمي، إذ التمس من البرلمان الفرنسي في يونيو/حزيران 1895 الضغط على المستعمر البريطاني لمغادرة مصر وطلب من العثمانيين التعاون، لكن خاب ظنه ويأس من الدعم الخارجي، فناشد المصريين للوقوف في وجه المحتل البريطاني.
كما آمن الزعيم مصطفى كامل بأهمية العمل السري إلى جانب العمل العلني في إطار الإعداد لمواجهة الاستعمار الإنجليزي، مستفيدًا من أخطاء ثورة أحمد عرابي، فأسس العديد من المجموعات السرية لأهداف مختلفة.
كان مصطفى كامل يعتبر ما يقوم به داخل البلاد وخارجها واجبًا وطنيًا خالصًا، وأنه لا يجب التفكير في انتفاع أو مصلحة شخصية مقابل خدمة البلاد، ورأى أن التعليم مهم لنهضة البلاد فعمل على تأسيس جامعة مصرية أهلية تجمع أبناء الفقراء والأغنياء على السواء.
ثورة 1919
تحقيق الاستقلال لم يكن أمرًا هينًا، فقد عرفت مصر العديد من المحطات المهمة للوصول لهذا الهدف منها ثورة 1919، ففي 9 مارس/آذار من تلك السنة خرج طلاب جامعة القاهرة – جامعة فؤاد الأول آنذاك – حاملين الشرارة الأولى التي أشعلت ثورة المصريين.
كان السبب الرئيسي لانطلاق الثورة نفي زعيم الحركة الوطنية حينها سعد زغلول و3 من رفاقه إلى مالطا، بسبب عزمهم الذهاب إلى مؤتمر باريس الذي نظّم عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى للمطالبة باستقلال لمصر، وكانت هناك أسباب أخرى منها إعلان الأحكام العرفية ومنع التجمهر والإضرابات وفرض مساهمة مالية على المصريين في تكاليف حرب المحتل البريطاني وتجنيد مئات آلاف الفلاحين بشكل قسري ليشاركوا في الحرب.
انضم طلبة جامعة الأزهر لزملائهم في جامعة القاهرة، وأعلن عمال السكك الحديدية الإضراب وقطع الخطوط، كما أضرب سائقو سيارات الأجرة وعمال البريد والكهرباء والجمارك والورش الحكومية والمطابع، وكذلك القضاة والمحامون.
خطب الأئمة في المساجد وساندهم القساوسة في الكنائس، ليمتد المسار الاحتجاجي إلى جموع المصريين بجميع فئاتهم الطبقية والدينية والنوعية، فحتى النساء شاركن في هذه الثورة للمرة الأولى في التاريخ.
خرج الجميع إلى الشوارع دعمًا لسعد زغلول ورفاقه والمطالبة باستقلال البلاد، ومع تطور الأحداث الثورية استقال وزراء، وكان ردّ الاحتلال الإنجليزي عنيفًا، فأحرق قرى بأكملها واستهدف المتظاهرين بالرصاص وقتل منهم الآلاف.
أصرّ المصريون على الثورة رغم القمع الممارس ضدهم، ما أجبر البريطانيين على الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه الذين عادوا من المنفي، وسمحوا للوفد المصري بالسفر إلى مؤتمر الصلح في باريس، لكن أعضاء المؤتمر لم يستجيبوا لمطالب الوفد باستقلال مصر، فعاد المصريون إلى ثورتهم، فتم نفي سعد زغلول مجددًا.
تواصلت الثورة وانتشرت بين المدن والقرى بمشاركة أغلب المصريين، فأجبرت بريطانيا في 28 فبراير/شباط 1922 على إلغاء الحماية وإعلان مصر دولة مستقلة وصدور أول دستور مصري سنة 1923، لكن لم يكن ذلك إلا حبر على ورق، فبقي البريطانيون في مصر إلى عام 1956.
من المهم التأكيد أن ثورة 1919 كانت عفوية ودون تأطير حزبي، حتى إن حزب الوفد تنكر لها، محذرًا من الآثار التي يمكن أن تترتب عليها، لكنه في الأخير أراد الركوب على نتائجها ومحاولة تبنيها، خدمة لمصالحه.
ثورة 1951
خلال الحرب العالمية الثانية، طلبت بريطانيا من مصر الوقوف إلى جانبها في الحرب مقابل الخروج من أراضيها بعد تحقيق النصر ووحدة مصر والسودان تحت التاج المصري، لكن البريطانيين كعادتهم تنكروا لوعودهم، فأعلن رئيس وزراء مصر آنذاك مصطفى النحاس باشا يوم 8 أكتوبر/تشرين الأول 1951، إلغاء اتفاقية عام 1936 مع بريطانيا من جانب واحد، وكذلك اتفاقيتي السودان لعام 1899.
رفضت السلطات البريطانية الخطوة المصرية وتوقفت عن شراء القطن المصري وجمدت أرصدة للحكومة المصرية في محاولة للضغط عليها، لكن الرد المصري كان أقوى، إذ التف الشعب حول الحكومة وتبنوا خطواتها التصعيدية دون أن يُطلب منهم ذلك.
عرفت مصر في تلك الفترة حلقة جديدة من المقاومة الشعبية، فتوقف الموظفون المصريون عن التعامل مع المعسكرات البريطانية والقواعد في منطقة قناة السويس، وكان عدد الموظفين حينها قرابة 60 ألف عامل، وتم وقف تزويد المعسكرات بالمواد الغذائية، ما أربك هذه المعسكرات وأثر على عملها.
كما امتنع عمال وموظفو السكك الحديدية عن نقل الجنود البريطانيين وإسداء الخدمات لهم وخرج عشرات الآلاف للشوارع تنديدًا بتنكر التاج البريطاني لوعوده، وتزامن العصيان الشعبي مع تجدد العمليات الفدائية بإشراف طلبة الجامعات ضد الجنود البريطانيين في منطقة قناة السويس.
تشكلت في القاهرة كتائب مسلحة جديدة باسم “كتائب التحرير” و”كتائب الفدائيين”، كما أنشئت مراكز للتدريب في الزقازيق ودمنهور، وسرعان ما انضم إليهم ضباط من البوليس المصري وتولى الفريق عزيز المصري الإشراف على تدريب الكتائب.
استنفر الفدائيون لبذل الدماء في سبيل القضية الوطنية المصرية، مستفيدين من الدعم الجماهيري – ماديًا ومعنويًا – فاستخدموا البنادق والأسلحة الأوتوماتكية لاستهداف الجنود البريطانيين، كما ألقوا القنابل على القطارات الحربية والدوريات والمنشآت والمعسكرات وخطوط المياه والاتصال.
تكونت مجموعات الفدائيين من طلبة الجامعات والفلاحين والعمال والسياسيين والمحامين والصحفيين وشارك معهم بعض رجال الشرطة من البوليس المصري
عوض الاستجابة لمطالب المصريين، عزز البريطانيون وجودهم في منطقة قناة السويس ودفعوا بأعداد إضافية من الجنود، وتصدوا للمتظاهرين بإطلاق النار عليهم وحدثت مجزرة في الإسماعيلية يوم 16 أكتوبر/تشرين الأول 1951، وفي بورسعيد أيضًا، كما لجأوا إلى بث الفتن بين أبناء الشعب الواحد ودفعوا عملائهم لإحراق القاهرة بداية سنة 1952.
تصدى المصريون لخطط البريطانيين ودافعوا عن أرضهم، لكن تلك الفترة سجلت تقاعس الملك والحكومة واهتمامهم بمشاكل القصر والعائلة الحاكمة، فخرجت المظاهرات ضدّهم أيضًا في ديسمبر/كانون الأول 1951.
مجموعات الفدائيين
خلال الاحتلال الإنجليزي برزت العديد من المجموعات الصغيرة التي انتهجت العمل السري والمسلح، ولقّب أعضاؤها بالفدائيين، كان هدفهم الأسمى استقلال البلاد وهذا الهدف لا يتحقق إلا بالضغط على البريطانيين واستهداف قادتهم وجنودهم والمتعاونين معهم.
تكونت مجموعات الفدائيين من طلبة الجامعات والفلاحين والعمال والسياسيين والمحامين والصحفيين وشارك معهم بعض رجال الشرطة في البوليس المصري، ولئن اختلفت وتباينت فئاتهم وتوجهاتهم وأعمارهم فقد جمعهم الهدف الأسمى وهو تحرير البلاد.
أشرفت هذه المجموعات على اغتيالات عديدة في صفوف البريطانيين وعملائه المصريين، مثلًا أشرفت “جمعية التضامن الأخوي” السرية على العديد من الاغتيالات وأولها اغتيال رئيس الوزراء القبطي بطرس غالي في فبراير/شباط 1910 لموافقته على مد امتياز قناة السويس إلى 1999 وتوقيعه على معاهدة انفصال السودان، فيما أشرفت “جمعية اليد السوداء” وهي أحد التنظيمات المسلحة غير النظامية على اغتيال السير لي ستاك سردار الجيش المصري وحاكم السودان في نوفمبر/تشرين الثاني 1924، وتم ذلك في شارع القصر العيني وسط القاهرة.
بين تاريخ أول عملية وآخرها، عرفت مصر عمليتا اغتيال لمسؤولين مصريين، وحدثت 14 محاولة اغتيال من بينها محاولة اغتيال السلطان حسين كامل سنة 1915، بينما جرت 12 عملية اغتيال و21 محاولة اغتيال لمسؤولين بريطانيين.
بداية سنة 1937، عرفت مصر المرحلة الثانية من عمليات الاغتيال السياسي للبريطانيين والمصريين المتعاونين معهم وامتدت إلى سنة 1946، وخلالها اغتيل اثنان من المسؤولين المصريين (اغتيال أمين عثمان باشا وأحمد ماهر باشا)، بينما تعرَّض 3 آخرين لمحاولة اغتيال، فيما تم اغتيال 3 من الجيش البريطاني، فضلًا عن وقوع 4 محاولات اغتيال أخرى.
ساهم هؤلاء الفدائيون الوطنيون في زعزعة سلطات الاحتلال البريطاني والمتعاونين معه رغم قلة إمكاناتهم العسكرية، ومهدوا الطريق أمام أبناء شعبهم للظفر بالاستقلال التام.
مقاومة الشيخ حافظ سلامة
عند الحديث عن المقاومة الشعبية في مصر لا بد من ذكر الشيخ حافظ سلامة الذي برز في أثناء تزعم المقاومة الشعبية بالسويس ضد القوات الإنجليزية وكيان الاحتلال الإسرائيلي، وقبلها كان مستشارًا لشيخ الأزهر لشؤون المعاهد الأزهرية حتى عام 1978.
لعب الشيخ سلامة دورًا كبيرًا في عمليات الدفاع المدني لمساعدة الجرحى والمصابين خلال المعارك التي دارت في السويس بين قوات المحور والحلفاء في أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي ذلك الوقت قرر أغلب أبناء المنطقة الهجرة.
بعد ذلك، شارك الشيخ في النضال الوطني الإسلامي بمصر ضد الاحتلال الإنجليزي نهاية أربعينيات القرن الماضي، وشكّل أول فرقة فدائية في السويس، كانت مهمتها الرئيسية مهاجمة قواعد قوات الاحتلال والاستيلاء على كل ما يمكن الحصول عليه من أسلحة وذخائر، قبل إرسالها إلى المقاومين في فلسطين.
كان للشيخ سلامة دور كبير في التحضير لحرب 1973، إذ شارك في تنظيم قوافل توعية دينية للضباط والجنود المصريين على الجبهة تركّز على فضل الجهاد والاستشهاد والأهمية الدينية للحرب ضد الكيان الصهيوني.
لم يقتصر دور الشيخ على التوعية فقط، وإنما شارك في العمليات العسكرية أيضًا، ففي 22 أكتوبر/تشرين الأول 1973، تزعم عمليات المقاومة الشعبية في مدينة السويس التي تعرضت حينها لحصار شديد من القوات الإسرائيلية وقصف مستمر من الطائرات والدبابات.
قرر الشيخ سلامة ومن معه عدم الاستسلام والصمود أمام الحصار المفروض على مدينة السويس في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، وقد نجح وقوات المقاومة الشعبية التي يقودها بالتعاون مع عناصر من القوات المسلحة في صد هجمات الكيان الإسرائيلي وإفشال خططه.
جدير بالذكر أن مصر لم تعرف المقاومة الشعبية زمن الاحتلال البريطاني فقط، وإنما قبله أيضًا، ولنا أن نذكر المقاومة التي قادها عمر مكرم ضد الحاكمين المملوكين: إبراهيم بك ومراد بك سنة 1795، ثم ضد الفرنسيين سنة 1800 وضد الإنجليز سنة 1807.
بالمحصلة، عرفت مصر محطات مهمة للوصول إلى الاستقلال الكامل وجلاء الجنود البريطانيين والإسرائيليين والفرنسيين عن أراضيها، حيث تصاعدت المقاومة الشعبية في العديد من الفترات رغم خذلان القصر لها ومحاولة بعض الفئات والشخصيات البرجوازية وضع حدّ لها للاستفادة من الأمر الواقع.